سؤال ما بعد الموصل ليس مرتبطاً بالموصل أو بالعراق حصراً، هو سؤال يعني المنطقة بأسرها التي كانت خلال أعوام دولة داعش أمام أسئلة وجودية حاسمة.
ما بعد الموصل لا يعني فقط نهاية كابوس داعش، لكنه أيضاً يعني نهاية زمن الحدود المغلقة وحدود الدول، كل محور تمتد حدوده على امتداد الدول المنضوية فيه، فيقاتل ويدافع بحسب مقتضيات أمن المحور لا فقط الأمن القومي.
في صيف 2014 مباشرة بعد سقوط الموصل كنت في بغداد وكانت هي تحت الخطر الداهم لداعش، لم يكن أحد ليظن حينها أن بأس داعش سيهزم بعد ثلاثة أعوام. لم يكن لدى العراق جيش حقيقي حينها، مجرد أسماء على لوائح، خمسون ألفاً من الجنود الوهميين، ضباط كبار في مناطق القتال لا يعول عليهم. سقطت المناطق بأقل جهد ممكن في ظل تفتت شعبي غير مسبوق، كان الساسة العراقيون مختلفين على جنس الملائكة بينما داعش على الأسوار. السقوط عنى بشكل أو بآخر سقوط آخر أوراق التوت عن سوءات الاحتلال الأميركي لهذا البلد، عن الفساد، عن اللادولة التي خلفتها واشنطن، مسخ الدولة. لم يكن المطلوب فقط أن يكون عراق الاحتلال مسخاً، بل كيان بلا دور، مجرد مساحة جغرافية مقسمة تكون صندوق بريد لمن يرغب بذلك.
أمام مشهد السقوط لم يكن هناك من يتوقع أن يحصل ما يغير المسار، وأكثر المرجحين كان ينتظر تدخل أميركي يعيد أراضي العراق إليه.
توقع العودة الأميركية كان سببه حينها أن غياب الأفق والشعور بأن داعش لا تسقطه سوى قوى عظمى وكذلك أن أقرب حلفاء العراق، إيران، غارقة في سوريا. جاءت فتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني لتهز الداخل العراقي الذي لم يكن من قبل، في زمن ما بعد صدام حسين، قد شهد عملية تعبئة من هذا النوع.
إطلاق الحشد الشعبي شكل نقطة تحول في العراق
كل ما كتبته الآن هو قبل وخلال معركة الموصل. إطلاق الحشد الشعبي شكل نقطة تحول في مسار هذا البلد بعد الاحتلال، وهو الذي أوصل الى الموصل. خلال الفترة الماضية التي شهدت تأسيس ونشاط الحشد ظهر الكثير من الآمال والانتقادات. هناك إنجازات وتجاوزات، هناك نجاحات وإخفاقات. في بداية التجربة كانت التناقضات ضخمة بين المجموعات التي شكلت أساس الحشد الشعبي، لكنه لاحقا بدأ ينتظم، أو إذا صح القول بدأ ينظم تناقضاته.
لم يكن العراقيون بحاجة إلى مقاتلين، كانوا أحوج إلى من يدير المعركة وهو الدور الذي لعبه قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني. الدخول الإيراني على الساحة بشكل مباشر رافقه الدخول الأميركي، وبدا الأمر كأنه سباق بين طرفين لتحقيق الانتصار، تقاطع الطرفان في أكثر من مكان. ولأنهما يقاتلان لهدف واحد وبمعية ذات الحليف، بدا المشهد سوريالياً، في صلاح الدين والأنبار والفلوجة ولاحقاً في الموصل. وضعت أميركا خطها الأحمر.
الحكومة العراقية استفادت من هذا التناقض والخط الأحمر لتأمين المزيد من الدعم للقوى الأمنية، بينما عمدت إيران للالتفاف حول الخطوط لدعم الحشد. في نهاية المطاف كان المطلوب عراقياً أن تتحرر الموصل، بالحشد أم بالقوى الأمنية، لا فرق. لكن أميركا استمرت بوضع خطوطها الحمراء. كان الخط الأحمر الرئيس دخول الحشد إلى الموصل ووصوله الى الحدود مع سوريا، لكن أميركا لم تكن تملك على الأرض ما يجعلها تمنع ذلك واقعاً، سوى السياسة.
في السياسة كلام كثير ليس وقته الآن، أما في الميدان فكانت النتيجة تحرير الموصل ووصول الحشد الى الحدود، إيران كسرت الخط الأحمر الأميركي.
العراق أمام مفترق طرق في مرحلة ما بعد الموصل
ما بعد الموصل عراق أمام مفترق طرق حقيقي، صحيح أن يد داعش قُطعت لكن هذا لا يعني أن روحها ماتت، لذا فحذار من العودة إلى عقلية ما قبل السقوط. العودة إلى التهميش والإقصاء ومأسسة الفساد سيعني بث الروح مجدداً حيث الوهن، وهذا ما سيسقط البلاد مجدداً ولكن بشكل اسوأ. قوة العراق في شعبه لا في جماعاته المتفرقة، ولولا الوحدة النسبية التي خلقتها حالة داعش بين العراقيين ما كان ممكناً أن نرى تحريراً.
في المنطقة، يبدو واضحاً أن دور "محور المقاومة" أصبح أساسياً في كل معارك المنطقة، أميركا تملك الجو لكنها ضعيفة على الأرض. صحيح أن العراق ليس بالكامل ضمن المحور الإيراني، لكنه أيضاً ليس مصطفاً بالكامل في المحور الحليف لأميركا، هو دولة تقاسم نفوذ. لكن تقاسم النفوذ في هذه المرحلة بالنسبة للإيرانيين لن يكون عبر جماعات تدعمها طهران مشتتة، بل من خلال مظلة الحشد الشعبي. هناك من يجهز الخرائط خلف أبواب موصدة في غير مكان في العالم، لكن العراق اليوم نجا بروحه من عملية التقسيم، لديه القوة للرفض.
أميركا صاحبة خطة اللاخطة في الشرق الأوسط
أميركا أثبتت أنها في الشرق الأوسط صاحبة خطة اللاخطة، وهي تشبه كثيراً بريطانيا أواخر أيام عظمتها. إيران مجدداً أحد أكبر الرابحين، محورها يتقدم، ميدانياً حاضرة أكثر من كل الأطراف، تقدم نفسها في سوريا والعراق كضامن بقاء الدولة. السعودية غائبة عن المشهد بغم كونها في صراع مع إيران، وهو ما يعطي طهران المزيد من النقاط في هذه الحرب.
ما بعد الموصل، المعركة الإقليمية الدولية ستستعر أكثر، في ميادين أخرى، في سوريا واليمن وربما تعود جبهات أخرى للظهور. أما العراق فحذار من الفتنة. الفتنة السنية الشيعية بالعنوان السياسي والمناطقي والفتنة الشيعية الشيعية التي قد تجد لها مساحة للظهور.