قدوم الإمام علي بن أبي طالب (ع) إلى الكوفة واتخاذها مقراً لخلافته (12 / رجب/ السنة 36 هـ)

قيم هذا المقال
(8 صوت)
قدوم الإمام علي بن أبي طالب (ع)  إلى الكوفة واتخاذها مقراً لخلافته (12 / رجب/ السنة 36 هـ)

بعد أن أنهى أمير المؤمنين علي(ع) حرب الجمل، وهدأت الأوضاع في البصرة تحرّك(ع)  نحو الكوفة ليتخذها مقرّاً له بعد أن بعث برسالة أوضح لأهل الكوفة فيها تفاصيل الأحداث([1]).

وكان لاختيار الإمام (ع)  الكوفة عاصمةً جديدةً للدولة الإسلامية أسباباً عديدة منها:

1- توسّع رقعة العالم الإسلامي، ولابد أن تكون العاصمة الإدارية والسياسية للدولة في موقع يُعين الحكومة في التحرك نحو جميع نقاط العالم، وموقع الكوفة استراتيجي إلى حد كبير بالنسبة إلى هذه الجهة.

2- تقع الكوفة في تماس مع ولاية الشام التي يتحصّن فيها معاوية بن أبي سفيان معلناً التمرّد دون باقي أقطار العالم الإسلامي، فيكون وجود الإمام (ع)  في الكوفة ضرورياً لقمع تمرد الشام، وللتهيئة السريعة أمام أي اعتداءٍ محتمل من قبل الشام.

3- إن الثقل الأكبر الذي وقف مع الإمام (ع)  في القضاء على فتنة أصحاب الجمل هم كبار شخصيات العراق ووجهاء الكوفة وجماهيرها، فكان (ع)  يرى فيهم مادةً صالحة لمجتمع إسلامي سليم وقويّ بإمكانه أن يربيهم لينطلق بهم إلى العالم أجمع.

4- إن الظروف السياسية المتوتّرة والناجمة عن مقتل عثمان، وحرب أصحاب الجمل جعلت الإمام يستقر في الكوفة ليعيد الأمن والاستقرار للمنطقة التي يحكمها، وخاصة العراق ويمنع من حدوث انشقاقات محتملة في المجتمع الإسلامي بشكل عام.

وبمناسبة قدوم أمير المؤمنين (ع)  إلى الكوفة نتعرض إلى معطيات حكومته العادلة.

معطيات حكومة الإمام علي(ع)

سيرة الإمام علي(ع)  متعدّدة الأبعاد والجوانب، فمن العسير بمكان الإلمام بها جميعاً غير أننا اخترنا جانباً مهماً، وبعداً عميقاً في شخصيته المباركة ألا وهو معطيات حكومته التي أسسها على أنقاض من سبقه، حيث أنّ الاضطرابات السياسية والاقتصادية عصفت بالمسلمين إلى أن ثاروا على ولاتهم، وبعدها اتجه الناس بكلهم نحو الإمام علي(ع) ، يطالبون إستخلافه ويصرّون على مبايعته إلا أنّ علياً(ع)  كان يرفض لما أيقن - نتيجة لابتعاد الناس و انفصالهم الكبير عن خط الإسلام الحقيقي الأصيل بأنه من الصعب جداً ممارسته الحكم بعد ذلك الفساد والانحراف الكبيرين اللذين عصفا بالأمة الإسلامية، وقد لا يحتمل الناس وخاصة كبار القوم تعديلاته وإصلاحاته التي يرمي إليها، ولا يطيقون عدالته، ولهذا رفض الخلافة عندما عرضت عليه.

عاش الناس مدة خمسة أيام بعد مقتل عثمان فوضى عارمة، وضياعاً كبيراً كان خلالها الناس يراجعون الإمام أفواجا تلو أفواجاً، والإمام يبعد الخلافة عن نفسه، إذ يرى الظروف غير مناسبة لقبولها، وأنّ الحجة لم تتم عليه بهذا الاقتراح، فقال لهم: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغمت والحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإنّ تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً»([2]).

