الحیاة البرزخیة - 1

قيم هذا المقال
(0 صوت)

استمرار الحياة بعد الانتقال من الدنيا الی البرزخ:

هناک کثیر من الآیات وایضا الروایات متضافرة فی الدلالة علی الحیاة البرزخیه ولکن نحن فی هذا المجال، نذکر من الآیات ما یدل علیها:

الآية الأُولى:

قال سبحانه * اللهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتها والتَّي لَمْ تَمُتْ في منَامِها فَيُمسِكُ الّتي قَضَى عَليها الموتُ ويُرسِلُ الأُخرى إلى أجل مُسمّىً إنّ في ذلكَ لآيات لِقوم يتَفكَّرون*[1]

توضيح الاستدلال يتوقف على التمعّن في أمرين :

1-المراد بالأنفس هي الأرواح المتعلّقة بالأبدان لا مجموعهما; لأنّ المقبوض عند الموت ليس هو المجموع ، بل المقبوض هو الروح ، والآية تدلّ على أنّ الأنفس تغاير الأبدان حيث تفارقها وتستقلّ عنها وتبقى بحياله[2].

2-ان لفظة «يتوفّى» و «يمسك» و «يرسل» تدلّ على أنّ هناك جوهراً غير البدن المادّي في الكيان الإنساني ، وليس المراد من التوفّي في الآية إلاّ أخذ الأنفس وقبضها ، ومعناها أنّه سبحانه يقبض الأنفس إليه ، وقت موتها ومنامها ، بيد أنّ من قضى عليه بالموت يمسكها إلى يوم القيامة ولا تعود إلى الدنيا ، ومن لم يقض عليه به يرسلها إلى الدنيا إلى أجل مسمّى ، فأيّة دلالة أوضح من قوله أنّه سبحانه يمسك الأنفس ، فهل يمكن إمساك المعدوم أو أنّه يتعلّق بالأمر الموجود؟ وليس ذلك إلاّ الأنفس .

الآية الثانية:

قوله سبحانه :  ولا تَقولُوا لِمَنْ يُقتَلُ في سَبيلِ اللهِ أمواتٌ بَلْ أحياءٌ ولكنْ لا تَشعُرون[3]

وقد جاء في أسباب نزولها ، أنّ المشركين كانوا يقولون : إنّ أصحاب محمّد  ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقتلون أنفسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون ، فأعلمهم الله أنه ليس الأمر على ما قالوه ، بل هم أحياء على الحقيقة إلى يوم القيامة [4]

وأدب التفسير الصحيح يبعثنا على أن نفسّر الحياة بمعناها الحقيقي أي ما يفهمه عموم الناس من لفظة «حيّ» خصوصاً بقرينة الآية الثالثة; حيث أثبتت للشهداء الرزق والفرح والاستبشار كما سيجيء ، فتفسير الآية بأنّهم سيحيون يوم القيامة تفسير باطل; لأنّ الإحياء في ذلك اليوم عامّ لجميع الناس ولا يختصّ بالشهداء ، كما أنّ تفسير الحياة في الآية بمعنى الهداية والطاعة قياساً لها بقوله سبحانه* أوَ مَنْ كانَ مَيْتَاً فَأحيَيناهُ وجَعلْنا لَهُ نُوراً يَمشي بهِ في النّاس* [5]حيث جعل الضلال موتاً والهداية حياة قياس باطل; لوجود القرينة على تفسير الحياة بالهداية والموت بالضلال فيها دون هذه الآية .

وسيوافيك تفنيد هذين الرأيين عن الرازي في تفسير الآية الثالثة .

ومعنى الآية *ولا تَقولوا لِمَنْ يُقتلُ فِي سبيلِ اللهِ أمواتٌ* أي لا تعتقدوا فيهم الفناء والبطلان ، فليسوا بأموات بمعنى البطلان ، بل أحياء ولكن حواسّكم لا تنال ذلك ولا تشعر به .

وعلى ذلك فالآيتان تثبتان للشهداء حياة برزخية غير الحياة الدنيوية وغير الأُخروية ، بل حياة متوسطة بين العالمين .

