في الاول من شهر ذي القعدة سنة 173 للهجرة
هي السيّدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السّلام، سليلة الدوحة النبويّة المطهّرة، وغصن يافع من أغصان الشجرة العلوية المباركة، وحفيدة الصدّيقة الزهراء عليها السّلام، المحدِّثة، العالمة، العابدة. اختصّتها يد العناية الإلهيّة فمنّت عليها بأن جعلتها من ذريّة أهل البيت المطهّرين. حدّثت عن آبائها الطاهرين عليهم السّلام، وحدّث عنها جماعة من أرباب العلم والحديث، وقد ورد في بعض التواريخ أنّ الإمام الرضا عليه السّلام لقّبها بالمعصومة
أبوها عليه السلام
أجلّ ولْد الإمام الصادق عليه السّلام قدراً، وأعظمهم محلاًّ وأبعدهم في الناس صيتاً؛ لم يُرَ في زمانه أسخى منه ولا أكرم نفساً وعِشرة؛ وكان أعبد أهل زمانه وأورعهم وأجلّهم وأفقههم
كنيته أبو الحسن، وهو أبو الحسن الأوّل، ويُعرف بالعبد الصالح ، والكاظم وقد نصّ على إمامته الإمام الصادق عليه السّلام في حياته، وأوصى شيعته به من بعده
ولد بالأبواء (موضع بين مكّة والمدينة) يوم الأحد السابع من شهر صفر سنة 124هـ، فأولَمَ الامام الصادق عليه السّلام بعد ولادته وأطعم الناس ثلاثاً
وقبض ببغداد شهيداً بالسمّ في حبس الرشيد، على يد السِّندي بن شاهك يوم الجمعة من رجب سنة 183هـ على المشهور، وعمره يوم ذاك 55 سنة. قام منها مع أبيه 20 سنة، وبعد أبيه 35 سنة، وهي مدّة
خلافته وإمامته
عاصر الإمام الكاظم عليه السّلام قسماً من حكم المنصور، ثمّ ابنه محمّد المهديّ ـ وقد حكم عشر سنين وشهراً وأيّاماً، ثمّ مُلك موسى الهادي فحكم سنة و15 يوماً، ثمّ ملك هارون الرشيد بن محمّد المهديّ.
واستشهد الامام الكاظم عليه السّلام بعد مضيّ 15 سنة من مُلك هارون، ودُفن ببغداد في الجانب الغربيّ، في المقبرة المعروفة بمقابر قريش مدينة الكاظميّة حاليّاً، فصار يُعرف بعد شهادته بـ باب الحوائج.
أمّها عليها السلام
أمّ ولد يُقال لها سَكَن النُّوبيّة، وقيل: نجمة؛ وكُنيتها أمّ البنين؛ سُمّيت بالطاهرة بعد ولادة الإمام الرضا عليه السّلام؛ فالسيّدة المعصومة أخت الرضا عليه السّلام لأمّه وأبيه
أخوها الإمام الرضا عليه السّلام
خلّف الإمام الكاظم عليه السّلام بعد استشهاده أولاداً كثيرين ذاعت فضائلهم ومناقبهم في الخافقين، وكان الإمام الرضا عليه السّلام مشهوراً بالتقدّم ونباهة القدر وعظم الشأن وجلالة المقام بين الخاصّ والعامّ
سُمّي عليه السّلام بالرضا لأنّه كان رضى لله عزّوجلّ في سمائه، ورضى لرسوله والأئمّة عليهم السّلام بعده في أرضه. وقيل: لأنّه رضي به المخالفون من أعدائه، كما رضي به الموافقون من أوليائه
أحاديث في فضل السيدة المعصومة(ع)
روى القاضي نور الله عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ان لله حرماً وهو مكة، ألا إنّ لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا وان لأمير المؤمينن (عليه السلام) حرماً وهو الكوفة، ألا وان قم الكوفة الصغيرة، ألا ان للجنة ثمانية ابواب ثلاثة منها الى قم تُقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى (عليها السلام) وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة باجمعهم.
عن سعد عن الرضا (عليه السلام) قال: يا سعد من زارها فله الجنة.
في كتاب ثواب الاعمال وعيون اخبار الرضا (عليه السلام): عن سعد بن سعد قال: سألت ابا الحسن الرضا (عليه السلام) عن فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام) فقال: من زارها فله الجنة.
وفي كامل الزيارة: عن ابن الرضا (عليهما السلام) قال: من زار قبر عمتي بقم فله الجنة.
