الحضور الدولي في مؤتمر باليرمو، في إيطاليا، الإثنين والثلاثاء الماضيين، يعكس بلا شك تعدد الأطراف الدولية والإقليمية ذات التأثير بالنزاع الداخلي الليبي.
الدعوة الإيطالية لعقد هذا المؤتمر الموسع جاءت على أمل أن يتوصل المؤتَمِرون لصياغة خطة محكمة لمعالجة الأزمة السياسية بتفاهم بين الأطراف المحلية الفاعلة في النزاع الداخلي، وبرعاية دولية تشرف عليها الأمم المتحدة، وتوافق الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالنزاع الليبي.
على مدى نصف ساعة، نظمت إيطاليا لقاء مشتركًا جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإيطالي جيزوبي كونتي، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا غسان سلامة، ورئيس المجلس الرئاسي الأعلى فائز السراج، إلى جانب خليفة حفتر، قائد القوات المسيطرة على معظم الشرق الليبي، والرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، ورئيس الوزراء الروسي ديميتري ميدفيدف، ورئيس الوزراء الجزائري أحمد أويحيى، ورئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، ووزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان.
في حين انسحبت تركيا الممثلة بنائب الرئيس فؤاد أوكتاي، من المؤتمر احتجاجا على "استغلال البعض استضافة إيطاليا للمؤتمر ليتدخل من جانب واحد في مسار الأزمة"، حيث ترى تركيا أن الاستقرار "لن يتحقق في ليبيا ما دام هناك دول تواصل جهودها لتعطيل المسار وفقا لمصالحها".
وترجح الحكومة الإيطالية، أن الاتفاق الذي يتم التوصل إليه بشأن ليبيا "يتجاوز التوقعات"؛ وسيكون هناك "اتفاق قوي وملزم للغاية، وهو يمثل خطوة كبيرة".
ومنذ 2011، تشهد ليبيا انقساما تجلى مؤخرا في سيطرة قوات خليفة حفتر، المدعومة من مجلس النواب، على الشرق الليبي، في حين تسيطر حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليا، والمدعومة من المجلس الأعلى للدولة على معظم مدن وبلدات غربي البلاد.
وتحاول حكومة الوفاق الوطني، التأسيس عبر مؤتمر باليرمو لضمان استقلال ليبيا وسلامتها الإقليمية، وتخفيف التدخلات الأجنبية "الضارة" بالشأن الليبي، مع نزوع لتكريس الاعتراف الدولي بشرعية المجلس الرئاسي الأعلى في ضوء مخرجات اتفاق الصخيرات لعام 2015 وتشكيل حكومة وحدة وطنية واحدة "جامعة" تقود إلى دولة مستقلة ذات سيادة بمؤسسات موحدة، خاصة مؤسسة الجيش.
ويميل مراقبون إلى أن الدعوة الإيطالية تندرج في سياق الصراع على النفوذ بين إيطاليا وفرنسا التي استضافت في أواخر أيار/مايو الماضي مؤتمرا جمع الأطراف المحلية وممثلين عن الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وعددا من الدول الأخرى.
في 29 مايو/أيار الماضي، وافقت الأطراف المحلية المشاركة في المؤتمر الدولي حول ليبيا برعاية الأمم المتحدة ورئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إجراء انتخابات عامة (رئاسية وبرلمانية) في 10 ديسمبر/كانون الأول 2018.
وتتعارض الرؤية الفرنسية لحل الأزمة الليبية مع الرؤية الإيطالية التي تركز على أن الاستقرار له الأولوية للبدء بخطوات متقدمة أخرى، منها الانتخابات دون سقف زمني مقيد يلزم الأطراف الليبية بتواريخ أو شروط؛ في حين تمخض مؤتمر باريس عن جدول زمني للاستفتاء على مسودة دستور، ومن ثم إجراء انتخابات كان مقرر لها في 10 ديسمبر القادم، لكنها سوف لن تعقد إلا في غضون ربيع 2019، بحسب البيان الختامي لمؤتمر باليرمو.
تدور الفكرة الأساسية للأطراف الدولية الفاعلة ذات الصلة، فرنسا وإيطاليا والأمم المتحدة، بالدفع لإجراء انتخابات عامة وتحقيق الاستقرار الداخلي مع تباين في أولويات كل طرف من هذه الأطراف.
