أنور الهواري
كاتب وصحفي مصري
عشرات الطلاب يرفعون الأعلام الفلسطينية في جامعة ميشيغان خلال حفل تخرجهم (مواقع التواصل الاجتماعي)
أستعير مصطلح " صحوة الشرق " من مقال قديم يعود إلى 31 من أغسطس/آب 1997م، كتبه المفكر اليساري المصري الفرنسي الدكتور أنور عبد الملك 1924 – 2012م، تناول فيه ما أسماه " حضارة الغرب المتأزمة " و " صحوة الشرق "، وقد عرّف ما يقصدُه بالشرق بقوله: " وخاصةً ما يمتّ إلى القطاع المصري – العربي – الإسلامي".
وقد تذكرت المقال ورجعت إليه بعد أن توالت المفاجآت من العيار الثقيل في حرب الإبادة على غزة، حيث إن المقاومة ثبت أن أقوى سلاحها هو ما تملكه من رصيد هائل من قيم الفداء والثبات والتضحية في سبيل الحق والحرية والعدل، نور الضمير الفلسطيني الحي الذي ظنت إسرائيل أنها قد أحاطت به حتى دفعته لليأس، ثم الاستسلام لضرورات الواقع، نور الضمير الذي كشف الطابع العنصري الوحشي للدولة الصهيونية، كما بدَّد ظلمات التخاذل العربي الإسلامي، كما فضح تواطؤ العواصم الكبرى التي باتت خاضعةً لمصالح الصهيونيّة أكثر بكثير من خضوعها لمصالح شعوبها، نور الضمير الفلسطيني الذي أعادت المقاومة إشعاعه في لحظة كانت تبدو معاكسة وغير مواتية تمامًا.
احتجاج أخلاقي
هذا الضمير أخجل المتخاذلين من حكّام ونخب وذوي المصالح من العرب والمسلمين، كما أن هذا الضمير أيقظ حركة احتجاجٍ أخلاقيةٍ كبرى في عواصم الغرب الكبرى، هو احتجاج أخلاقي على السياسة الأوروبية – الأميركية في الشرق الأوسط، كما هو احتجاج أخلاقي على ما آلت إليه حضارة الغرب الرأسمالي من انفصال كامل عن منظومة القيم الجوهرية التي كانت أعمدة الثورات الفكرية والعلمية والسياسية في الغرب على مدى القرون الخمسة الأخيرة.
فالديمقراطية الغربية باتت وعاءً وأداةً لخدمة أقليات ذات مصالح تتداول على السلطة، هذه الأقليات ومعها الإعلام الذي يخدمها مجرد رهائن مربوطة بحبال مرئيّة أو غير مرئيّة في يد الصهيونيّة التي تموّل الحملات الانتخابية، كما تملك الإعلام، ومن ثَم تملك أخطر أمرَين: تملك صناعة النخب التي بدورها تصنع القرار، كما تملك توجيه الرأي العام، وبهذا وذاك يحدث ما يشبه التخدير، ثم التنويم الذي يضع المجتمعات الغربية في قبضة الصهيونيّة.
هذه الاحتجاجات الواسعة في جامعات أميركا بالذات لم تكن في الخيال، هي في احتجاجها ضد المؤسسة السياسية في الغرب أشبه ما تكون باحتجاجات مارتن لوثر 1483م – 1546م، ثم جون كالفن 1509م – 1564م، على المؤسسة الدينية؛ أي الكنيسة الكاثوليكية التي كانت صاحبة السيادة في شؤون الدين والدنيا على مدى ألف عام أو يزيد من تاريخ أوروبا. هذه الاحتجاجات نوّرت طريقَها قيمُ المقاومة وضميرها وبطولتها في نصرة قيم الحرية والحق والعدل، قيم الإنسانية الواحدة التي ضَمُرت تحت وطأة العنفِ والأثرة الموجهين الحاكمين للمؤسسة السياسية الغربية.
مقال الدكتور أنور عبدالملك في 31 من أغسطس/آب 1997م، كان قد كتبه – بعاطفة ممتّقدة – من وحي اليوم العالمي للشباب في 12 من أغسطس/آب من العام ذاته، حيث احتفل مليون ونصف المليون شاب من مختلف جنسيات العالم باليوم العالمي للشباب في باريس، فقد هزّ المشهد مشاعره من الأعماق، فكتب يتساءل: " هل الظواهر السلبية في العالم وما تحدثه من نزيف عميق في وجدان وفؤاد وقلوب الأجيال الجديدة يدفع بها دفعًا نحو الإيمانية، والقيم الأخلاقية، والتوجه الحضاري، في وجه أدعياء العلم باسم العلمانية، وفي وجه أعداء التحرر الوطني باسم الليبرالية الغربية، وفي وجه أنصار الصهيونية باسم الحداثة، وفي وجه التطبيع باسم الواقعية ؟ ". انتهى الاقتباس.
