قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[1].
1- تدل الآية الشريفة في نفسها على أن ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بتبليغه أمر خطير، يعادل في أهميته وخطورته تبليغ الرسالة كلها، ولذلك وردت في صورة التهديد. وقد حاول أكثر علماء العامة أن يصرفوها عن هذه الدلالة، بدعوى أنها أمر له ببيان الأحكام المتعلقة بأهل الكتاب وحالهم، وأن الله يعصمه منهم فلن يتمكنوا من ان يقتلوه أو يؤذوه، مستفيدين لذلك من السياق حيث إن أكثر آيات سورة المائدة تتحدث عن اليهود والنصارى.
2- إلا أن هذا المعنى لا يستقيم، لأن السورة، والآية بالخصوص، قد نزلت بعد حجة الوداع، يوم غدير خم، بعدما انكسرت شوكة أهل الكتاب، ولم يعد لهم أي خطر يخشى، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس﴾ صريح أنه (صلى الله عليه وآله)، كان يتوجس من إبلاغ أمر يهدد حياته من قبل أناس يمكنهم أن يبطشوا به، أو يثيروا فتنة بوجهه، وهو ما لا يمكن أن يحصل من أهل الكتاب.
3- إن الآية الشريفة، وبملاحظة مكان وزمان وسبب نزولها وما ترتب عليه، تدل على نصب علي (عليه السلام) لإمامة المسلمين بعده، حيث بادر النبي إلى إعلان ولايته وإمامته للمسلمين، قائلا: "من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه"، فلقيه عمر فقال له: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة[2].
وعن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك﴾، يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (عليه السلام)[3].
4- ذهب بعض مفسري العامة إلى أن المراد أنه مأمور بإبلاغ أي حكم من الأحكام، ذلك ان الأحكام كلها متساوية الأهمية، بحيث لو كتم أي واحد منها كان بمثابة كتمان الجميع[4].
وجوابه ظاهر، فإن ذلك وإن كان مقبولا في نفسه، من جهة أن أحكام الدين مترابطة في ما بينها ولا يمكن التفكيك بينها، ولكن قوله والله يعصمك من الناس، بمثابة التطمين له (صلى الله عليه وآله)، بمعنى أن الموضوع المأمور بإبلاغه يرتبط بالناس وعلاقاتهم، وإلا فليس لكل الأحكام أبعاداً اجتماعية أو سياسية، ربما تنعكس على جماعة الناس، فيهددوا حياة النبي (صلى الله عليه وآله) نتيجة لها.
ولا بد من الإشارة إلى أن مثل هذا التفسير يتضمن إنكار نزولها بحق علي (عليه السلام) وولايته، حيث لم يشر صاحبه إلى هذا الأمر من قريب أو بعيد.
5- قال الفخر الرازي: "واعلمو أن المراد من الناس هنا الكفار، بدليل قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[5]".
والجواب أنه خلاف الظاهر، بملاحظة سبب نزولها وظروفها كما تقدم، حيث أن الكفار لم يكن لهم قوة تمكنهم من فعل ذلك حينها، بل المراد من الناس مطلق من اتصف بالإنسانية سواء كان مؤمنا أم كافرا، أي لم تلحظ خصوصية الإيمان أو الكفر فيهم.
ويظهر هذا الأمر جليا بملاحظة الاستعمالات القرآنية، حيث استعمل لفظ الناس في الأعم، إلا إذا قامت قرينة خاصة على إرادة أحدهما، وهي مفقودة في المقام، فالحمل على الأعم هو المتعين.
وأما ذيل الآية الشريفة فلا يشكل قرينة أو دليلا على ما زعمه الفخر الرازي، بل الظاهر أنه وصفهم بالكفر من جهة رفضهم لهذا المأمور به، خصوصا بعد ملاحظة أن ظروف وملابسات نزول الآية الشريفة، بعد استتباب الأمر للمسلمين، وسقوط مقالة المشركين، وإعلان الكثيرين منهم الدخول في الإسلام، والله تعالى أعلم.
وأما مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فهي مجمعة على أن الآية الشريفة نزلت بشأن ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنها مرتبطة بحادثة غدير خم، التي رواها الشيعة والسنة متواترة بما يزيد عن مائة طريق.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل (رحمه الله)
[1] سورة المائدة، آية: 67
[2] التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج12، ص49
[3] أسباب النزول، الواحدي، ص139
[4] تفسير البيضاوي، ج1، ص444
[5] التفسير الكبير، الفخر الرازي، ج12، ص50