نسبه الشريف:
هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي، ابن عم النبي(ص)، وأخو علي(ع)، أمه فاطمة بنت أسد، المرأة التي ربت رسول الله(ص)، والتي كانت أمّاً له بما لهذه الكلمة من معنى، يُكنّى بأبي عبد الله، كما يكنّى بأبي المساكين لرأفته عليهم وإحسانه إليهم كما في (عمدة الطالب)، وروى في (أسد الغابة): أن الذي كنّاه بهذه الكنية رسول الله(ص).
تزوج أسماء بنت عميس وأنجب منها (كما في عمدة الطالب) ثمانية بنين، وهم عبد الله، وعون، ومحمد الأكبر، ومحمد الأصغر، وحميد، وحسين، وعبد الله الأصغر وعبد الله الأكبر، وأمهم أجمع أسماء بنت عميس الخثعمية، وقد قتل محمد الأكبر مع عمه علي(ع) بصفين، وقتل عون ومحمد الأصغر مع ابن عمهما الحسين(ع) يوم الطف وقد ولد جميع أولاده في أرض الحبشة.
إسلامه:
اختلف المؤرّخون في وقت إسلامه، فذهب ابن إسحاق في (سيرته) إلى أنه أسلم جعفر بعد خمسة وعشرين رجلاً، ونقل قولاً: بأن إسلامه كان بعد واحد وثلاثين.
وفي (أسد الغابة) أنه (ع) أسلم بعد إسلام أخيه علي بقليل، ونقل رواية تدلّ على ذلك، وهي: أن أبا طالب رأى النبي(ص) وعلياً يصليان، وعلي عن يمينه، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك، فصلي عن يساره. وكذا عن ابن سعد في كتاب (الطبقات).
وروى الشيخ الصدوق: أن رسول الله(ص) كان يصلي وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب(ع) معه إذ مرّ أبو طالب به، وجعفر معه، فقال: يا بني صل جناح ابن عمك. فلما أحسه رسول الله(ص) تقدمهما، وانصرف أبو طالب مسروراً، فكانت أول جماعة جمعت ذلك اليوم.
وقال الشيخ محمد علي آل عز الدين العاملي في كتابه (تحية القاري لصحيح البخاري): إنّ جعفراً - على التحقيق - ثاني المسلمين، أو المصلين من الرجال.
هجرته إلى الحبشة:
بعدما فشلت قريش في التفاوض مع أبي طالب، ومع النبي(ص) في أمر هذا الدين الجديد، وتكلّلت جهودهم بالخيبة، ولما رأى صناديد مكة تكاثر المنتسبين لهذا الدين، قرروا تعذيب المستضعفين من أصحاب النبي(ص) ليثنوهم عن دينهم، ويردوهم إلى دين آبائهم وأجدادهم، وليكون ذلك مانعاً عن دخول غيرهم في الإسلام، وفعلاً أنزلوا بهم أشدّ أنواع التعذيب، حتى مات بعضهم صبراً، وآخرون قتلاً، ولكن قريش تركت من دخل في الإسلام ممن له عشيرة تمنعه، خوفاً من نشوب حرب طاحنة بين القبائل، ولما رأى النبي(ص) ما نزل بأصحابه، وما هو فيه من المنعة بجوار عشيرته، وعمه أبي طالب، قال للمعذبين: «إني أرى أن تهاجروا إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق».
وتسارع المستضعفون من المسلمين إلى الهجرة، فهاجر ما يقارب السبعين من أصحاب النبي(ص)، وقد أمر(ص) جعفراً أن يهاجر معهم ليكون معلماً لهم ومتكلماً عنهم، ومبلغاً للإسلام في أرض الحبشة، وإلاّ فجعفر ما كان من المعذبين، بل كان ينعم بالمنعة بقومه وأبيه أبي طالب(ع)، ولهذا فيمكننا القول بأن جعفراً(ع) كان أول مبلّغ في الإسلام.
لقد كان اختيار جعفر في محله، فلما علمت قريش بفرار المعذبين بدينهم إلى الحبشة، أرسلت عمرو بن العاص، وبرفقته رجل آخر ليستردّ الهاربين، وكان من دهاء عمرو بن العاص أن هيأ جميع الأجواء التي تؤول إلى إقناع النجاشي ملك الحبشة لتسليم الفارّين، فلقد قدّم لبطارقة الملك وحاشيته ما يحبون من هدايا مكة للوقوف إلى جانبه في إقناع الملك بذلك، كما أنه قدّم هدايا ثمينة للملك لينفذ له رغبته، علاوةً على العلاقة الوطيدة والصداقة العميقة التي تربط الملك بعمرو بن العاص.