استنزاف معنى الإنسان
ولست أدري ماذا كان سيكتب لو عاش هذا الرجل العظيم ليرى نبوءته تتحقق على الأرض بعد ما يقرب من سبعة وعشرين عامًا على كتابتها، حيث جسارة المقاومة الشريفة في فلسطين توقظ ضمائر العالم في أكثر الأماكن التصاقًا بالضمير؛ أي: الشباب ومعاهد العلم ومدارس الفكر، حيث موطن الضمير ومنبعه. مثلما كانت حركة الإصلاح الديني قبل خمسة قرون تواجه فساد الكنيسة الكاثوليكية التي أضاعت جوهر الدين في سبيل مصالح البابوية ومن حولها من شبكات الانتفاع والنفوذ، فكذلك احتجاجات الجامعات ضد فساد المؤسسة السياسية ونخبها الرهينة لدى التمويل والإعلام وشبكات المنافع والمصالح والنفوذ الصهيونية.
وقد يسأل سائل: هل هذه صحوة الشرق أم صحوة الغرب ؟. هما كلتا الصحوتين في وقت واحد:
1- صحوة الشرق مما كان قد آل إليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م من ظواهر سلبية لخصّها الدكتور أنور عبدالملك قبل سبعة وعشرين عامًا في: ادعاء العلم باسم العلمانية، والعداء للتحرر الوطني باسم الليبرالية، والانحياز للصهيونية باسم الحداثة، والسعي للتطبيع باسم الواقعية، لاشك أن المقاومة الشريفة وضعت كل ذلك في موضعه الصحيح من التاريخ، مجرد انتكاسة في تفكير حكام ونخب العرب والمسلمين، انتكاسة مرتدة لها سوابق في التاريخ بالذات في مراحل التخدير والتنويم، ثم تتوفر عوامل الإفاقة، فيزول أثر التخدير، كما يزول النوم، فيدرك الناس الحقّ والحقيقة على وجههما الصحيح.
2- ثم هي صحوة للغرب، بمعنى صحوة وعي ويقظة ضمير، أو بتعبير الدكتور أنور عبدالملك: اندفاع قلوب الأجيال الجديدة دفعًا نحو ثلاثة أشياء: الإيمانية، القيم الأخلاقية، التوجه الحضاري، والثلاثة لم يعد لها من مكان في حضارة الغرب بعد التطور غير المسبوق في التكنولوجيا مترافقًا مع استنزاف رأسمالي لمعنى الإنسان من لحظة مولده حتى لحظة وفاته، ثم مع أيلولة الحضارة الغربية للخضوع لتفوق اليهود في كل المجالات؛ حتى تمكّنوا من قيادة الحضارة الغربية ورسم ملامحها .
الفرق بين صحوة الضمير في الشرق والغرب، أن الشرق محكوم بدكتاتوريات لا تحتمل ولا تطيق مواجهة مع شبابها في معاهد العلم، أما الغرب – فرغم فساد ديمقراطيته الراهنة – فإن أهله يحصدون ويتمتعون بثمرات كفاح بطولي على مدى عدة قرون من أجل تحصين الحريات الفردية والعامة وغلّ يد الحكام عن المساس بها، لدى شعوب الغرب تاريخ من التمرين والتدريب على ممارسة الحرية والدفاع عنها، فكم قطعوا – في سبيلها – رقاب ملوك عظام أكابر كانوا يزعمون الحكم بالحق الإلهي، وأنهم نواب الله وظله على الأرض، ورغم هذا فلولا عظمة البطولة في غزة لما كانت هذه الصحوة للضمير في الغرب.
استدعاء الضمير في معالجة الحق الفلسطيني بات واجبًا، أقصد الضمير الغربي، ففي المائة والخمسين عامًا الأخيرة، أي من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا في خواتيم الربع الأول من القرن العشرين، وهي مجمل عمر وتاريخ الصهيونية كفكرة، ثم كمشروع، ثم كدولة في فلسطين، ثم كقائدة في الشرق الأوسط، ثم كقوة هيمنة في الحضارة الغربية، على مدى هذا التاريخ كله، كان الغائب دائمًا هو الضمير الغربي فيما يخصّ الحق الفلسطيني،.
استدعاء الضمير الغربي
المصالح المادية الآنية العاجلة كانت توجه قرارات الساسة ونخب الحكم، وكانت السطوة الإعلامية مع الدعاية الصهيونية توجه الرأي العام، فلم يفكر الحكام من بريطانيا الربع الأول من القرن العشرين حتى أميركا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين في غير مطالب الصهيونية وإملاءاتها سواء وافقت الحق أو العدل، أم كانت محض باطل ومحض ظلم.