بكل تأكيد، لا يتفق الموقف الإيطالي مع الموقف الفرنسي، الذي يؤكد على إجراء انتخابات في 10 ديسمبر القادم؛ لكن جولات من القتال بين الأطراف المتنازعة، آخرها في سبتمبر/أيلول الماضي، جعل الموقف الفرنسي موقفا يفتقد إلى فهم الواقع الليبي والانطلاق منه لإحلال السلام بما ينسجم مع الموقف الإيطالي، الذي يرى أن إحلال الأمن والاستقرار مقدمة لأزمة تسبق إجراء الانتخابات العامة بشقيها التشريعي والرئاسي.
لا يبتعد الموقف الإيطالي كثيرا عن موقف الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص إلى ليبيا؛ تركز الأمم المتحدة على إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية في كل المناحي والمؤسسات المالية ومعالجة مسألة الميليشيات غير الشرعية في العاصمة، ومن ثم عقد مؤتمر وطني عام يسبق الانتخابات العامة ربيع 2019، عوضا عن الانتخابات التي أقرها مؤتمر باريس، والتي تبدو كهدف قصير الأجل يخلو من عوامل النجاح الأساسية.
منذ سبتمبر/أيلول 2017، شرعت الأمم المتحدة عبر مبعوثها الخاص غسان سلامة بعد أسابيع من توليه منصبه في محادثات تهدف إلى توحيد الأطراف المتنافسة، اصطدمت بالخلافات حول الدور المفترض لخليفة حفتر، الذي يلقى معارضة شديدة من حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، والتي تخشى من اتساع نفوذ حفتر ومحاولاته الاستيلاء على كامل السلطة في البلاد.
وفي مؤتمر باليرمو، الذي استضافته الحكومة الإيطالية، بدت مخرجات المؤتمر منسجمة تماما مع خطة المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا غسان سلامة.
تتفق جميع أطراف النزاع المحلية والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالملف الليبي على أنه لا حل للأزمة الليبية إلا الحل السياسي بتوافق أطراف النزاع؛ وهو ما أكده بيان مؤتمر باليرمو الختامي الذي أشار إلى أن "الاتفاق السياسي هو الإطار الوحيد المتاح لإنجاز مسار شامل ودائم من أجل تحقيق الاستقرار الكامل".
وإذا كانت الاشتباكات التي شهدتها العاصمة طرابلس، في سبتمبر/أيلول الماضي، ساهمت إلى جوانب عدة في تقويض الخطة الفرنسية الداعية لإجراء انتخابات عامة في ديسمبر القادم، فإن مؤتمر باليرمو حاول تلافي تكرار ذات الإخفاق في الانتخابات المقرر إجراؤها في ربيع 2019، وفق بيان باليرمو، باستباق إجراء الانتخابات بنشر "قوات عسكرية وأمنية نظامية في العاصمة الليبية، وخروج الميليشيات ونزع أسلحتها وفق الترتيبات الأمنية التي وضعتها الأمم المتحدة".
بيان باليرمو شدد، انسجاما مع الرؤية الإيطالية وخلافا للرؤية الفرنسية، على تبني خطة المبعوث الأممي التي سبق أن تحدث عنها في مجلس الأمن الدولي، والتي تركز على "عقد المؤتمر الوطني الجامع مطلع 2019، واغتنامه من أجل التخلي عن استخدام القوة واعتماد جدول زمني لتحقيق تقدم في توحيد المؤسسات.
ويمكن لدول الاتحاد الأوروبي، تغيير مسار الأزمة الليبية المتفاقمة عبر صياغة إستراتيجية تتمحور حول جمع أطراف الحرب، والاتفاق على إحلال الاستقرار قبل إجراء الانتخابات المقبلة في ربيع 2019، بعد فشل تنفيذ بنود إعلان باريس الذي قرر موعد 10 ديسمبر 2018، موعدا لإجراء الانتخابات، دون إعطاء ما يكفي من الوقت للتفاوض بين أطراف الحرب، وصولا إلى وقف شامل للعمليات العسكرية الهادفة لانتزاع السيطرة على أكبر مساحة من المناطق، خاصة مناطق الثروات النفطية التي تفرض قوات حفتر سيطرتها على المساحات الأكبر منها.
إن جميع الأطراف الإقليمية والدولية لها مصالحها الخاصة من التدخل الليبي، بما فيها إيطاليا التي تنظم مؤتمر باليرمو، لذلك سيكون من المفيد دعم توجهات الأمم المتحدة التي طالما تحدث عنها مبعوثها الخاص، والتي تشدد على تشكيل حكومة وفاق وطني جامعة تحظى بقبول الأطراف المحلية تشرف على الانتخابات العامة على أسس دستور يستفتى عليه الشعب بعد توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية وفرض الاستقرار.