الآية الثالثة:

قال سبحانه :

1-ولا تَحسبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللهِ أمواتاً بلْ أحياءٌ عندَ ربِّهِمْ  يُرزَقُونَ

2-فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضلِهِ ويَستبشرونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بهِمْ مِنْ خَلفِهِمْ ألاّ خَوفٌ عَلَيهمْ ولا هُمْ يَحزَنُونَ .

3- يَستَبشِرُونَ بِنعمة مِنَ اللهِ وفَضل وأنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجْرَ المُؤمنين[6]

والآيات هذه صريحة ـ كلّ الصراحة ـ في بقاء الأرواح بعد مفارقتها الأبدان ، وبعد انحلال الأجسام وتفكّكها كما يتّضح ذلك من التمعّن في المقاطع الأربعة الآتية :

1- أحياءٌ عند ربّهم

2- يُرزَقون

3- فَرِحينَ

4-َستَبشِرونَ

فالمقطع الثاني يشير إلى التنّعم بالنعم الإلهية ، والثالث والرابع يشيران إلى النعم الروحية والمعنوية ، وفي الآية دلالة واضحة على بقاء الشهداء بعد الموت إلى يوم القيامة .

وقد نزلت الآية إمّا في شهداء بدر; وكانوا أربعة عشر رجلا; ثمانية من الأنصار ، وستّة من المهاجرين ، وإمّا في شهداء أُحد; وكانوا سبعين رجلا; أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ، ومصعب بن عمير ، وعثمان بن شماس ، وعبد الله بن جحش ، والبقية من الأنصار ، وعلى قول نزلت في حقّ كلتا الطائفتين .

قال الرازي في تفسير الآية : إنهم في الوقت أحياء كأنّ الله أحياهم ، لإيصال الثواب إليهم ، وهذا قول أكثر المفسرين ، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور .

ثم أشار إلى التفسيرين الآخرين الّلذين أوعزنا إليهما :

أحدهما : للأصمّ; حيث فسّر الحياة بالحياة الدينية ، وأنّهم على هدى من ربّهم ونور .

وثانيهما : لبعض المعتزلة ، وأنّ المراد من كونهم أحياء أنّهم سيُحيون .

ثم قال : إنّ أكثر العلماء على ترجيح القول الأوّل ، ثم فنّد الرأيين الأخيرين بوجوه نذكر بعضها :

1- لو كان المراد ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : *ولكن لا تشعرون* معنى; لأنّ الخطاب للمؤمنين وقد كانوا يعلمون أنّهم سيحيون يوم القيامة ، وأنّهم على هدى ونور .

2- أنّ قوله : *ويستبشرون بالَّذِين لم يلحقوا بهم *

دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ، أي : ويستبشرون بأُناس لم يلحقوا بهم وهم في الدنيا ، فإذا كان هذا ظرف الاستبشار فيكون هو ظرف الحياة ويكون قبل البعث .

3- لو كان المراد أحد المعنيين لا يبقى لتخصيص الشهداء بهذا فائدة; فإنّ غيرهم وكثيراً من غير الشهداء على نور وهدى من ربّهم .

وما أجاب به أبو مسلم أنّه سبحانه إنّما خصّهم بالذكر; لأنّ درجتهم في الجنّة أرفع ومنزلتهم أرفع ضعيف; لأنّ منزلة النبيّين والصدّيقين أعظم من الشهداء مع أنّه سبحانه ما خصّهم بالذكر[7]

الآية الرابعة:

قوله سبحانه : وجاءَ مِنْ أقْصَى المَدِينة رجلٌ يَسعَى قالَ يا قوم اتَّبِعوا المُرسَلِيَن * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسأَلُكمْ أجراً وهُمْ مُهتدُونَ * ومالِيَ لا أعبُدُ الَّذي فَطَرني وإلَيهِ تُرجَعُونَ * أأتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلهةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحمنُ بُضرّ لا تُغْنِ عنِّي شَفاعتُهُمْ شَيئاً ولا يُنقِذونَ * إنيّ إذاً لفي ضلال مُبين * إنِّي آمَنتُ بِربِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قيلَ ادخُلِ الجَنَّةَ قالَ يا ليتَ قَومي يَعلَمونَ * بِما غَفَر لي رَبِّي وجَعَلني مِن المُكرَمِينَ * وما أنزَلْنا على قَومِهِ مِنْ بَعدِهِ مِنْ جُند مِنَ السَّماءِ وما كُنّا مُنْزِلِينَ * إنْ كانت إلاّ صَيحةً واحدةً فإذا هُمْ خَامِدُونَ*  [8]