على مدى المائة والخمسين عامًا وحتى لحظتنا هذه أهواء الصهيونية تتم ترجمتها – في عواصم الغرب ومراكز الحكم فيه – إلى قرارات وسياسات وتوجهات ملزمة للغرب، ومن بعده تكون ملزمة للعالم كله، كان الظن – وما زال – هو أن القوةَ تُغني عن الحق والمال بديلًا عن الضمير، والسلاح يكفي لتسوية أعتى العقبات، ولكن صمود المقاومة الشريفة من 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023م حتى نشر هذه السطور في 9 مايو 2024م، ورغم وفرة المال والسلاح من كل عواصم الغرب في خدمة الجيش الإسرائيلي، ورغم تسوية عمران غزة بالأرض، ورغم عشرات الآلاف من الشهداء، رغم ذلك كله لم تفلح القوة ولا المال ولا السلاح ولا الإبادة في إسكات الحق الفلسطيني.
فالعكس هو الذي حدث، وحدث من تلقاء نفسه ودون قصد ولا تخطيط من أحد، الذي حدث هو أن الحق الفلسطيني أنطق ضمير الإنسانية، أنطق ضمائر شباب الغرب ليشهد أن ما يفعله حكام الغرب ليس أقل من جريمة منحطة يندى لها جبين كل إنسان سويّ النفس مستقيم الطبع سليم الفطرة.
لكن يواجهنا السؤال: هل يكفي احتجاج الجامعات لاستدعاء الضمير الغربي الغائب حتى الموت؟ ولو نجح في استدعائه فكيف يتعامل مع الواقع المعقّد على الأرض، حيث تمَّ تهجيرُ، ثم توطين نصف يهود العالم في فلسطين، وفي المقابل تمَّ تهجير نصف سكّان فلسطين منها ؟. يكفينا أن يتمَّ استدعاء الضمير الغربي، حتى ولو في دوائر المثالية الشبابية والأخلاقية الأكاديمية، هذا يكفي في هذه المرحلة من إعادة خلق مناخ دولي متفهم ومتعاطف مع الحق الفلسطيني، هذا في حدّ ذاته كسب كبير، وليس مطلوبًا أن يُثمر على الفور تغييرات عاجلة أو جذرية في سياسات العواصم الغربية الكبرى، يكفي أن يَحدث توقفٌ ومساءلةٌ ومراجعة ونقد ومحاسبة لمسار التحيّز الغربيّ لصالح الصهيونية في المائة والخمسين عامًا الأخيرة.
كسْب ضمائر الشعوب الحرة من شركائنا على ظهر الأرض هو – في حد ذاته – باب مهم من أبواب النضال الفلسطيني المشروع، لقد حدث وانفتح الباب من تلقاء نفسه دون تخطيط ولا جهد مقصود، وبقي أن ننتبه له، ونتقدم فيه، ونكسب مساحات جديدة، ونتمرّن على هذا اللون من ألوان العمل بما يستلزمه من إعادة تقديم القضية الفلسطينية كقضية لكل الإنسانية العادلة الحرّة، وليست فقط قضية لقومية بذاتها ولا دين بذاته ولا إقليم بذاته، قضية شعب لم يبدأ أحدًا بالعدوان، لم يغتصب أرض أحد، لم يظلم شعبًا آخر، قضية شعب ثائر، اغتُصبت أرضه، وأُخرج من دياره، ويتعرض لمخطط طويل المدى لأجل محوه من الوجود وإبادته. كسْب الضمائر هو – من الآن فصاعدًا – أوسع أبواب النضال الفلسطيني في القادم من الزمن، يلزم كسب ضمائر الأحرار لمحاصرة مثلث: القوة والمال والسلاح الصهيوني – الغربيّ.
تجربة فريدة
اليهود هم أفضل من نتعلم من تجربتهم في هذا النضال، فعندما سقطت غرناطة آخر مراكز الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية 1492م كانت الكاثوليكية المنتصرة تسعى سعيها لاجتثاث اليهود والمسلمين معًا، وعبر ما يزيد قليلًا على خمسة قرون صار يهود العالم – وهم لا يمثلون أية نسبة عددية لها وزن من مجمل سكان العالم، فلا يزيدون على خمسة عشر مليونًا – مكونًا أصيلًا في بنية الحضارة الإنسانية، بحيث بات من المستحيل إلحاق الضرر بهم دون إلحاق الضرر بالحضارة ذاتها.
لليهود – عبر خَمسمائة عام – تجربة فريدة في كسب تعاطف القوى النافذة في العالم، بما يعني أن لديهم تجربة في تحويل قوى العداء إلى قوى تأييد. وخسارة اليهود الكبرى بعد تأسيس الدولة الصهيونية باسمهم ولهم وحصرًا عليهم، هي أن ما تمارسه من عدوانية وحشية بربرية بات يقلب المعادلة، بات يحوِّل قوى التأييد إلى قوى عداء.
نحن في صراع ممتدٍّ، يلزمنا فيه أن نفقَه كيف يفكّر العدوّ ؟ كيف انتقل في خمسمائة عام من رهائن محبوسين في حارات مظلمة مغلقة مهمشة ضيقة قذرة إلى قمّة العالم، حيث لا يجرؤ حكّام أعتى إمبراطورية معاصرة على أن يرفضوا للدولة الصهيونية طلبًا ؟.
المصدر :الجزیره