ورُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ دَفَعَ الشَّرَّ بِالْخَيرِ غَلَبَ، ومَنْ دَفَعَ الْخَيرَ بِالسُّوءِ غُلِبَ".
معادلة أخرى يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع)، تُرسي لنا منهجاً إسلامياً عظيماً في التعامل مع الآخرين والردَ على شرورهم ومكافئتهم على الخير حين يصدر منهم، وهذا منهج يمتاز به الإنسان الأخلاقي عن الإنسان الغير أخلاقي في تعامله مع الآخرين، فإذا كان سيِّءُ الأخلاق يدفع الشرَّ بالشَّرِّ، انتقاماً لنفسه، ويدفع الخيرَ بالسُّوء، جحوداً للخير والفضل، فإن الشخص الأخلاقي يعامل الآخرين بأخلاقه، ولا يعاملهم بمثل ما عاملوه به، وإلا صار مِثلهم، وانتفت ميزته التي تميِّزه عنهم.
الإنسان الأخلاقي تضبطه أخلاقه ويتعامل مع الناس على أساسها، والأخلاق لا تَشُعُّ وتتجوهر إلا في الخصومات والنزاعات والمعاملات، والإنسان الأخلاقي يعترف بالفضل ويشكره، ويمتدح صاحبه ولو كان خصماً له، ويدفع الشرَّ بالخير لأنه قد انتزع الشَّرَّ من نفسه، ولأنه يريد أن يُصلِح الشِّرير ويستنقذه من شَرِّه، ولهذا خاطب الله تعالى رسوله الأكرم (ص) وخاطب من خلاله كل الدُّعاة إليه بل كل مؤمن أن يدفع الإساءة بالحَسَنة، والشَّرَّ بالخير، ونَبَّه إلى أن دفع السَّيِّئة بالسَّيِّئة من هَمَزات الشيطان وقِيَمِه، ومن يستمع إلى الشيطان ويستجيب له ويعمل بقِيَمه، فهو مخذول مغلوب واقعاً، ولو كانت الغَلَبة له ظاهراً، فقال سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴿96﴾ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴿97﴾ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴿98/ المؤمنون﴾.
وقال سبحانه: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿34﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿35﴾ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿36/ فُصِّلَت﴾.
إن الحَسَنة لا تتساوى مع السَّيِّئة بحال من الأحوال في حكم العقل السليم والفطرة الصافية، والله يحبُّ الحَسَنَة ويكره السَّيِّئة، ويريد للمؤمن أن يكون حَسناً في أخلاقه، وحَسَناً في تعاملاته، وحَسَناً في ردود أفعاله، وحَسَناً في انفعالاته، كما يريد منه أن يُصلِح الآخر ويجتذبه، ويحوِّله من عَدُوٍ إلى وَلِيٍ حميم، ولا شكَّ في أن هذا النحو من التعامل يحتاج إلى صبر ووعي، وتهذيب للنفس، ومهارة الإمساك بنوازعها وغرائزها، والسيطرة على انفعالاتها، ولَمّا كان الشيطان لا يفتأ ينزغ الإنسان ويوَسوِس له فإن الاستعاذة بالله منه تقي من الاستجابة له، وتقي من القيام بردود أفعال غير أخلاقية تدوس على القيم لمصلحة الانتقام للذات، والاستجابة للهوى.
إن دفع الشَّرِّ بالخير منهج إسلامي أخلاقي في التعامل مع هفوات الآخرين وزلاتهم وسقطاتهم ومواقفهم المتسرِّعة، وبه تكون الغَلَبة الأخلاقية والمعنوية، فإذا واجهك شخص بالعدوان أو الإساءة، وردَدْت عليه بالإحسان، فإنك تكسب احترامه أو على الأقل تُخمِد سَعير وسُعار شَرِّه، رد فعلك الطيب هذا يخلق أثراً إيجابياً في نفسه ويشجعه على تحسين سلوكه.
ودفع الخير بالسُّوء يعني مقابلة الإحسان بالإساءة، والمغلوب هنا ليس بالضرورة من منظور القوة، ولكن من منظور القيم والمبادئ الأخلاقية، فمن يرُدُّ بالإساءة على الإحسان يخسر احترام الناس ومكانته الأخلاقية، بل يخسر نفسه وأخلاقه، ويعيش في حالة سلبية ويمتلئ بالحقد والأنانية.
والشخص الذي يتحلّى بفضيلة العفو والصَّفح هو الغالب لأنه يتمتع براحة نفسية ويُنظرُ إليه باحترام، الغلبة هنا ليست بالقوة الجسدية أو المادية، بل بالهيمنة الأخلاقية والروحية التي تُكسِب الإنسان السكينة وتحفظ له مكانته.