بينما تخطّط الدوائر الصهيونية والإدارات الأميركية المتعاقبة وحكام الخنوع من أعراب الخليج(الفارسي)، لسلب فلسطين، كلّ فلسطين، واقتلاع حقّ عودة الفلسطينيين إلى وطنهم من أذهان العالم من خلال إغلاق منظمة الأونروا لشؤون اللاجئين والتي تلت قرار ترامب، اعتبار القدس عاصمة للكيان الغاصب وفق القانون العنصري الإسرائيلي وصدور عشرات الإجراءات التعسفية والقوانين الصهيونية العلنية والسريّة، ينشغل الفلسطينيون أو القيادات الفلسطينية بإنهاء الانقسام المتأزم حول تفاصيل وقتية وتجاوز الخلافات الأبدية بينهم.
والسؤال البديهي والواضح هو الانقسام حول ماذا؟ أو الاختلاف على ماذا؟، إذا كان الوطن سليباً والعدوّ استهدف ويستهدف الجميع أمس واليوم وغداً ويستهدف مصيرهم ومصير أطفالهم وأحفادهم؟!، فهل هناك أخطر من هذه اللحظة التي تستدعي توحيد كلّ الجهود والمقدرات والطاقات لمواجهة التحدّي المصيري الذي يواجهه الفلسطينيون في كلّ مكان؟ إنّ إغلاق الأونروا إنذار كبير بالخطر الحالي والمستقبلي. فبالإضافة إلى أنّها المؤسسة التي تؤكّد وجود لاجئين تمّ اقتلاعهم من ديارهم بقوّة الاحتلال وتشكّل بذلك نوعاً من الاعتراف العالمي الضمني بحقّ العودة، فهي إلى ذلك شكّلت رافعة للتعليم الفلسطيني على مدى عقود ماضية. والجميع يعلم أنّ السّلاح الأمضى للأجيال الفلسطينيّة المتعاقبة كان التعليم والحفاظ على ذاكرة الأجداد والآباء والقرار الحكيم والسليم أنّ هذه الأجيال لن تنسى مدنها وقراها حتى تعود إليها.
قرار بهذه الخطورة يستدعي توافق السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال من الفلسطينيين في الشتات على أن يعقدوا مؤتمراً وطنياً فلسطينياً ويتخذوا القرارات ويضعوا التمويل الكفيل بإعادة عمل مؤسسة الأونروا ومواجهة التحديات الصعبة والمصيرية التي تواجه الجميع. وهذا ليس صعباً على الإطلاق، بل يحتاج إلى معادلة سهلة وبسيطة ومفهومة ومنطقية وهي أن يضع الجميع فلسطين أولاً وأن يتميزوا بنكران الذات في سبيل قضية فلسطينية كبرى. أمّا أن يفكّر الجميع من هو الرابح ومن هو الخاسر فسيؤول المآل إلى خسارة الجميع إذ لا يربح أحد شيئاً على الإطلاق حين يخسر حقّه في وطنه.
ولكيلا أحمّل الفلسطينيين عبء ما يجري فإنّي أقول إنّ القضية الفلسطينية تعتبر المجهر الحقيقي لكلّ ما اعترى ويعتري هذا العالم العربيّ ومنذ عقود. ففي الوقت الذي يتحكّم به أعداؤنا وخصومنا وعملاؤهم من الأعراب بانقساماتهم وخلافاتهم ويتخذون موقفاً موحداً ضدنا نجد أنّ المواقف العربيّة مشتتة ومتباينة حتى حين يتعلّق الأمر بالقضايا المصيرية لهم جميعاً. إذ أنّ الواقع العربيّ ليس أفضل حالاً من الواقع الفلسطيني والسبب في ذلك هو عدم التوصل إلى وحدة في الرؤية ووحدة في الأهداف سواء على مستوى البلد الواحد أو على مستوى الأمّة والتحديات المصيرية التي تواجهها وبدلاً من ذلك نجد الخلاص الشخصي سيّد الموقف، متناسين أنّه لا يمكن للخلاص الشخصي أن يحمي وطناً على الإطلاق.
ومن ناحية أخرى فكلّنا نقرأ وعلى مدى عقود أنّ استراتيجية العدوّ هي بثّ الفرقة بين البلدان العربيّة، وإن أمكن، تفتيت المواقف في البلد الواحد وتحويل هذه الأمّة إلى قبائل وأعراق وأتباع مذاهب وليس أـتباع دين واحد وقومية واحدة، وبعيداً عن توجيه اللوم للأعداء والمخططات الاستعمارية واستهداف هذه الأمّة رغم أنّ هذا كلّه صحيح، ولكن وبعيداً عنه، ما الذي فعله الفلسطينيون والعرب كي يُفشلوا مخططات الأعداء؟، وكيف تمّت مواجهة هذه المخططات وبأيّ أدوات؟ هذا هو السؤال الأهمّ الذي علينا أن نطرحه والذي قد يفضح تقصيراً هنا وتواطؤاً هناك وجهلاً في مكان ثالث، ولكن لا بدّ من طرح السؤال والغوص فيه لاستنباط الحقيقة كي نبدأ ولو بأولى الخطوات على الدرب السليم بدلاً من الاستمرار في هذا التيه، والذي وكما نرى بأمّ أعيننا، يقود من فشل إلى فشل، وقد تأتي اللحظة التي لا ينفع معها العمل مهما كان عظيماً لأنّ الفرصة التاريخية تكون قد فاتت. هل ينتظر العرب إلى يوم القيامة كي يحكم الله بينهم "فيما كانوا فيه يختلفون"؟
أم عليهم أن يجروا مراجعة سريعة وعميقة لكلّ ما انتابهم ويضعوا أصبعهم على الجرح ويبدؤوا قولاً وفعلاً بمداواته. وبما أنّ فلسطين كانت ولا تزال جوهرة التاج في هذه الأمّة والقدس روح الأمّة، فهل يمكن لنا أن نطمح أن تقدّم فلسطين الحلول ليس لها فحسب وإنما للأمّة جمعاء، وأن تقدّم الحلّ والأنموذج في إنكار الذات والحرص على الأوطان بعيداً عن الاتفاقات والمساومات والمراهنات التي لا تقود إلّا إلى مزيد من الضعف والتشتت.
هل يمكن أن تصبح فلسطين، والتي يتحدث عرب اليوم عن إنقاذها من دون أيّ عمل حقيقي يذكر، هل يمكن أن تصبح هي المنقذ لهم جميعاً من خلال إعطاء المثل ليس فقط بإنهاء الانقسام وتجاوز الخلافات وإنّما بالانصهار قولاً وفعلاً وعملاً من أجل قضية مقدسة تستحقّ العمل والدأب والشهادة من أجلها إن اقتضى الأمر. المهمة ليست مستحيلة أبداً، وحتى ليست صعبة، إذا قررت القيادات الوطنية حقّاً، كلّ القيادات، أن ترتقي إلى مستوى الأسرى والشهداء والشعب في المقاومة والتضحية والتخلي عن طموحاتها الشخصيّة والتي لن تقودها إلى أيّ مكان في الأحوال كافة، أو ليس التاريخ زاخراً بالشواهد على من حرصوا على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وما آل إليه مصيرهم؟. فقط المدافعون عن الحقّ والمضّحون من أجل الأوطان يكتب لهم أن يكونوا منارات الأوطان والأجيال القادمة.
بثينة شعبان ، مفكرة عربية