نداء الإمام الخامنئي لحجاج بیت الله الحرام لعام 1433 هـ ق

قيم هذا المقال
(0 صوت)

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، و صلوات الله و سلامه على الرسول الأعظم الأمين، و على آله المطهّرين المنتجبين، و صحبه الميامين.

 

حلّ موسم الحج زاخراً بالرحمة و البرکة، و غمر بالفيض الإلهي مرةً أخرى السعداء الذين تشرّفوا بالحضور في ميعاد النور. الزمان و المکان هنا يدعوان کل واحد منکم يا حجّاج بیت الله الحرام للارتقاء المعنوي و المادي. الرجال و النساء المسلمون هنا يلبّون بقلوبهم و ألسنتهم دعوة الله العظيم للصلاح و الفلاح. هنا يجد الجميعُ الفرصة لتجريب الأخوّة و التجانس و الورع. هنا مخيّم للتربية و للتعليم، و معرض لوحدة الأمة الإسلامية و عظمتها و تنوّعها، مخيّم مکافحة الشيطان و الطاغوت. جعل الله الحکيم القدير هذا المکان ليشهد المؤمنون فيه منافع لهم. حين نفتح عيون العقل و العبرة يستغرق هذا الوعد السماوي کل مديات الحياة الفردية و الاجتماعية. تمتاز شعائر الحج بخصوصية امتزاج الدنيا و الآخرة، و تلاحم الفرد و المجتمع. الکعبة العظيمة البسيطة، و طواف الأجسام و القلوب حول محور ثابت أبدي، و السعي و الجهد المستمر المنظم بين مبدأ و منتهى، و الرحلة الجماعية إلى ساحات الحشر و النشور في عرفات و المشعر، و الأشواق و الانفعالات التي تزيد القلوب في هذا المحشر العظيم صفاء و طراوة، و الهجوم العام لمواجهة رمز الشيطان، ثمّ التواکب بين الجميع من کل مکان و لون و نوع في کل هذه المراسم الزاخرة بالرموز و الأسرار، و المفعمة بالمعاني و آيات الهداية.. هي الخصائص الفريدة لهذه الفريضة الطافحة بالمعاني و المضامين.

مثل هذه المراسم هي التي تربط القلوب بذکر الله، و تنير خلوة أفئدة البشر بنور التقوى و الإيمان، و تُخرج الفرد من أسوار الذات لتذيبه في المجموع المتنوّع للأمة الإسلامية، و تلبسه ثياب الورع التي تحمي روحه من سهام المعاصي المسمومة، و تثير فيه روح مهاجمة الشياطين و الطواغيت. هنا يشاهد الحاج بعينه نموذجاً من المديات الواسعة للأمة الإسلامية، و يکتشف إمکانياتها و قدراتها، و يعقد الآمال على المستقبل، و يشعر کذلك بالجاهزية لأداء دوره في ذلك المستقبل، و إذا حظي بتوفيق الله و عونه يبايع الرسول الأعظم (ص) ثانية، و يعقد ميثاقاً قوياً مع الإسلام العزيز، و يوجِد في داخله عزماً راسخاً لإصلاح ذاته و إصلاح الأمة و إعلاء کلمة الإسلام.

و هذان الإثنان، أي إصلاح الذات و إصلاح الأمة فريضتان لا تتعطلان. و سبلهما لن تكون بفضل التعمّق في الواجبات الدينية و الاستلهام من التعقّل و البصيرة صعبةً على أهل التدبّر و التأمّل.

إصلاح الذات يبدأ بمکافحة الأهواء الشيطانية و السعي لاجتناب الذنوب، و إصلاح الأمة ينتظم بمعرفة العدو و مخططاته، و المجاهدة لإحباط ضرباته و مخادعاته و عداواته، ثمّ بتعاضد القلوب و الأيدي و الألسنة بين کل المسلمين و الشعوب الإسلامية.

من أهم القضايا في العالم الإسلامي خلال هذه الفترة الزمنية، و هي قضية ارتبطت بمصير الأمة الإسلامية، الأحداث الثوريّة في شمال أفريقيا و المنطقة، و التي أفضت لحد الآن إلى إسقاط عدة أنظمة فاسدة مطيعة لأمريکا و متعاونة مع الصهيونية، و زلزلة أرکان عدة أنظمة أخرى من هذا القبيل. إذا فوّت المسلمون هذه الفرصة العظيمة، و لم ينتفعوا منها في سبيل إصلاح الأمة الإسلامية، فقد خسروا خسراناً کبيراً. لقد بدأت الآن کل مساعي الاستکبار المعتدي المتدخّل الرامیة إلى حرف هذه التحرکات الإسلامية العظيمة.

في هذه الثورات الکبرى انتفض الرجال و النساء المسلمون ضد استبداد الحکام و سيطرة أمريکا التي أدت إلى امتهان الشعوب و إذلالها و التحالف مع الکيان الصهيوني الإجرامي. و اعتبرت الجماهيرُ الإسلامَ و تعاليمه و شعاراته المنقذة العامل المخلص لها في هذا الکفاح المصيري، و أعلنت عن ذلك بصوت عال. و جعلت الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم و مکافحة الکيان الغاصب على رأس مطاليبها، و مدّت يد الصداقة للشعوب المسلمة و طالبت باتحاد الأمة الإسلامية.