ولكن الذي حال دون تحقيق رغبة عمرو وما جاء من أجله، موقف جعفر أمام الملك، وإليك بعض ما جاء في ذلك:
لما دخل جعفر وأصحابه على الملك، وكان عمرو بن العاص قد حدثه عن مفارقتهم دين آبائهم، وعدم دخولهم في دينه، وإنما ابتدعوا ديناً خاصاً مخالفاً لشريعة عيسى وموسى، قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟
فقال جعفر(ع): أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطّع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وكل ما يعرف من السيئات، وأمرنا بالصلاة و(الزكاة والصيام)([1])، والصدقة، وكل ما يعرف من الأخلاق الحسنة. - فعدّد عليه أمور الإسلام - وتلا شيئاً لا يشبهه شيء، فصدقناه وآمنا به واتبعناه، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أُحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، فلمّا قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟
فلما كان يعلم جعفر(ع) أن النجاشي كان من أهل الكتاب، وعلى دين عيسى، اختار له تلاوة قصة مريم من سورة «كهيعص»([2]) فلما أكمل، بكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته، وبكى أساقفته حتى اخضلّت لحاهم، ثم قال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
ثم توجه إلى عمرو بن العاص، وقال له: والله لا أسلمهم إليكم ولا يكادون..
وهكذا وطّد الله أرض الحبشة للمسلمين المهاجرين، بفضل حنكة جعفر ودرايته في التعامل والتخاطب مع ملك الحبشة، وهذا يكشف عن سر اختيار النبي جعفراً ليكون على رأسهم وزعيمهم.
ولم يكتف جعفر بهذا، بل وطد علاقته مع الملك، وأكثر الكلام معه إلى أن دخل هو وابنه في الإسلام، ودخل من أهل الحبشة خلق كثير، وكان مبلّغهم ومعلمهم والداعي لهم جعفر(ع)، ولعلّ هذا هو السر في عدم هجرة جعفر إلى المدينة للالتحاق بالنبي فيها، على الرغم من أن النبي كان بحاجة ماسة إلى شخصية كجعفر(ع).
وعلى أيّ حال بقي جعفر في الحبشة حتى قدم على النبي في خيبر، ففرح بقدومه كثيراً حتى ضمه إلى صدره، وقبّل ما بين وجنتيه، وترافق مع قدوم جعفر عودة علي(ع) من خيبر منتصراً ظافراً، فازداد انبساط النبي(ص) وفرحه، حتى قال: لا أدري بأيّهما أنا أكثر فرحاً بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
وروي أن النبي(ص) عند قدوم جعفر(ع)، قال له: «ألا أحبك، ألا أهديك». فعلّمه الصلاة التي أصبحت بعد ذلك تسمى بصلاة جعفر الطيار، والتي اتفق المسلمون جميعاً على روايتها وعظيم فضلها، وغدت هذه الصلاة المباركة وسيلة التضرع والتقرب للمكروبين والمضطرين إلى ربهم لكشف كربهم وضرهم، وللإطلاع على كيفية إقامة هذه الصلاة عليك بمراجعة كتاب مفاتيح الجنان.
شهادته:
قتل جعفر(ع) شهيداً في غزوة مؤتة، وكانت في السنة الثامنة للهجرة، وقد ذكرنا في مناسبات شهر جمادى الأولى تفصيل هذه المعركة وأسبابها فراجع. ولكن الجدير بالذكر أن جعفراً(ع) كان يقاتل في هذه المعركة قتالاً مستميتاً على الرغم من كثرة الروم، حتى قيل: كان عددهم مئة ألف أو مئتي ألف مقاتل، وجعفر يوسع بهم ضرباً، وبيده الراية لا يتخلى عنها على الرغم من كثرة الطعنات والضربات، حتى أضحى في جسده تسعون ضربة، فعمدوا إلى قطع يديه اللذين أخبر النبي(ص) أن الله تعالى عوضه عنهما بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة. دفن (ع) في أدنى البلقاء في مدينة الكرك التي هي الآن من أراضي الأردن، فسلام على جعفر يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
ما جاء في فضله (ع):
روي عن النبي - كما جاء في (شرح النهج) لابن أبي الحديد - قال: سادة أهل المحشر، سادة أهل الدنيا أنا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر.
وروي كثيراً أن النبي(ص) قال لجعفر(ع): أشبهت خَلقي وخُلقي.
وروي أنه لما قتل جعفر دعا النبي(ص) فقال: «اللهم أخلف جعفراً في أهله خير ما خلّفت عبداً من عبادك الصالحين». وفي رواية أخرى: «اللهم إن جعفرا قدم إلي أحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته»([3]).
([1]) لعله أراد بها المندوب، وإلا فالصيام فُرضت في العام الثاني بعد الهجرة وللزكاة في التاسعة للهجرة.