غير أنّ الناس ترابضوا على داره وتكاثروا على مراجعته، وقد وصف(ع)  شغف الناس وإقبالهم وإصرارهم عندما طالبوه بالبيعة في مواضع عديدة من النهج منها: «فتداكوا عليّ تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها حتى ظننت أنهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض ولدي، وقد قلّبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم»([3]).

وقال (ع) : «فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ، ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى لقد وطىء الحسنان، وشقّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم»([4]).

ولولا أن تمّت الحجة على الإمام علي(ع)  لما قبلها، فقد قال (ع) :

«أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»([5]).

هذا الحكم الذي مارسه علي(ع)  على الرغم من قصر عمره إلا أنه كان نموذجاً كاملاً للحكومة الإسلامية التي أشاد صرحها النبي )ص) في المدينة، وعلى الرغم من أنه (ع)  لم يصل إلى كافة أهدافه الاصلاحية التي نادى بها، نتيجة المؤامرات الداخلية التي حيكت ضده إلا أنه استطاع بدون شك أن يطرح نموذجاً ناجحاً للحكومة، وفق تعاليم الإسلام ومعاييره.

وفيما يلي لمحة سريعة للخطوط العريضة والمعطيات العامة لسيرته (ع)  في الحكم:

1- من خلال أقواله الكثيرة في (نهج البلاغة) يؤكد الإمام علي(ع)  أنّ قبوله للخلافة فقط لأجل إجراء العدالة الاجتماعية في المجتمع، ومكافحة الفوارق الطبقية التي تجذّرت في نفوس الناس، نتيجة للحكم السابق، فقد قال (ع) :

«أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا.. ما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها»([6]).

وقال (ع)  عندما رد على المسلمين قطائع عثمان: «والله لو وجدته قد تزوّج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق»([7]).

2- يرى أمير المؤمنين(ع)  أنّ الحكم والمنصب ليس إلا وسيلة يستخدمها الحاكم لخدمة الناس و إحقاق الحق، ودحض الباطل لا أنه غاية لدرّ الأرباح، وقد إلتزم الإمام بهذه الرؤية إلى أبعد الحدود حتى نراه يجتنب عن إعطاء المهام الحساسة كالولاية وبيت المال إلى المتعطّشين للسلطة كطلحة والزبير، ولهذا السبب فقد أجّجوا نائرة الفتن، ورفعوا لواء العصيان ضد الإمام (ع) ، وقال (ع)  لما عاتبه البعض على التسوية بين المسلمين: «أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟! والله ما أَطُورُ به ما سَمَرَ سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً، ولو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله»([8]).

وقال (ع): «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك»([9]).

3- كانت لأمير المؤمنيين(ع)  رؤيا عميقة في زهادة الحاكم وعيشة البساطة والعزوف عن الدنيا ذلك كي لا يؤثر هوى على هداية، وباطلاً على حق، ولا تغرّه الدنيا فيقضم مال الله، ويجعله دولاً ويتخذ من عباد الله خولاً.

لقد كان عزوفه عن الدنيا وزخارفها من أبرز خصائصه الذاتية، وسيرته الحكومية فقد كتب إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها، فقال له:

«ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ثوبين خرقين، ومن طعامه بقرصيه، …. فو الله ما كنزت من دنياكم تبـراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً - أي ثوباً آخر-، ولا حزت من أرضها شبـراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرةٍ، ولهي في عيني أوهى من عفصة مِقرَة … ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوَ أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:

وحسبك داء أن تبيت ببطنة

 

وحولك أكباد تحنُّ إلى القدِّ

أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش»([10]).