وعن الامام الصادق (عليه السلام): من زارها عارفاً بحقها فله الجنة.
وعن الامام الصادق (عليه السلام): «الا انّ حرمي وحرم ولدي بعدي قم».
وقال الامام الجواد (عليه السلام): «من زار عمتي بقم فله الجنة».
لقد كانت السيدة المعصومة عالمةً بحوادث زمانها، ومحدّثة، ومعلّمه قديرة. وكانت مشغولة بتعليم اصول الدين الاسلامي.
من احاديث السيدة المعصومة (ع)
في عوالم العلوم 21/353 نقلاً عن اسنى المطالب ص 49 ـ ص 51، يروي حدثتني فاطمة وزينب وام كلثوم بنات موسى بن جعفر، قُلن... عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورضي الله عنها قالت: «أنسيتم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله (صلى الله عليه وآله) : أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟!» .
وعن فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليه السلام) ... عن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ألا من مات على حب آل محمد مات شهيداً».
حياتها العلمية والجهادية عليها السلام
كانت السيدة المعصومة تستفيد كل يوم من والدها وأخيها المعصومين (عليهما السلام) وامها التقية العالمة بحيث وصلت إلى مقام رفيع من العلم والفضيلة وصارت عارفة بالكثير من العلوم والمسائل الإسلامية في أيام صباها.
وفي أحد تلك الأيام أتى جمع من الشيعة إلى المدينة لكي يعرضوا بعض أسئلتهم الدينية على الإمام الكاظم(ع) ويأخذوا العلم من معدنه، ولكن كان الإمام الكاظم وكذلك الإمام الرضا (ع) مسافرين، ولم يكونا حاضرين في المدينة. فاغتم الجمع، لأنهم لم يجدوا حجة الله ومن يقدر على جواب مسائلهم، واضطروا للتفكير بالرجوع إلى بلدهم. وعندما رأت السيدة المعصومة(ع) حزن هؤلاء النفر أخذت منهم أسئلتهم التي كانت مكتوبة، وأجابت عليها، وعندئذ تبدل حزن الجماعة بفرح شديد ورجعوا ـ مع ظفرهم بجواب مسائلهم ـ إلى ديارهم راجحين مفلحين. ولكنهم في الطريق وفي خارج المدينة التقوا بالإمام الكاظم(ع) وحدثوه بما جرى عليهم. وبعد ما رآى الإمام جواب ابنته على تلك المسائل أثنى على بنته بعبارة مختصرة قائلا: «فداها أبوها».
بداية المحنة وشهادة الإمام الكاظم(ع)..
كان حكام ذلك الزمان يؤذون أبناء النبي(ص) كثيرا. وخاصة الإمام الكاظم(ع)، فإنه عليه السلام لاقى من خلفاء الجور الكثير من المآسي والآلام، وهذه الآلام والمحن كانت تؤلم القلب الطاهر للسيدة المعصومة (ع)، وكان المسلي الوحيد لها وللعائلة هو أخوها المفدى الإمام الرضا(ع).
صادفت أيام حياة الإمام الكاظم عليه السلام عهد خمسة من حكام العباسيين الظلمة، وهم : أبو العباس السفاح والمنصور الدوانيقي والهادي والمهدي وهارون. وكل واحد من هؤلاء الطواغيت أذاق الإمام عليه السلام وسائر العلويين المتقين أنواع العذاب والتنكيل.
عندما ولدت السيدة المعصومة (ع) كانت قد مضت ثلاث سنوات من خلافة هارون العباسي الذي كان له قصب السبق في ميدان الظلم و البطش و نهب أموال المسلمين. وكان تابعا للهوى معجبا بالدنيا.
ولم يتيسر للإمام الكاظم(ع) السكوت على ظلم هارون وخيانته للإسلام والامة الإسلامية لقول رسول الله(ص): «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله»، وأخذ الإمام(ع) ينهى عن المنكر، و قام في وجه سياسة هارون الماحقة للدين.
وهارون ـ لعلمه بتشدد آل علي(ع) وخاصة الإمام الكاظم(ع) في مقاومة الطواغيت والإستنكار عليهم ـ استنفد كل الوسائل لإخماد صوتهم وأنفق الكثير من أموال المسلمين على الشعراء لكي ينتقصوا منهم. وكان يسجن العلويين أو يبعدهم ويقتل بعضا منهم بعد التعذيب الكثير في السجن.