اتّفق المفسرون على أنّ الآيات نزلت في رُسل عيسى ، وقد نزلوا بأنطاكية داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غيره سبحانه ، فعارضهم من كان فيها بوجوه مذكورة في القرآن .

فبينما كان القوم والرسل يتحاجّون إذ جاء رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى الله سبحانه وقال لهم :

اتّبعوا معاشر الكفار من لا يطلبون منكم الأجر ولا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم مهتدون إلى طريق الحق ، سالكون سبيله.

فإذا بالكفار قد هاجموه فرجموه حتى قتل .

ولكنّه سبحانه جزاه بالأمر بدخول الجنة بقوله: *قيلَ ادخُلِ الجَنَّة*  فلمّا دخل الجنة خاطب قومه الذين قتلوه بقوله *يا ليتَ قومي يعلمون * بما غفر لي ربِّي وجعلني من المُكرمين .

ودلالة الآية على بقاء النفس وإدراكها وشعورها وإرسالها الخطابات إلى من في الحياة الدنيا واضحة جداً ، حيث كانَ دخول الجنة* قيل ادخُلِ الجَنَّة * والتمنّي * يا ليت قومي * كان قبل قيام الساعة ، والمراد من الجنة هي الجنة البرزخية دون الأُخروية .

الآية الخامسة:

قال سبحانه :( فَوقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بآلِ فِرعَوْنَ سوءُ العَذاب  * النّارُ يُعْرَضُونَ عَليها غُدُوّاً وعَشيّاً ويوم تقومُ السّاعةُ أدْخِلُوا آلَ فِرعونَ أشدَّ العَذابِ[9]

والآية صريحة في أنّه سبحانه أحاط بآل فرعون سوءالعذاب، وأما كيفية عذابهم فتدلّ الآية على:

أوّلا : أنّ هناك عرضاً لهم على النار وإدخالا لهم فيها ، والثاني أشدّ من الأول .

ثانياً : أنّ العرض على النار قبل قيام الساعة ، كما أنّ الإدخال حين قيامها .

وثالثاً : أنّ التعذيب بعد الموت وقبل قيام الساعة (البرزخ) والتعذيب عند قيام الساعة ، بشيء واحد وهو نار الآخرة ، لكن العذاب قبل قيامها بالعرض على النار ، وبعد قيامها بالدخول فيها ، وينتج أنّ البرزخيّين يعذّبون من بعيد وأهل الآخرة بالدخول .

ورابعاً : أنّ آل فرعون وإن ماتوا بالغرق في البحر ، لكن موتهم لم يكن بمعنى بطلانهم وفنائهم رأساً ، بل بمعنى خروج أرواحهم من أبدانهم وانتقالهم إلى عالم آخر حائل بين العالمين ، فقُضيَ عليهم بسوء العذاب إلى يوم القيامة بالعرض على النار ، والدخول فيها بعد قيامها ، ولو لم يكن إحياء ، فلا معنى لتعذيب الجماد الفاقد للشعور بالعرض على النار .

وخامساً : أنّ شخصية آل فرعون بأرواحهم لا بأبدانهم ، بشهادة بطلان أجسادهم وتشتّت أجزائها ، لكنّهم معادون بعد الموت بالعرض على النار ، وبالدخول فيها بعد قيام الساعة .

