سبي العترة الطاهرة من كربلاء إلى الكوفة (11/ محرم / السنة 61 هـ)

قيم هذا المقال
(1 Vote)
سبي العترة الطاهرة من كربلاء إلى الكوفة (11/ محرم / السنة 61 هـ)

في صبيحة يوم الحادي عشر من المحرم، عمد عمر بن سعد إلى قطع رؤوس الباقين من آل الحسين(ع) ، فسرّح باثنين وسبعين رأساً مع شِمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعَمْرو بن الحجاج، وعُزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد في الكوفة.

وعند الزوال حمل معه بنات الحسين(ع)  وأخواته، وكنّ عشرين امرأة مع صبيانهن، وعلي بن الحسين زين العابدين(ع)  وابنه محمد الباقر وعمره سنتان. وكان الإمام (ع)  مريضاً. حملهم سبايا مقيدين إلى ابن زياد في الكوفة([1]).

ولما دخل موكب السبايا الكوفة اجتمع الناس من أهلها للنظر إلى الركب، فصاحت أم كلثوم: يا أهل الكوفة أما تستحون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبي(ص) ([2])..

وبانتظار دخول السبايا إلى قصر ابن زياد، استبقت ذلك السيدة زينب بخطبة موجّهة إلى أهل الكوفة، إذ أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقالت:

«الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد: يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصّلف النّطف، والعجب والكذب، والشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصعة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون! إي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون، قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، ومدرة حجتكم ومنار محجتكم، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم وسيد شباب أهل الجنة، ألا ساء ما تزرون، فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبد لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم شيئاً إدّاً تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً.

ولقد أتيتم بها خرقاء، شوهاء، كطلاع الأرض، وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً!! (وَلَعَذَابُ الاَخِرَةِ أَخْزَىَ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ)([3])، فلا يستخفنّكم المهل، فإنه لا يُحفّزه البدار، ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربكم لبالمرصاد»([4]).

ثم خطبت فاطمة بنت الحسين(ع)  ولها من العمر أحد عشر عاماً، ومما قالت:

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنا أهل البيت ابتلانا الله بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا، وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا الله بكرامته، وفضَّلنا بنبيه محمد(ص) على كثير ممن خلق الله تفضيلا.

فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالاً، وأموالنا نهباً، كأننا أولاد ترك أو كابل كما قتلتم جدنا بالأمس، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم...»([5]).

واستمرت في خطبتها حتى ارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب، وقالوا: حسبكِ يا ابنة الطاهرين فقد أحرقت قلوبنا...

ومما قالت أم كلثوم : «صه يا أهل الكوفة تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم، فالحاكم بيننا وبينكم الله يوم فصل الخطاب»([6]).

ومن خطبة السجاد(ع)  في ذلك الموقف قوله (ع) : «رحم الله امرءاً قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة».

فقالوا بأجمعهم: نحن يا ابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنا حرب لحربك، وسلم لسلمك، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا.

فقال (ع) : «هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إليّ كما أتيتم إلى أبي من قبل، كلا وربِّ الراقصات، فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيته ولم ينس ثكل رسول الله وثكل أبي وبني أبي، إن وجْده والله لبين لهاتي ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصته تجري في فراش صدري»([7]).

 

دخول السبايا إلى قصر ابن زياد:

أمر ابن زياد بإدخال سبايا آل محمد(ص) وأذن إذناً عاماً للناس بالدخول، فدخلوا ووجدوا رأس الحسين(ع)  موضوعاً بين يدي ابن زياد وهو ينكته بقضيب بين ثنيتيه.

فلما رآه الصحابي زيد بن أرقم صاح: اُعلُ بهذا القضيب عن هاتين الشفتين فو الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله(ص) على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم أجهش بالبكاء، فنهره ابن زياد وقال له: لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. فخرج زيد بن أرقم وهو يقول للناس: أنتم العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة([8]).

وكانت زينب(عليها السلام)  متنكّرة تحيط بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه الجالسة؟ فلم تكلّمه(عليها السلام) ، ثم كرر ذلك ثلاثاً، وهي لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة.

فقال لها ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم.

فقالت: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد(ص) وطهرنا تطهيرا، وإنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا يا عدوّ الله.

فقال ابن زياد: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟

فقالت (عليها السلام): ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم عنده، فانظر يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.

وكان هذا مما جعله يستشيط غضباً، وبعد ذلك التفت إلى الإمام السجاد(ع)  وقال له: ما اسمك؟

قال (ع) : أنا علي بن الحسين.

قال ابن زياد: أولم يقتل الله علي بن الحسين؟ فسكت الإمام (ع)  فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟ فقال الإمام (ع) : كان لي أخ يقال له أيضاً علي قتله الناس، فقال ابن زياد: بل قتله الله.

فسكت الإمام (ع)  فقال ابن زياد: ما لك لا تتكلم؟

قال(ع): (اللهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا)([9])، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله)([10]).

قال ابن زياد: أنت والله منهم، ثم قال لمري بن معاذ الأحمري: ويحك اقتله.

فتعلّقت به عمته زينب وأصرّت إن كان ينوي قتله أن يقتلها معه فتركه ابن زياد ([11]).

 ثم نودي الصلاة جامعة بأمر ابن زياد. واجتمع الناس، وصعد ابن زياد المنبر، فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين وشيعته.

ولم يتم ابن زياد كلامه بأكثر من هذا حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي الغامدي قائلاً: «إنّ الكذاب ابن الكذاب هو أنت وأبوك ومن استعملك وأبوه، يا ابن مرجانة أتقتلون أبناء الأنبياء وتتكلمون على منابر المسلمين بكلام الصدّيقين؟ فطلبه ابن زياد فوثب إليه الجلاوزة وأمسكوا به، إلا أنه استنهض الأزد بشعارهم «يا مبرور»، فوثب إليه شبان من الأزد وخلصوه من يد الجلاوزة وأوصلوه إلى بيته، فأمر ابن زياد أن يأتوه به فقتله وصلبه في السبخة»([12]).

 

([1]) وقعة الطف: تحقيق اليوسفي الغروي 259.

([2]) مقتل الحسين للسيد المقرّم: 310.

([3]) سورة فصلت: الآية 16.

([4]) مقتل الحسين للمقرّم: 311- 312.

([5]) المصدر السابق: 314- 315.

([6]) المصدر السابق: 316.

([7]) وتمام الخطبة تجدها في اللهوف للسيد ابن طاووس، وتجدها أيضاً في مثير الأحزان لابن نما، ووقعة الطف لأبي مخنف: 260 تحقيق اليوسفي الغروي.

([8]) وقعة الطف لأبي مخنف: 260 تحقيق اليوسفي الغروي.

([9]) سورة الزمر: الآية 2.

([10]) سورة آل عمران: الآية 145.

([11]) وقعة الطف: تحقيق اليوسفي 266.

([12]) وقعة الطف لأبي مخنف تحقيق اليوسفي: 265- 266.

قراءة 746 مرة