وبعد ما استحكمت حكومته الظالمة على البلاد الإسلامية أمر بإعتقال الإمام الكاظم(ع) وسجنه. و ومن هنا حُرمت السيدة المعصومة(ع) من والدها والإستفادة من معينه الصافي وذلك في أواخر حياته الشريفة، وشعرت بالحزن الشديد على فقده.
وكان عمر السيدة المعصومة حينذاك أقل من عشر سنوات، وكانت تحترق لفراق أبيها وتطيل البكاء عليه.
وكذلك كان يصعب على الإمام الكاظم(ع) فراق أولاده البررة كالإمام الرضا(ع) والسيدة المعصومة، فصبر جميل.
كان الإمام الكاظم(ع) قد بدل ظلمة السجن نورا بذكر الله، وبدل تلك الأيام الصعبة بالسبحات الطويلة إلى أجمل الأيام. ولكن قلبه كان يخفق في السجن عندما يتذكر ابنته المعصومة ويشتاق إلى لقائها.
وفي السنتين الأخيرتين من حياة الإمام الكاظم عليه السلام كان ينقل من سجن إلى سجن. بقي عليه السلام في سجن عيسى بن جعفر والي البصرة سنة، وقد أثّرت صفاته الحميدة في حارس السجن بحيث اعتزل الحارس من حراسة السجن. بعد ذلك حمل الإمام عليه السلام بأمر هارون إلى بغداد وسجن عند الفضل بن الربيع ثم عند الفضل بن عيسى. وأخيرا نقل إلى سجن السندي بن شاهك.
وسبب التنقل بين هذه السجون هو أن هارون كان يأمر صاحب السجن بقتل الإمام عليه السلام، لكن لم يقدم بل ولم يقدر أحد من هؤلاء على هذا العمل الشنيع وأبى كل منهم عنه. إلى أن سمه السندي بن شاهك بأمر من هارون.
كان هارون يعرف أن الناس إذا علموا بقتل الإمام عليه السلام على يديه ستكون له عواقب خطيرة. فبدا له مكر بأن يأتي بجماعة من الشيعة قبل استشهاد الإمام عليه السلام، لكي يشهدوا أن الإمام عليه السلام مريض و يجوز أن يتوفى بمرضه ولا يكون موته مستندا بقتله من أحد.
لكن يقظة الإمام ومعرفته بعواقب الامور قد فضحت هارون، فإنه عليه السلام مع شدة تأثير السم في بدنه الشريف قال لمن حوله: «لقد سمني هذا الرجل بتسع تمرات وسيخضر بدني غدا وسأقضي بعد غد».
و أخيرا بعد يومين من كلام الإمام عليه السلام في الخامس و العشرين من شهر رجب سنة 183 ه.ق. قضى الإمام الكاظم عليه السلام نحبه مسموما مستشهدا، و لحق إمام آخر من أئمة الشيعة بآبائه الطاهرين.
وعندما سمعت الشيعة خبر استشهاد إمامهم الكاظم عليه السلام لبسوا ثوب الحزن وبعيون عبرى نصبوا مآتم العزاء، فإنهم فقدوا قائدهم الذي عشقوه بكل وجودهم ولا شيء يمكن أن يسكن افئدتهم الحزينة. ومن بينهم من لا يسكن عبرته وهو السيدة المعصومة وكانت في حداثة سنها وقد أوجعها خبر استشهاد أبيها عليه السلام. حيث انتظرت سنين لعل أباها العزيز يرجع يوما ويعتنقها، ولكنها الآن لا بد أن تتصبر على مصيبة فقدانه وتتجرع الحزن والآلام.
سفر الامام الرضا (ع) إلى مرو(خراسان)
بعد استشهاد الإمام الكاظم(ع) انتقلت الإمامة إلى ابنه على بن موسى الرضا عليه السلام الذي كان في الخامسة والثلاثين من عمره الشريف. وكان عليه السلام بالإضافة إلى إمامته الإلهية وهداية الامة الإسلامية الوصي الوحيد لأبيه الكاظم (ع) الذي يتولى مسئولية أبناء الإمام الكاظم عليه السلام إخوانه وأخواته.
وبالرغم من استمرار ضغط حكومة هارون كان الإمام الرضا(ع) مشغولا بمهمته الإلهية من دون أي خوف ورهبة، ولم يتوان لحظة عن نشر الحق والهدى. مع كل ذلك لم تكن الظروف تسمح لهارون بالتعرض للإمام (ع) أو إظهار العداوة له.