الآية السادسة:

حتّى إذا جاءَ أحدَهُمُ المَوتُ قالَ ربِّ ارجِعُونِ * لَعَلِّي أعملُ صالحاً فِيما تَركتُ كلاّ إنّها كَلمةٌ هوَ قائِلُها ومِنْ ورائِهِمْ بَرزخٌ إلى يومِ يُبعَثُونَ [10]

وقبل أن ننّوه بدلالة الآية على بقاء الحياة بعد الموت نفسر لفظين من الآية :

أحدهما :«البرزخ» ، وهو الحاجز بين الشيئين .

والثاني : لفظة «وراء»

وهو في الآية بمعنى أمام ، ومعنى قوله*ومن ورائهم*أي : من أمامهم وقدّامهم .

قال سبحانه* وكانَ وَراءَهم مَلِكٌ يأخُذُ كلَّ سفينة غَصْبا *[11]

والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

1-إنّ الإنسان المذنب يرى حين الموت ما أُعدّ له في مستقبل أمره من عذاب أليم ، ولأجل ذلك يطلب من ملائكة الله أن يرجعوه إلى عالم الدنيا ، حتى يتدارك ما فاته ويتلافى ما فرّط ، وإلى هذا يشير قوله سبحانه* حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ*  .

2- إنّ قوله تعالى : * ومِنْ ورائِهمْ برزخٌ إلى يومِ يُبعَثون *

تصريح لا غموض فيه بوجود حياة متوسطة بين الموت والبعث ، وإنّما سميت برزخاً لكونها حائلا بين الدنيا والآخرة ، ولا تتحقق الحيلولة إلاّ بأن يكون للإنسان واقعية في هذا الحدّ الفاصل; إذ لو كان الإنسان بين هاتين الفترتين معدوماً لما صحّ أن يقال بين الحالتين برزخٌ ، وهو حائل وفاصل بين الإنسان في الدنيا والإنسان في الآخرة .

الآية السابعة:

ولَوْ تَرى إذ الظّالمونَ في غَمَرات المَوتِ والمَلائكةُ باسِطوا أيدِيِهمْ أخْرِجُوا أنفُسَكُمُ اليومَ تُجزَونَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنتمْ تَقولُونَ عَلى اللهِ غيرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عنْ آياتهِ تَستَكْبِرونَ[12]

والاستدلال بالآية على بقاء الروح بعد فناء الجسد من طريقين :

أ ـ قوله : أخرجوا أنفسكم

صريح في أنّ الملائكة تنتزع الروح من البدن ويعني هذا أنّ المتروك هو البدن ، وأمّا الروح فتؤخذ وتخرج من الجسد إخراجاً .

ب ـ إنّ ظاهر قوله : اليوم تُجزون عذابَ الهُون

هو الإشارة إلى يوم الموت ، وساعته ، ولو كان الموت فناءً كاملا للإنسان لما كان لهذه العبارة معنى ، إذ بعد فناء الإنسان فناءً كاملا شاملا لا يمكن أن يحسّ بشيء من العذاب .

ومن هنا يتبيّن أنّ الفاني إنّما هو الجسد ، وأمّا الروح فتبقى وترى العذاب الهون وتذوقه وتحسّ به .

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير هذه الآية : إنّ كلامه تعالى ظاهر في أنّ النفس ليست من جنس البدن ، ولا من سنخ الأُمور المادية الجسمانية ، وإنّما لها سنخ آخر من الوجود يتّحد مع البدن ويتعلّق به نوعاً من الاتحاد والتعلّق غير مادّي .

فالمراد بقوله: * أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ* قطع علقة أنفسهم من أبدانهم وهو الموت[13]

الآية الثامنة:

ولَوْ تَرى إذْ يتَوفّى الَّذينَ كَفَروا الملائِكَةُ يَضْرِبونَ وُجُوهَهُمْ وأَدْبارَهُمْ وذُوقُوا عَذابَ الحريقِ * ذلكَ بِما قَدَّمَتْ أيديكُمْ وأَنَّ اللهَ ليسَ بِظلاّم  لِلعَبيد[14]

تدلّ الآية على أنّ الكافرين يعذَّبون حين الموت بوجهين :

الأوّل : بضرب الملائكةِ وجوهَهم وأدبارهم ، وقد أُشير إليه في آية أُخرى أيضاً ، قال

سبحانه:*فَكيفَ إذا تَوفَّتهُمُ الملائكةُ يَضرِبونَ وُجوهَهُمْ وأدبارَهُمْ*  [15]

الثاني : بعذاب الحريق ، الذي يدلّ عليه قوله سبحانه*ذُوقوا عَذابَ الحريقِ *فالآية تدلّ على أنّ هناك عذابين منفصلين موضوعاً ومحمولا ، فالعذاب الأوّل موضوعه الجسد ، والثاني موضوعه روح الإنسان المنتقل إلى الحياة غير الدنيوية .