هذه هي أسس الثورات الشعبية في البلدان التي رفعت خلال العامين الأخيرين راية الحرية و الإصلاح، و تواجدت بأجسامها و أرواحها في سوح الثورة، و هذا ما يمکنه ترسيخ الدعائم الأساسية لإصلاح الأمة الإسلامية الکبيرة. الثبات على هذه الأصول الأساسية شرط لازم لانتصار الثورات الجماهيرية في هذه البلدان انتصاراً نهائياً.

يسعى العدو لزعزعة هذه الأرکان الأساسية. و تستغل الأيدي الفاسدة لأمريکا و الناتو و الصهيونية بعض حالات الغفلة و التسطيح لحرف المسيرة العارمة للشباب المسلم و إشعال اشتباکات بينهم باسم الإسلام، و تبديل الجهاد المناهض للاستعمار و الصهيونية إلى إرهاب أعمى في أزقة العالم الإسلامي و شوارعه، حتى تراق دماء المسلمين على أيدي بعضهم، و يتخلص أعداء الإسلام من الطريق المسدود، و يشتهر الإسلام و المجاهدون في سبيله بسوء الصيت و الوجه المشوّه.

و بعد يأسهم من إلغاء الإسلام و الشعارات الإسلامية، عمدوا الآن لإثارة الفتن بين الفرق الإسلامية، و راحوا يضعون العقبات و العراقيل في طريق اتحاد الأمة الإسلامية بمؤامرات التخويف من الشيعة و التخويف من السنّة.

إنهم يخلقون الأزمات في سورية بمساعدة عملائهم في المنطقة ليصرفوا أذهان الشعوب عن قضايا بلدانها المهمة و الأخطار التي تحدّق بهم، إلى الأحداث الدامية التي ساهموا إسهاماً أساسياً في خلقها. الحرب الداخلية في سورية و مقتل الشباب المسلمين على أيدي بعضهم جريمة بدأت و تمّ تأجيجها من قبل أمريکا و الصهيونية و الحکومات المطيعة لهما. من يمکنه أن يصدّق أن الحکومات التي دعمت الدکتاتوريات السوداء في مصر و تونس و ليبيا تحمي الآن مطالبة الشعب السوري بالديمقراطية؟ قضية سورية قضية الانتقام من حکومة وقفت لوحدها طوال ثلاثة عقود أمام الصهاينة الغاصبين، و دافعت عن جماعات المقاومة في فلسطين و لبنان.

إننا نناصر الشعب السوري و نعارض أي تحريض و تدخّل خارجي في سورية. أي إصلاح في هذا البلد يجب أن يتمّ على يد الشعب و بأساليب وطنية تماماً. أن يختلق طلاب الهيمنة الدوليون بمساعدة حکومات المنطقة المطيعة لهم أزمةً في بلد بذريعة من الذرائع، ثمّ يتذرّعوا بوجود تلك الأزمة للسماح لأنفسهم بارتکاب أية جريمة في ذلك البلد، فهذا خطر کبیر إذا لم تعالجه حکومات المنطقة فعليها أن تنتظر دورها في هذه الخدعة الاستکبارية.

أيها الإخوة و الأخوات.. موسم الحج فرصة للتأمّل و التعمّق في قضايا العالم الإسلامي المهمة. و من هذه القضايا مصير ثورات المنطقة و المساعي التي تبذلها القوى المتضرّرة من هذه الثورات لتحريفها. المخططات الخيانية لبث الخلافات و الفرقة بين المسلمين، و إشاعة سوء الظن و عدم الثقة بين البلدان الثائرة و الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و قضية فلسطين و المساعي الرامية لعزل المناضلين و إطفاء جذوة الجهاد الفلسطيني، و الأداء الإعلامي للحکومات الغربية المعادي للإسلام، و دعمهم لمن أهانوا المنزلة المقدسة للرسول الأعظم (صلى الله عليه و آله)، و التمهيد لحروب داخلية و تجزئة بعض البلدان المسلمة، و إخافة الحکومات و الشعوب الثائرة من معارضة طلاب الهيمنة الغربيين، و الترويج لوهم أن مستقبلهم رهن بالاستسلام أمام المعتدين.. و غير ذلك من مثل هذه القضايا المهمة و الحيوية، هي في عداد القضايا المهمة التي يجب أن يجري التأمّل و التعمّق فيها خلال فرصة الحج، و في ظل التعاطف و التقارب بينکم أيها الحجاج.

لا مراء أن الهداية و الإرشاد الإلهيين سوف يدلّان المؤمنين على سبل الأمن و السلامة.. «و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا..».

و السلام عليکم و رحمة الله و برکاته.

 

السيد علي الخامنئي

30 مهر 1391 هـ ش الموافق للخامس من ذي الحجة 1433 هـ ق

قراءة 1698 مرة