الحياة البرزخية - 2

قيم هذا المقال
(0 صوت)

حقيقة الإنسان; روحه ونفسه:و ما یشهد علیها:

الاول:الشخصيّة الإنسانيّة المعبّر عنها بالـ «أنا»:

لم يزل كلّ واحد منّا ينسُب جميعَ أفعاله إلى موجود نعبّر عنه بالـ «أنا» ويقول : «أنا فعلتُ» ... ، فإذن يقع السؤال حول تعيين الموضوع الذي تنسب إليه هذه الأفعال ، فما هو إذن؟ هل هو هذا الجسم المادّي ، أو شيء آخر وراء ذلك؟

ثم إنّنا ننسب أعضاءنا إلى شيء آخر وراء الجسم المادّي هذا ونقول : «رأسي» و «قلبي» و«بطني» و «قدمي» فهذه أعضاء رئيسية للجسم الماديّ «الإنسان» ، ومع ذلك فإنّنا ننسبها إلى شيء آخر وراء هذا الجسم المادّي .

وربما نتجاوز إلى أكثر من هذا فننسب نفس الجسم بأكمله إلى شيء آخر ، فنقول : «بدني» ، فإذن ما هذا المضاف إليه في جميع هذه الانتسابات ، من انتساب الأفعال والأعضاء والبدن بأكمله؟

وبما أنّ كلّ قضية تتركّب من موضوع ومحمول ، فبداهة العقل تحكم بأنّ لهذه المحمولات موضوعاً وإن لم يكن مرئياً إلاّ أنّنا ندركه من خلال هذه المحمولات .

فالنتيجة : أنّ الشخصية الإنسانية تكمن وراء جسمه وصورته الظاهرية .

الثانی:ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغييرات الجسدية :

إنّ كل واحد منّا يحس بأنّه باق في دوّامة التغيّرات والتحوّلات التي تطرأ على جسمه فيقول : أنا الذي كنت طفلا ، ثم يافعاً ، ثم شاباً ، ثم كهلا ، ثم شيخاً .

بل نرى أنه ينسب إلى نفسه الفعل الذي قام به قبل خمسين سنة ويقول : «أنا الذي كتبت هذا الخط يوم كنت طفلا» وهذا يعرب عن إدراكه بوجدانه أنّه هو الذي كتب ذلك الخط سابقاً .

وإذا كان التغيّر من صفات المادة ، والثبات والدوام من صفات الموجود غيرالمادّي ، نستكشف من ذلك أنّ واقع الإنسان غيرمادّي وثابت في جميع الحالات ، وهذا ما نعبّر عنه بالروح المجرّدة ، أو النفس المجرّدة .

الثالث :علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه :

ترى الإنسان يغفل في ظروف خاصة عن كل شيء حتى عن بدنه وأعضائه، لكنّه لا يغفل عن نفسه ، وهذا برهان تجريبي يمكن لكلّ منّا القيام به ، وبذلك يصح القول بأنّ للإنسان وراء جسمه الماديّ حقيقة أُخرى ، حيث إنّه يغفل عن الأُولى ولايغفل عن الثانية، وبتعبير علمي: المغفول، غير المغفول عنه، وإليك توضيح ذلك:

إنّ إدراك هذه الحقيقة (يغفل عن كل شيء حتى جسمه ولا يغفل عن نفسه) يتوقف على ظروف خاصة بالشكل التالي :

1-أن يكون في جوّ لا يشغله فيه شاغل ولا يلفت نظره لافت .

2-أن يتصور أنّه وجد في تلك اللحظة بالذات وأنّه كان قبل ذلك عدماً ، وما هذا إلاّ ليقطع صلته بماضيه وخواطره قطعاً كاملا .

3-أن يكون صحيح العقل سليم الإدراك ، في تلك اللحظة .

4- أن لا يكون مريضاً لا يلفت المرض انتباهه إليه .

5- أن يستلقي على قفاه ويفرّج بين أعضائه وأصابع يديه ورجليه حتى لا تتلامس فتجلب انتباهه إليها .

6- أن يكون في هواء طلق معتدل لا حار ولا بارد ويكون كأنّه معلّق في الفضاء حتى لا يشغله وضع المناخ ، أو يلفته المكان الذي يستند إليه .

