تشهد مقاطعة كيبك الكندية سجالاً حاداً حول مشروع قانون لإرساء «شرعة القيم الكيبكية والعلمانية»، لما يتضمنّه من بنود تمنع إبراز الرموز الدينية في مراكز العمل. السجال خرج من الصالونات السياسية ووصل إلى الشارع الذي بدأ يشهد ممارسات عنصرية من جهة، وحملات مدنية لمواجهته من جهة ثانية، خصوصاً لما له من تداعيات اجتماعية واقتصادية
مونتريال | الإعلان الذي وضعه مستشفى لاكريدج هيلث في مقاطعة أونتاريو الكندية، وتتصدّره ممرضة محجبة كانت رسالته واضحة: «نحن لا نهتم بما تضعين على رأسك بل نهتم بما في الداخل». يقول الإعلان متوجهاً إلى كلّ محجبة تبحث عن عمل في القطاع الصحي... ويساجل على طريقته المقاطعة الفرنكوفونية كيبك في مشروعها المثير للجدل «شرعة القيم الكيبكية والعلمانية».
فكيبك مقاطعة متمردة تاريخياً على الفدرالية الكندية، وقد أرادت حكومتها هذه المرة الذهاب بعيداً في تمايزها عن باقي المقاطعات عبر طرح مشروع قانون يقضي بمنع الرموز الدينية في المؤسسات العامة.
التجربة الفرنسية
مستلهمة التجربة الفرنسية تدافع رئيسة حكومة كيبك وزعيمة الحزب الكيبكي، بولين ماروا، عن المشروع بكل ما أوتيت من حجج تستقدمها من خارج الحدود الفدرالية. هي تدير ظهرها لكندا وتبحث في ما وراء الأطلسي، في فرنسا، عن كل السبل للتماهي مع هذا البلد الذي يشاركها اللغة الفرنسية.
واللغة هنا في كيبك هي التي تفرّق وتجمع، وإلا ما معنى أن يقول وزير المؤسسات الديموقراطية والمشاركة الوطنية برنارد درانفيل، صاحب مشروع «شرعة القيم الكيبكية والعلمانية»، إن «على كندا الإنكليزية ألا تنخرط في النقاش الحاصل حول القيم الكيبكية» وإنه «ليس هناك من دروس حول الاستقبال والدمج نأخذ بها من باقي المقاطعات الكندية؟».
الدروس تبحث عنها حكومة كيبك إذاً في فرنسا، في محاولة للتماهي مع النموذج الفرنسي الذي لا يشكل مثالاً صالحاً يُحتذى به، لا سيما أن الواقع في كيبك له خصوصيته.
هذه البلاد التي لم تغلق أبوابها في وجه الهجرة، تستمد استمرارها من تدفق المهاجرين إليها. وأيّ فرض لقيود دينية أو عرقية سيسبّب مشاكل لم يختبرها المجتمع الكيبكي، المعروف بأنه «مجتمع تعدّدي ومتسامح»، كما يرى أستاذ علم الاجتماع والديموغرافيا أسعد الأتات، مشيراً إلى أن الهدف من الطرح هو «إحياء الخلافات السابقة بين المقاطعات الفرنسية والإنكليزية في كندا». ويرى «أن المشروع يحمل إلى حدّ ما طابعاً انفصالياً، ويمثل نقلة نحو الانفصال عن كندا».
هذه النزعة الانفصالية التي يتبنّاها الحزب الكيبكي، تعبّر في كل مرة عن نفسها عبر طروحات تسعى لتمييز كيبك الفرنسية عن باقي مقاطعات كندا، ما دفع برئيس الحكومة الكندية ستيفن هاربر الى اتهام الحزب بـ«أنه يحب المواجهة مع أوتاوا وباقي المقاطعات»، محذّراً من أن الحكومة الفدرالية «ستتخذ الإجراءات الضرورية لاحترام الحقوق الأساسية للكنديين إذا ما تبنّت الجمعية الوطنية قانوناً ينتهك هذه الحقوق».