ثم في سنة 193 هـ.ق. مرض هارون ومات بمرضه، وتخلص المسلمون من شر واحد من السفاكين . وبعد هارون ارتقى «الأمين» منصة الخلافة ولم تدم خلافته أكثر من أربع سنوات، حيث وقعت أحداث دامية بين «الأمين» وأخيه «المأمون» على منصب الخلافة، وأخيرا في سنة 198 هـ.ق. قتل الأمين بيد أخيه وتسنم المأمون منصب الخلافة.
اغتنم الإمام الرضا عليه السلام فرصة اشتغال الحكام بالحروب واستطاع من دون أي مزاحم تربية أتباعه وتعليمهم.
في هذه المدة لم يتفرغ العباسيون من جهة النزاع في الحكومة لإيذاء الإمام عليه السلام وشيعته. وبعد ما استقام أمر الحكومة للمأمون قام بتقوية أركان حكمه بالحيلة والإغراء ، ومن مكره وخدعته لعامة الناس جمع العلماء حوله وأسس مجالس علمية وحاول أن يظهر نفسه بأنه حاكم خبير ومحب للعلم وأهله. ومن جهة أخرى ولأجل جلب حماية الشيعة كان يظهر حبه لأمير المؤمنين علي عليه السلام ويلعن معاوية.
ونظرا لإتساع رقعة البلاد الإسلامية ووجود المخالفين في أطرافها كان المأمون ـ لحفظ إمارته ـ مضطرا ومحتاجا إلى جلب حماية الشيعة وإلا فلو انضم الشيعة إلى صفوف المعارضين فإن الأمر سيصعب عليه، ولهذا ولكي يخدع العلويين والشيعة عزم على انتخاب الإمام الرضا عليه السلام لولاية عهده.
ولو قبل الإمام عليه السلام ولاية العهد فلا شك أن الشيعة سيكفوا عن مخالفة الدولة التي إمامهم ولي عهد فيها. ومن هنا تبادلت رسائل كثيرة بين المأمون والإمام الرضا (ع)، والإمام كان يرفض ولاية العهد ويمتنع عن قبولها. لكن الخليفة يصر عليها.
الرسائل المتوالية لم تثمر شيئا، والإمام(ع) من خلال موقفه الواعي أحبط مؤامرة الخليفة الشيطانية وذهبت محاولاته إدراج الرياح، وصرح عليه السلام في رسائله برفض طلب المأمون .
لكن المأمون لم يكف و لتحقيق هدفه أرسل «رجاء بن أبىالضحاك» إلى المدينة وذلك سنة 200 هـ.ق. لكي يشخص بالإمام عليه السلام من المدينة إلى «مرو» التي كانت مركز حكومته، والمأمون كان يأمل أنه يستطيع أن يحصل على موافقة الإمام عليه السلام لقبول ولاية العهد . وبعد إجبار الإمام وإكراهه على الخروج من المدينة، قام إلى زيارة قبر جده(ص) والأئمة الأربعة في البقيع(ع)، ثم ودع أولاده وإخوانه وأخواته ومنهن أخته الكريمة السيدة فاطمة المعصومة(ع)، وغادر متجها إلى مرو.
وبلوعة وحزن شديد ودع الإمام عليه السلام من قبل عائلته وأقربائه، ورجعوا إلى بيوتهم مهمومين مغمومين، لأنهم فقدوا أعز ملجأ لهم.
ومع مغادرة الإمام الرضا عليه السلام انتهت اللحظات السعيدة في حياة السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، فإنها بعد استشهاد أبيها الإمام الكاظم(ع) وجدت الرحمة والحنان في كنف أخيها الرضا(ع) والآن وقد سافر مضطرا.
كان المأمون قد خطط أن لا يكون مسير الإمام من المدن التي يسكنها الشيعة خصوصا الكوفة وقم. لانه كان يخشى أن يؤدى حضور الإمام عليه السلام إلى ثورة الناس واستنهاضهم وتمردهم على عمال المأمون، بحيث يفلت زمام الامور من السلطة.
فالتاريخ المشرق للكوفة وقم يشهد بحب وولاء أهلهما لآل بيت الرسول(ع)، وهذا معلوم للخليفة كالشمس فى رابعة النهار، لذلك كان يمانع من مرور الإمام الرضا(ع) بتلك المدن الشيعية.
وبالرغم من تدبير المأمون فإن المسلمين في بقية المدن الواقعة في مسير حركة الإمام عليه السلام استقبلوا ابن النبي الأكرم(ص) بحفاوة لا مثيل لها، وحال دخول مدنهم كانوا ينهلون من غزارة علمه(ع). وفي بعض المدن الايرانية استقبل الناس ابن رسول الله(ص) بما لا مثيل ولا نظير له في التاريخ، فكان يأتي جميع أهل المدينة ويحيطون براحلة الإمام وأخذوا يستفيدون من وجوده الشريف.