ففي هذه الحالة التي يقطع الإنسان كل صلاته بالعالم الخارجي عن نفسه تماماً ويتجاهل حتى أعضاءه الداخلية والخارجية ويجعل نفسه في فراغ من كل شيء وعندئذ يستشعر بذاته ، أي سيدرك شيئاً غير جسمه وأعضائه وأفكاره وبيئته التي أحاطت به ، وتلك هي «الذات الإنسانية» أي الروح أو النفس الإنسانية التي لا يمكن أن تفسّر بشيء من الأعضاء والحواس والقوى .

وهذه البينونة أظهر دليل على أنّ للإنسان وراء جسمه وأعضائه المغفول عنها في بعض الظروف ، حقيقة واقعية غير مغفول عنها أبداً ، وأنّ الإنسان ليس هو جسمه وأعضاؤه وخلاياه .

وقد لخّص الرازي هذا البرهان وقال : إنّي أكون عالماً بأنّي «أنا» حال ، أكون غافلا عن جميع أجزائي وأبعاضي ، والمعلوم ، غير ما هو غير معلوم فالذي أُشير إليه بقولي مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض[1]

القرآن وحقيقة الشخصية الإنسانية :

إذا استعرضنا آيات القرآن الكريم نقف على أنها تدلّ تارة بوضوح وأُخرى بالإشارة على أنّ واقع الإنسان وشخصيته غير جسمه الماديّ ، ونحتج في المقام بآيات :

الآية الأُولى :

1- وقالُوا ءإذا ضَلَلْنا في الأرض ءإنّا لَفي خلَق جَديد بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرون.

2-قُلْ يَتوفّاكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرجَعُون[2]

تدلّ هاتان الآيتان على «خلود الروح» بعد انحلال الجسد وتفكّكه وذلك بالبيان الآتي :

كان المشركون يستبعدون إمكانية عودة الإنسان بعد تفكّك جسمه الماديّ وتبدّده في التراب .

ولهذا اعترضوا على فكرة الحشر والنشر يوم القيامة فردّ القرآن الكريم هذا الاستبعاد والاعتراض بجملتين هما :

1- بَلْ هُمْ بِلِقاء رَبِّهمْ كافِرون.

2- قُلْ يَتوفّاكُمْ مَلَكُ المَوتِ.

فلا شك أنّ الجملة الأُولى ليست هي الجواب على اعتراضهم حول إمكانية إعادة المعدوم من أجزاء الجسد ، بل هي توبيخ لهم على إنكارهم لقاء الله وكفرهم بذلك ، وإنّما ترى الجواب الواقعي على ذلك في الجملة الثانية ، وحاصله هو : أنّ ما يضلّ من الآدمي بسبب الموت إنّما هو الجسد وهذا ليس حقيقةُ شخصيته ، فجوهر شخصيته باق ، وإنّ الذي يأخذه ملك الموت وينتزعه من الجسد ليس إلاّ الجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته وهو محفوظ عندنا .

التوفّي في الآية ليس بمعنى الإماتة ، بل بمعنى الأخذ والقبض والاستيفاء ، نظير قوله سبحانه* : اللهُ يَتوفّى الأنفُسَ حِينَ مَوتِها* [3]وقوله تعالى : *وهوَ الّذي يتوفّاكُمْ بِالليلِ ويَعلَمُ ما جَرحْتُمْ بِالنَّهار* [4]ِ ومن قولهم «وافاه الأجل» وبعبارة أُخرى : لو ضلّ بالموت كلّ شيء من وجودكم لكان لاستبعادكم إمكان إعادة الإنسان وجه مقبول .

وأمّا إذا بقى ما به واقعيتكم وحقيقتكم وهي النفس الإنسانية والروح التي بها قوام الجسد ، فلا يكون لهذا الاستبعاد مبرّر; إذ تكون الإعادة حينئذ أمراً سهلا وممكناً لوجود ما به قوام الإنسان .

قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير هذه الآية :

«إنّه تعالى أمر رسوله أن يجيب عن حجتهم المبنيّة على الاستبعاد ، بأنّ حقيقة الموت ليس بطلاناً لكم ، وضلالا منكم في الأرض ، بل ملَكُ الموت الموكَّل بكم يأخذكم تامّين كاملين من أجسادكم أي ينزع أرواحكم من أبدانكم ، بمعنى قطع علاقتها من الأبدان ، وأرواحكم تمام حقيقتكم ، فأنتم أي ما يعنى بلفظة «كُم» : محفوظون لا يَضَلّ منكم شيء في الأرض ، وإنّما تَضَلّ الأبدان ، وتتغيّر من حال إلى حال ، وقد كانت في معرض التغيّر من أوّل كينونتها ، ثم إنّكم محفوظون حتى ترجعوا إلى ربكم بالبعث ورجوع الأرواح إلى أجسادها .

وبهذا تندفع حجّتهم على نفي المعاد بضلالهم سواء أقُرّرت على نحو الاستبعاد أم قُرّرت على أنّ تلاشي البدن يُبطل شخصية الإنسان فينعدم ، ولا معنى لإعادة المعدوم ، فإنّ حقيقة الإنسان هي نفسه التي يحكي عنها يقول «أنا» وهي غير البدن ، والبدن تابع لها في شخصيته ، وهي تتلاشى بالموت ولا تنعدم ، بل محفوظة في قدرة الله حتى يؤذن في رجوعها إلى ربها للحساب والجزاء فيبعث على الشريطة التي ذكر الله سبحانه[5]

الآية الثانية :

قال سبحانه * يأيَّتُها النَّفسُ المُطمئِنَّةُ * ارجِعِي إلى ربِّكِ راضيةً مَرضَّيةً * فادخُلي في عِبادي * وَادْخُلِي جَنَّتي[6]

يخاطبها بخطاب ثم بخطاب آخر ويقول : ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ، وظرف الخطابين من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد ، ثمّ يخاطبها بخطاب ثالث ورابع ويقول : فَادْخُلِي فِي عِبَادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي .وهما تفريعان على الخطاب الثاني الماضي أعني: ارجعي إلى ربِّك . . .  وقوله: في عبادي يدلّ على أنّها حائزة مقام العبودية وفي قوله: «جنّتي» تعيين لمستقرّها وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلّم ، تعريف خاص ، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنّة إلى نفسه تعالى وتقدّس إلاّ في هذه الآية[7]

ولو خُصَّ ظرف الخطاب بيوم البعث من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة ، لما ضرّ بالاستدلال وإن كان على الوجه الأوّل أظهر .

والحاصل : فسواء قلنا بأنّ ظرف الخطاب هو زمان الموت أو زمان البعث ، فالمخاطب هو نفس الإنسان لا بدنه ولا أعضاؤه فتدلّ على أنّها واقعهُ والباقي كسوة عليها .

الآية الثالثة :

قال سبحانه : فَلَولا إذا بَلغتِ الحُلْقومَ * وأنتم حِينئذ تَنظُرُونَ[8]

وجه الدلالة : أنّ الحلقوم جزء من جسمه فهناك أمر آخر يبلغ الحلقوم عند الموت وليس إلاّ النفس التي تنتقل من دار إلى دار . ولو كانت حقيقة الإنسان هو جسده المادّي ، فلا معنى للبلوغ ولا للنزوع والخروج .

وبذلك يُعلم أنّ بعض ما سنستدل به في الفصل الآتي ، يدل ضمناً على ما نحن الآن بصدد بيانه ، ولأجل ذلك نقتصر في المقام على الآيات الثلاث ، ونحيل الاستدلال بغيرها إلى ما سيوافيك في المبحث القادم .

ما هي حقيقة النفس الإنسانية؟

إنّ كثيراً من القوى الطبيعية معروفة بآثارها لا بحقائقها ، فالكهرباء نعرفها بآثارها ، كما أنّ الذرّة أيضاً كذلك ، فالعالِم بالحقائق هو الله سبحانه ، وليس حظّ الإنسان في ذلك الباب إلاّ الوقوف على الآثار ، فإذا كانت هي حال القوى الكامنة في الطبيعة ، فالروح أولى بأن تكون كذلك

 

آیة الله جعفرسبحانی


 

[1] - مفاتيح الغيب 4 : 149

[2] - سجده-10 و11

[3] - زمر:42

[4] - انعام:60

[5] - تفسير الميزان 16 : 252

[6] - فجر:27تا30

[7] - تفسير الميزان 20 : 213 ; مجمع البيان 5 : 489

[8] - الواقعة : 83 ـ 84

قراءة 3616 مرة