الآية التاسعة:

قال سبحانه  *مِمّا خطيئاتهم أُغرِقُوا فأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أنصارا *[16] والآية نازلة في شأن قوم نوح الذين غرقوا لخطيئاتهم أوّلا  فأُدخلوا ناراً  ثانياً .

ومن المفسرين من فسر الجملة الثانية بنار الآخرة ويقول : جيء بصيغة الماضي لكون تحقّقه قطعيا.[17]ولكنّه بعيد; لأنّ ظاهر الآية كون الدخول في النار متّصلا بغرقهم لا منفصلا ، بشهادة تخلّل لفظة «فاء» وإلاّ كان اللازم التعبير بـ  «ثم.

الآية العاشرة:

قوله سبحانه : قالُوا رَبّنا أمَتَّنَا اثنَتينِ وأحْيَيتنا اثنتَينِ فَاعترَفنا بِذُنوبِنا فَهلْ إلى خروج مِنْ سَبيل[18]

الآية تدلّ بوضوح على أنّه مرّت على الإنسان المحشور يوم القيامة ، إماتتان وإحياءان .

فالإماتة الأُولى : هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا .

والإحياء الأوّل : هو الإحياء بعد الانتقال منها .

والإماتة الثانية : قُبيل القيامة عند نفخ الصور الأوّل .

والإحياء الثاني : عند نفخ الصور الثاني .

قال سبحانه: *ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السَّموات وَمنْ في الأرضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فيهِ أُخرى فإذا هُمْ قِيامٌ يَنظُرُون*[19]

وعلى ما ذكرنا فكل من الإحياءَين لا صلة له بالدنيا ، بل يتحقّقان بعد الانتقال من الدنيا ، أحدهما في البرزخ بعد الإماتة في الدنيا ، والآخر يوم البعث بعد الإماتة بنفخ الصور الأوّل .

وعندئذ تتضح دلالة الآية على الحياة البرزخية بوضوح .

نعم لم يتعرض القائلون بالحياة الدنيوية ولم يقولوا وأحييتَنا ثلاثاً  وإن كانت إحياء لكونها واقعة بعد الموت الذي هو حال عدم ولوج الروح ، ولعلّ الوجه هو أنّ الغرض تعلّق بذكر الإحياء الذي يعدّ سبباً للإيقان بالمعاد ومورِّثاً للإيمان وهو الإحياء في البرزخ ثم يوم القيامة ، وأمّا الحياة الدنيوية ، فإنّها وإن كانت إحياء بلاشكّ لكنّها لا توجب بنفسها يقيناً بالمعاد ، فقد كانوا مرتابين في المعاد وهم أحياء في الدنيا[20]

تفسير خاطئ للآية :

إنّ بعض المفسّرين فسّروا الآية بالنحو التالي :

الإماتة الأُولى : حال النطفة قبل ولوج الروح .

الإحياء الأوّل : حال الإنسان بعد ولوجها فيها .

الإماتة الثانية : إماتته في الدنيا .

والإحياء الثاني : إحياؤه يوم القيامة للحساب .

وعندئذ تنطبق الآية على قوله سبحانه كَيفَ تَكفُرونَ باللهِ وكُنتُمْ أمواتاً فَأحياكُمْ ثُمّ يُميتُكُم ثمَّ يُحْيِيكُمْ ثمَّ إليه تُرجَعون[21]

ولكنّه تفسير خاطئ وقياس باطل .