وفي نيسابور أحد تلك المدن، فإن أهلها عندما شعروا بوصول الإمام عليه السلام إلى قرب ديارهم خرجوا من البيوت وأحاطوا بقافلته، واجتمعوا حول محمله كي يتعلموا العلم من معدنه، وقالوا: «يابن رسول الله نريد أن نأخذ من علمك ونسمع كلامك» فاستجاب عليه السلام طلبهم وذكر لهم حديث سلسلة الذهب وهو ما رواه عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن النبى (ص) أنه قال: «إن الله سبحانه و تعالى يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي». وبعد أن تقدم مركب الإمام خطوات أخرج الإمام(ع) رأسه الشريف من المحمل و قال: «بشروطها، وأنا من شروطها». يقصد الإمام عليه السلام أن قول لا إله إلا الله خاصة لا يكفي لدخول الجنة، بل القائل لا بد وأن يعتقد بإمامة الأئمة الحق ومنهم الإمام الرضا(ع). أو يريد الإمام (ع) أنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى حقيقة التوحيد إلا من طريق أهل البيت(ع)، وهذا هو الطريق الوحيد لمعرفة الله جل جلاله.
وبعد ذلك السفر الطويل وصل الإمام(ع) إلى مرو. وعند الوصول استقبل المأمون للإمام الرضا وأصر عليه بقبول ولاية العهد. لكن الإمام (ع) كان مقيما على رأيه مظهرا عدم قبوله لها. فاستمر النزاع بين الإمام والخليفة حول مسألة ولاية العهد لمدة شهرين، وفي النهاية اجبر الإمام بسبب تهديدات المأمون على القبول، وفي السابع من شهر رمضان المبارك سنة 201 هـ.ق. مع حزن عميق وقلب كئيب قبل ولاية العهد، لكنه شرط أن لا يتدخل في أي قرار من قرارات السلطة. والمأمون قبل منه الشرط.
حركة السيدة المعصومة (ع) من المدينة إلى مرو
مضت سنة على سفر الإمام الرضا(ع) إلى مرو، وأهل بيت النبى(ص) في المدينة حرموا من عزيزهم الذي كانوا يستشعرون الرحمة واليمن بجواره، ولم يكن يسكن رويهم شيء سوى رؤيتهم للإمام المعصوم(ع).
والسيدة فاطمة المعصومة(ع) كبقية إخوتها وأخواتها قل صبرها وكانت كل يوم تجزع لفراق أخيها الامام الرضا(ع).
في هذه الأيام كتب الإمام عليه السلام رسالة مخاطبا أخته السيدة المعصومة(ع)، وأرسل الرسالة بيد أحد خدامه إلى المدينة المنورة، وأمره أن لا يتوقف وسط الطريق كي يوصل الكتاب إلى المدينة المنورة بأقصر زمان ممكن، وكذلك فإنه (ع) دل الرسول على منزل أبيه حيث تسكن أخته المعصومة لكي لا يسأل من شخص آخر عن منزل الإمام الكاظم عليه السلام.
وصل مبعوث الإمام إلى المدينة المنورة وامتثالا لأمر الإمام(ع) سلم الكتاب إلى السيدة المعصومة. وعلى الرغم من أننا لا نعرف شيئا من محتوى ذلك الكتاب، لكنه مهما كان فقد أشعل نار الشوق في أهله وأقربائه. ومن هنا قررت السيدة المعصومة وبعض إخوة الإمام وأبناء إخوته أن يتحركوا نحو مرو ليلتحقوا بالإمام(ع).
وبسرعة جهزت عدة السفر وتهيأ القافلة للسير وبعد أخذ الماء والمتاع خرجوا من المدينة قاصدين مرو.
كان في هذه القافلة السيدة فاطمة المعصومة ويرافقها خمسة من إخوتها، هم: فضل، جعفر، هادى، قاسم وزيد. ومعهم بعض أبناء إخوة السيدة المعصومة وعدة من العبيد والجوارى .
تحركت قافلة عشاق الإمام الرضا(ع)، وبغير المنازل الضرورية للصلاة والغذاء والإستراحة لم تتوقف لحظة عن المسير، مخلفة هضاب الحجاز وصحاريه وراءها مبتعدة يوما فيوما عن مدينة الرسول(ص).