4- لم يكن أمير المؤمنين على منوال الزعماء والرؤساء حيث عندهم الغاية تبرر الوسيلة، إذ لم يتوصل إلى أهدافه الإلهية النبيلة بوسائل غير شرعية، ولهذا لم يقرّ معاوية من اليوم الأول لخلافته على ولاية الشام، على الرغم من أنّ البعض اقترح عليه إقراره إلى حين، ثم عزله في وقت أمكن لعلي عزله إلا أنّ علياً(ع)  لم يكن ليداهن الباطل على الحق، ولا يتوسّل به عليه، وقد كتب إلى معاوية بعد ما طلب الأخير إبقاءه على الشام، قال (ع) :

«.. وحاشى لله أن تلي للمسلمين بعدي صدراً أو ورداً، أو أجري لك على أحد منهم عقداً أو عهداً»([11]).

5- كان (ع)  يراعي الأصول والضّوابط في تعامله مع أعدائه ومخالفيه، دون أن يصادر حرياتهم، إلا إذا فعلوا ما يستوجب ذلك، ففي الأشهر الأولى من خلافته همّ طلحة والزبير بالخروج، من المدينة، بعد أن يئسا منه في الحصول على الولاية، وأقبلا على الإمام، وقالا: إنا نريد العمرة. فأذن لهما بالخروج فقال (ع)  لبعض أصحابه: «والله ما أرادا العمرة، ولكنهما أرادا الغدرة»([12]).

يعكس هذا النص التاريخي أنّ الإمام لم يصادر حريتهما قبل أن يرفعا لواء العصيان على الرغم من علمه بما يضمران له.

وأيضاً لمّا خالف الخوارج إمامهم وأميرهم(ع) ، إثر جهلهم وعنادهم، وسوء فهمهم إعتزلوا معسكر الإمام (ع)  حين رجوعهم من صفين، وأقاموا معسكراً في النهروان، فخاطبهم الإمام (ع)  بعد أن كانت مخالفتهم سياسية، ولم تتعدى القيام بعمليات عسكرية بقوله:

«أما أنّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا، لا نمنعكم من مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا»([13]).

وبهذه الطريقة فقد سايرهم الإمام (ع)  من منطلق القوة، إلى أن قاموا بنشر الرعب والخوف والإخلال بالأمن حينها اضطر الإمام إلى استعمال القوة بغية القضاء على فتنتهم.

6- على الرغم من أن الإمام (ع)  كان ينصب عمالاً وولاةً صالحين وكفوئين، إلا أنه كان لا يحرمهم من نصائحه ومواعظه، على الرغم من انشغاله في الحوادث المتكاثرة عليه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، كما كان له عيون على الولاة في مناطقهم ينقلون إليه كل مخالفة ولو جزئية للوالي فسرعان ما يبدأ بالتقريع والتوبيخ والتهديد في بعض الأحيان لقمعها ومعالجتها، راجع قسم الكتب في (نهج البلاغة) ترى ما كتبه لمالك الأشتر، ولمحمد بن أبي بكر، وعثمان بن حنيف، ولزياد بن أبيه، ولغيرهم.

هذه بعض معطيات خلافة الإمام علي(ع)  التي ما عرف المسلمون بعد رسول (ص)  مثلها أبداً وكانت جميع الثورات التي ثارت على الدولتين الأموية والعباسية للوصول إلى حكومة الإمام علي(ع) ، والى عدالته التي تذوّقها المسلمون فترة من الزمن، ثم غابت عنهم شمسها لتقصيرهم وجهلهم.

 

([1]) تاريخ الطبري 5: 579.

([2]) نهج البلاغة: الخطبة 92.

([3]) المصدر السابق: الخطبة: 54

([4]) المصدر السابق خطبة 3.

([5]) المصدر السابق

([6]) المصدر السابق.

([7]) نهج البلاغة: 99.

([8]) نهج البلاغة: خ 126.

([9]) نهج البلاغة: خ 131.

([10]) نهج البلاغة: كتاب 45.

([11]) المصدر السابق: 633، كتاب 65.

([12]) تاريخ اليعقوبي 2: 180.

([13]) تاريخ الأمم والملوك 6: 41 حوادث سنة 37.

قراءة 15175 مرة