أمّا كونه خاطئاً ، فلأنّ الحالة الأُولى للإنسان أي حالته قبل ولوج الروح في جسده لا تصدق عليها الإماتة ، لأنّه فرع سبق الحياة ، والمفروض عدمه .

وأمّا كونه قياساً باطلا ، فلأنّ الآيتين مختلفتان موضوعاً ، إذ المأخوذ والوارد في الآية الثانية هو لفظة «الموت» ويصحّ تفسيره بحال النطفة قبل ولوج الروح ، بخلاف الوارد في الآية الأُولى ، إذ الوارد فيها «الإماتة» فلا يصح تفسيره بتلك الحالة التي لم يسبقها الإحياء .

ولأجل ذلك يصحّ تفسير الآية الثانية بالنحو التالي :

1- كنتم أمواتاً : الحالة الموجودة في النطفة قبل ولوج الروح .

2- فأحياكم : بولوج الروح فيها ثم الانتقال من البطن إلى فسيح الدنيا .

3-ثمّ يُميتُكم : بالانتقال من الدنيا إلى صوب الآخرة .

4-ثم يُحييكُم : يوم البعث للحساب والجزاء .

وبما أنّ موقف الآيتين مختلف هدفاً وغاية ، اختلف السياقان ، فصارت احداهما تلمح بالحياة المتوسطة بين الدنيا والآخرة(البرزخ)دون الأُخرى ، ولا ملزم لتطبيق إحداهما على الأُخرى بعد اختلافهما في الموضوع والغاية .

وليس ما يدل من الآيات على البقاء بعد الموت منحصراً في هذه الآيات العشر ، بل هناك مجموعة من الآيات تصلح للاستدلال على المقصود ، مثل:  وكذلكَ جَعلناكُمْ أُمّةً وَسطاً لتكُونُوا شُهَداء على النّاسِ ويكونَ الرسولُ عليكُمْ شَهيدا [22]

*فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدَاً*[23] فلو قلنا : بأن موت النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عبارة عن فنائِه المطلق ، فما معنى كونه شهيداً على أُمّته في تمام الأجيال؟

وأمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة على أنّ الموت ليس بمعنى فناء الإنسان برأسه ، وإنّما هو الانتقال من دار إلى دار ، فسيوافيك قسم من الروايات في المبحث التالي المتكفّل لبيان وجود الصلة بين أهل الدنيا والنازلين في البرزخ ، بحيث يسمعون كلامهم ويجيبون دعاءهم وإن كنّا نحن غير سامعين ولا فاهمين .

ولا عجب في أن يكون هناك رنين أو صراخ وكنّا بمعزل عن السمع والفهم ، قال سبحانه*وإنْ مِنْ شَيء إلاّ يُسبِّحُ بِحمِدِهِ ولكنْ لا تَفقَهونَ تَسبيحَهُمْ إنّهُ كانَ حَليماً غَفوراً*[24]

و ایضا هناک آیات اخری تشیر الی الحیاة البرزخیه ولکننا نکتفی بتلک العشرة.

 

آیة الله جعفرسبحانی


[1] - زمر:42

[2] - زمر:42

[3] - بقره:154

[4] - الواحدي ، أسباب النزول : ص27 . ط . دار الكتب العلمية ـ بيروت

[5] - انعام:122

[6] - آل عمران : 169 ـ 171

[7] - مفاتيح الغيب 4 : 146

[8] - يس : 20 ـ 29

[9] - غافر : 45 ـ 46

[10] - المؤمنون : 99 ـ 100

[11] - الكهف : 79

[12] - الأنعام : 93

[13] -  تفسير الميزان 7 : 285

[14] - الأنفال : 50 ـ 51

[15] - محمد : 27

[16] - نوح : 25

[17] - مجمع البيان 5 : 364

[18] - غافر : 11

[19] - الزمر : 68

[20] - تفسير الميزان 17 : 313

[21] - البقرة : 28 ، أنظر تفسير الكشاف 3  : 363 طـ دار المعرفة ـ بيروت

[22] - البقرة : 142

[23] -نساء:41

[24] -اسرا:44

قراءة 5694 مرة