لكن حكومة ماروا وخلفها الحزب الكيبكي متمسكان بالمشروع الذي يعمّق الانقسام السياسي. وقد وصل الأمر بأحد الأحزاب الداعمة له، وهو حزب الكتلة الكيبكية، الى حد طرد النائبة الفدرالية ماريا موراني من كتلته البرلمانية، لأنها أعلنت رفضها الصريح للمشروع.
موراني، اللبنانية الأصل، قطعت بدورها كل الصلات بالكتلة الكيبكية وقالت إن «كيبك تسير الآن على خطى السياسة الفرنسية التي أدت الى كارثة في مجال دمج المهاجرين».
رفض المهاجرين للمشروع
يدرك المهاجرون في كيبك التحدي الجديد الذي ينتظرهم في حال إقرار مشروع القانون. وهو تحدّ لم يكن مطروحاً حينما تقدموا بالهجرة الى هذه البلاد التي تُقدّم نفسها على أنها نموذج للتعددية والتنوع المجتمعي. البعض بدأ يتحدث عن الرغبة في الانتقال الى مقاطعة كندية أخرى لا تفرض على مواطنيها قيوداً تتعلق بالمظاهر الدينية.
ندى، طبيبة التغذية، لن تجد مانعاً في ترك مدينة مونتريال، التي ولدت وكبرت وتعلمت فيها، والذهاب الى أونتاريو، إذا ما خُيّرت بين خلع الحجاب والطرد من العمل.
تؤكد الطبيبة اللبنانية الأصل أن ثمة تناقضاً صارخاً بين ما تعلمته في المؤسسات التعليمية الكيبكية عن المساواة وحرية المعتقد وبين ما يُطرح اليوم. في رأيها «هدف القانون ليس الاندماج، بل فرض نمط حياة محدد على المهاجرين كما سبق أن فعل المستعمرون الأوروبيون بالسكان الأصليين».
بدوره، يشير إمام المركز الاسلامي اللبناني في مونتريال، نبيل عباس، إلى أن «الحزب الكيبكي محشور سياسياً بعدما عجز عن ملامسة ملفات مهمة كالاستشفاء والضرائب، فيحاول الهروب إلى الأمام عبر طرحه» هذا.
ويدعو عباس الجالية المسلمة إلى «عدم الانجرار الى ردود فعل ارتجالية أو عنفية كي لا يسهّلوا على واضعي القانون عملية إمراره من خلال تخويف الناس من المسلمين».
أحداث عنصرية
التخوّف من تداعيات مشروع حكومة ماروا على استقرار المجتمع الكيبكي وتماسكه له ما يبرّره في أوساط الرافضين، لا سيّما مع تسجيل حوادث عنصرية لم تألفها كيبك من قبل.
في مدينة مونتريال التي تضم ما يقارب سبعين في المئة من المهاجرين إلى كيبك، ذكرت صحيفة «لوسوليه» أن امرأة مُحجّبة من أصول جزائرية تعرّضت للشتم من قبل سيدتين هاجمتاها بعبارات «قولي لزوجك أن يشتري لك حجاباً من غوتشي أو غيّري دينك».
وفي حادثة مشابهة داخل حافلة للنقل العام، تعرّض رجل بكلام قاس لامرأة محجبة، وطالبها بالعودة إلى بلادها، متوعداً إياها بأنه وماروا سينزعان عنها الحجاب، وذلك بحسب ما أظهره مقطع فيديو نشر على موقع «هافنغتون بوست كيبك».
ويرى رافضو المشروع أن هذه الحوادث ما كانت لتطفو لولا جرعة «العنصرية» التي منحتها الحكومة لأولئك الذين كانوا يخشون التعبير علناً عن مواقفهم العدائية.
تحرّكات رافضة ومخاوف
التحركات لمواجهة المشروع، التي بدأت تنتظم، لا تقتصر على المهاجرين، بل تشمل شرائح مختلفة من المجتمع الكيبكي.
مثقفون وفنانون ومحامون وأكاديميون وضعوا عريضة «من أجل كيبك شاملة» جمعت إلى الآن آلاف التواقيع للمطالبة بسحب المشروع المثير للجدل.
كذلك لم تكن فدرالية شؤون النساء في كيبك بعيدة عن النقاش، فقد أبدت تخوفها من أن يؤدي المشروع إلى إقصاء بعض النساء عن العمل بسبب لباسهن، مذكّرة الحكومة بأن مساواة المرأة تمر بالاستقلالية الاقتصادية.