السفر في صحاري الحجاز كان صعبا للغاية حتى أن الإبل أحيانا تستسلم للعجز وتتقاعس عن المسير، فكيف بالمسافرين الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى مرو. لكن نور الأمل ولقاء الإمام كان يشرق في قلوب أهل القافلة ويحثهم على إدامة السير وسط رمال وأعاصير الصحراء.
في تلك الأيام، كان خطر اللصوص وقطاع الطريق يهدد كل مسافر، ويخلق له مشاكل كثيرة . وإذا هجموا على قافلة لا يبقى لأحد أمل في إدامة السفر، وأقل ما يفعلونه نهب الأموال والمجوهرات والدواب. و إلا ففي كثير من الحالات يقتلون أعضاء القافلة لسرقة أموالهم . وهذا الخطر كان يهدد فاطمة المعصومة(ع) ومرافقيها، لكنهم توكلوا على الله تعالى واستمروا بالسير ويوما فيوما كانوا يقتربون من المقصد.
مرت الأيام والليالي وقافلة قاصدي الإمام الرضا(ع) خلفت صحراء الحجاز وراءها ولم يبق لها شيء دون الوصول إلى أرض إيران.
عناء السفر كان يؤذي السيدة المعصومة كثيرا، ومع أن قطع هذا الطريق الوعر كان شاقا على شابة مثلها ولكنها لشدة ولهها وشوقها إلى زيارة أخيها كانت مستعدة لتحمل أضعاف هذا العناء.
كانت السيدة في طريقها دائما تتصور الوجه المشرق للإمام الرضا(ع) وتتذكر الأيام التي قضتها في المدينة، ولأنها ترى أن عينها ستقر برؤيته، فإنها كانت مسرورة جدا.
انتهت المرحلة الصعبة من هذا السفر، وأخيرا وصلت القافلة إلى أراضي إيران، ولا بد أيضا من السفر واجتياز المدن والقرى واحدة بعد اخرى.
القافلة في ساوة
وحينما وصلت القافلة مدينة «ساوة» توجّه بعض أعداء اهل البيت بصحبة بعض جنود الحكومة، واعترضوا طريق القافلة، وحصلت بينهم معركة استشهد على أثرها جميع رجال القافلة تقريباً، وطبقا لرواية فان السيدة معصومة أيضاً سُقيت السم. وعلى كل حال فقد مرضت السيدة فاطمة، اما بسبب حزنها الشديد أو بسبب تناولها السم، ولم يمكنها مواصلة السير، فتوجهت نحو مدينة قم ـ بعد أن سألت عن المسافة بين «ساوة» وقم ـ وقالت: سمعت أبي يقول: «ان قم مأوى شيعتنا». فخرج أهل قم لاستقبالها وأخذ «موسى بن خزرج» زعيم الاشعريين زمام ناقتها ودخلت قم في 23 ربيع الاول سنة 201 هـ . ثم أناخت الناقة في محل يسمى اليوم «ميدان مير» امام منزل «موسى بن خزرج».
بقيت السيدة فاطمة في قم 17 يوماً كانت مشغولة فيها بالعبادة والدعاء في محل يسمى «بيت النور» ويقع الآن في مدرسة «ستيه». وأخيراً حانت منيّتها في العاشر من ربيع الثاني «أو الثاني عشر منه على قول» قبل أن تحظى برؤية أخيها، فصار الناس في عزاء لفقدها وحملوها الى محل يسمى «باغ بابلان» وهو موضع قبرها حالياً.
وقبل أن ينزلوها في قبرها ظهر فارسان منقّبان من جهة القبلة واقتربا من الجنازة، وبعد الصلاة عليها حملها احدهما وأدخلها القبر وتناولها الآخر الذي كان داخل القبر. وبعد اتمام دفنها ركبا فرسيهما وابتعدا من غير أن يتفوّها بكلمة. ولعلّ هذين الفارسين هما الامام الرضا (عليه السلام)والامام الجواد (عليه السلام)، كما أن الزهراء (عليها السلام)غسّلها أمير المؤمنين (عليه السلام) ومريم (عليها السلام) غسّلها عيسى (عليه السلام).
وبعد دفنها وضع موسى بن خزرج مظلة من الحصير على قبرها الشريف حتى حلّت سنة 256 فبنت السيدة زينب بنت الامام الجواد (عليه السلام) اول قبة على قبر عمتها، وصار ذلك المكان مقصداً للزائرين ومحبّي أهل البيت (عليهم السلام).