إن الروايات دلَّت على أنَّ غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) كانت نحو عقوبة دنيوية للناس لتقصيرهم مطلقاً أو في بعض الجوانب الخاصّة.
وهنا سؤال وهو أنَّ غيبة الإمام إن كانت عقوبة للناس لتقصيرهم فهل غاب بقيّة الأئمّة (عليهم السلام) بعد أن عصتهم الناس واستخفَّت بهم وجهلت قدرهم؟
والجواب: إنَّ المخالفة توجب استحقاق العقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما في بعض الحالات، إذ قد تكون العقوبة الدنيوية المشرعة على ذنب لا تُمثِّل إلَّا الحدّ الأدنى المشترك في المخلَّفات التي تدخل تحت عنوان واحد كالقتل مثلاً. وتبقى حالة الاختلاف في البشاعة والدوافع والظروف ووجود المنبّهات وعدمه وغير ذلك ممَّا له علاقة بزيادة القبح الذي يوصف به القتل مثلاً أو نقصانه. والحدّ الأدنى الذي اقتضته المصلحة من العقوبة الدنيوية في صورة العمد هو القود بدم المقتول. وما زاد على ذلك في بعض الحالات تُؤجَّل عقوبته إلى الآخرة. هذا فيما يرجع إلى العقوبة الدنيوية المشرعة والتي قد تجتمع مع استحقاق عقوبة أُخروية.
وأمَّا اجتماع أثر تكويني سيّئ على عمل سيّئ في الدنيا مع عقوبة الآخرة فأوضح في تعقّله وقبوله. وكيف كان فلا مشكلة في استحقاق العقوبة. ولكن من قال إنَّ اقتضاء ذنب ما عقوبة خاصّة يجعل بقيّة الذنوب المشابهة تقتضي نفس العقوبة؟ نعم نتعقَّل ذلك في الآثار التكوينية وفي الآثار التي تُمثِّل نوع عقوبة أُريد للإنسان أن يطبّقها فشُرِّعت وفق قانون جزائي كالحدود والقصاص والديات.
وأمَّا ما كان الله تعالى يفعله كأثر للعمل فليس من الضروري أن يكون منضبطاً بنوع خاصّ وبمقدار معيَّن، وموردنا من هذا القبيل.
فالقدر المجزوم به أنَّ ما أصابنا من غير الملائمات ممَّا يمكن أن يُعَدُّ مصيبة فهو مما كسبت أيدينا.
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: ٣٠).
وهو يمثِّل بعض الاستحقاق لأنَّ الأصل في الجزاء أن يكون في الآخرة، لكن الحكمة ومصلحة العباد دعت إلى أن يقدّم جزء منه في الدنيا، وليس هذا محلّ التفصيل.
(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (البقرة: ٢٠٢).
وربَّما كان من عاصر الأئمّة (عليهم السلام) في زمن الظهور قد أُخذوا بعقوبات أُخرى هذا أوّلاً.
وثانياً: ليس من الضروري أن تتمَّ المؤاخذة على الذنوب في الدنيا، حيث يمكن أن تكون سُنَّة أُخرى قد حكمت على الوضع ومثال ذلك أنَّ الله تعالى حكم في عالم التكوين بملازمات بين بعض الذنوب والآثار التكوينية السيّئة، قال تعالى:
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: ٤١).
وهذه الآية خاصّة بالآثار التي يعلم الناس أنَّها سيّئة ولكن المؤاخذة متمثّلة بظهور الفساد في البر والبحر كانت في ظرف يُرتجى للناس الإيمان كما أشار إليه ذيل الآية: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). وحين ينقطع الأمل بإيمانهم تأتي سُنَّة الاستدراج التي تُرفع فيها الآثار المتمثِّلة بالمزعجات.
(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضراءُ وَالسَّراءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (الأعراف: ٩٥).
(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام: ٤٤).
بل قد تكون الآثار السيّئة باعتبار واقعها لا باعتبار رؤية الناس سوءها وأثرها السيّئ غير الملتفت إليه قد يكون في الدنيا كما في قوله تعالى:
(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (التوبة: ٥٥).
وقد يكون في الآخرة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى:
(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضروا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران: ١٧٦).
وثالثاً: إنَّ ما ذُكِرَ من سببية التقصير لحرمان الأُمَّة من التواصل مع إمام زمانها لا يمثِّل سببية تامّة بل هو جزء سبب لا بدَّ معه من بقيّة المقتضيات وارتفاع الموانع وبضمّ بقيّة الحِكَم إلى هذه يكتمل السبب وتتمّ العلَّة، فيلزم تحقّق المعلول الذي هو غيبة الإمام (عليه السلام).
وبعض هذه الحِكَم لا تتوفَّر في زمن الحضور، فإنَّ خوف القتل مثلاً يشكِّل محذوراً بالنسبة للخلف الحجَّة (عليه السلام) إذ لا إمام بعده ولا يشكِّل محذوراً خطيراً بالنسبة للأئمّة السابقين، ولذلك أقدموا في بعض الحالات باختيارهم على ما فيه قتلهم كخروج الإمام علي (عليه السلام) إلى المسجد وهو يعلم أنَّه يُقتَل ذلك اليوم، وخرج الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء وهو يعلم بمآل الأُمور فيها، وهكذا بالنسبة لبعض الأئمّة الآخرين وفق ما بيَّنت الأدلَّة الشرعية، وإن كنت أميل إلى علمهم جميعاً بواقع ما قُدِّمَ إليهم من طعام مسموم فتناولوه باختيارهم، وهذا ما لا يمكن أن يُسمَح به بالنسبة للإمام الثاني عشر قبل ظهوره واستكمال تحقّق بشارة الأنبياء وإزهاق الباطل وإحقاق الحقّ.
وكذلك منع وقوع البيعة لطاغية في عنقه، فإنَّه ليس بمحذور ظاهراً، وإلَّا لما وقعت البيعة من أحد من الأئمّة السابقين. وكذلك جريان ما جرى على الأُمم السابقة على أُمَّة النبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فيكفي في جريان الغيبة التي جرى على بعض أنبياء الأُمم السابقة أن تجري على إمام واحد من أئمّتنا.
وكيف كان فسببية تقصير الأُمَّة لغيبة الإمام غير تامّة لا تستدعي حصول غيبة للإمام إلَّا مع اجتماع بقيّة الأجزاء من ذلك السبب، ولم تجتمع، ولذا لم يغب أحد من الأئمّة السابقين.