أكاديمياً، أعلنت جامعة ماكغيل رفضها للمشروع، ودخلت أستاذة الفلسفة السياسية في الجامعة كاثرين لو على طلابها مرتدية الحجاب تعبيراً عن موقفها المندّد بقانون «يجعل اندماج المهاجرين الجدد أمراً أكثر صعوبة، ويغذّي المخاوف من الاختلافات الثقافية والدينية داخل المجتمع الكيبكي».
على النطاق المجتمعي، سجلت خمس عشرة مدينة مرتبطة بجزيرة مونتريال اعتراضها بالإجماع على مشروع القرار، وقالت إنها لن تلتزم به، وإن «حكومة ماروا تبحث عن حل لمشكلة لا نراها على الأرض».
أما في القطاع الصحي الذي يعاني من نقص حاد في كادره البشري، فسيكون التخلي مستقبلاً عن ممرضة أو طبيبة تضع رمزاً دينياً بمثابة التخلي عن عملة نادرة.
القضية أثارت القلق داخل المستشفيات التي بدأ بعضها يعلن منذ الآن أنه في حلّ من مشروع كهذا. التبعات الاقتصادية للقرار حضرت بقوة. ففي حين يروّج برنارد درانفيل الى أن مشروعه يساعد على دمج المهاجرين في سوق العمل، تطالب غرفة التجارة في مونتريال بسحب مشروع القانون في نسخته الحالية على الأقل، لأنه سيستهدف مباشرة الكثير من المهاجرين الذين تحتاج إليهم المؤسسات. التحذيرات بدأت ترتفع من الثمن الاقتصادي لمشروع منع الرموز الدينية في أماكن العمل. فحول هذه القضية يسأل البعض ماذا ستفعل الحكومة إذا ما قرّرت الأقليات ترك مقاطعة كيبك أو العيش على الإعانات الاجتماعية الحكومية في حال تعذّر عليها العمل بسبب ارتداء الرموز الدينية؟
«شرعة القيم الكيبكية»
تتضمن الشرعة منع ارتداء الرموز الدينية الظاهرة التي يمكن رؤيتها بسهولة، مثل الصليب والبرقع والنقاب والحجاب الاسلامي والتشادور والقبعة اليهودية وعمامة الهنود السيخ... ويطال المنع العاملين في مؤسسات القطاع العام كالإدارات والمدارس والمستشفيات والجامعات ودور الحضانة والبلديات وغيرها. وهي تهدف بحسب الحكومة إلى توحيد الكيبكيين حول قيم مشتركة مثل المساواة بين النساء والرجال والحيادية الدينية للدولة.
ويؤيد مشروع قانون منع الرموز الدينية الحزب الكيبكي الحاكم، فيما يدعم ائتلاف مستقبل كيبك بعض بنوده، في حين يعارضه الحزب الليبرالي وحزب كيبك متضامنة اليساري. على الصعيد الشعبي، أظهرت آخر استطلاعات للرأي انقساماً حاداً داخل المجتمع الكيبكي: 43 في المئة يؤيّدون المشروع و42 في المئة يرفضونه.
استفتاء ثالث للانفصال
في عام 2012 فاز الحزب الكيبيكي الذي تتزعمه بولين ماروا، على غريمه الحزب الليبرالي في الانتخابات التشريعية، وعاد إلى السلطة بعد غياب تسع سنوات.
وتتقاسم مقاعد الجمعية الوطنية في كيبك ثلاثة أحزاب هي الحزب الليبرالي وائتلاف حزبي «مستقبل كيبك» و«كيبك متضامنة». ويعدّ الحزب الكيبيكي أبرز لاعبي الحركة السيادية التي تطالب بالانفصال عن كندا، فيما الليبرالي فيديرالي النزعة، أي إنّه يدعم بقاء كيبك كمقاطعة في النظام الفيديرالي الكندي.
عقب فوز حزبها، وعدت ماروا بإعادة إجراء استفتاء ثالث عام 2014 حول انفصال كيبيك عن كندا بعد إخفاق حزبها في انتزاع الانفصال في استفتاءين أُجريا عامي 1980 و1995.