لكل شهر من الشهور القمرية ميزة خاصة تطغى عليها فتطبعها بطابعها المميز، فشهر محرم الحرام يتميز بغلبة مناسبة عاشوراء على سائر المناسبات الأخرى التي حدثت فيها، وكذلك شهر ذي الحجة فيتميز بغلبة مناسبة الحج وما يتعلق بها من أحداث مهمة مثل عيد الغدير.
أما شهر صفر فيتميز بغلبة الحزن والمناسبات والأحداث التي وقعت فيها، ولذلك يقول الشيخ عباس القمي في كتابه (وقائع الأيام) عند ذكر وقائع وأعمال شهر صفر: Sاعلم أن هذا الشهر عُرف بالشؤم، وربما كان السبب وقوع وفاة رسول الله(ص) في هذا الشهر، يوم الاثنين، وربما كان الشؤم بسبب وقوع شهر صفر بعد ثلاثة من أشهر الحرم حيث حرّم الله فيها القتال، وقد سمح لهم بالقتال في هذا الشهر، فكان الناس يتركون بيوتهم، ويتأهبون للحرب وهذا مدعاة للشؤم..R.
الإسلام دين الفكر والحياة:
لقد أصبحت تعاليم الإسلام ثورة شاملة على كل ما يعيق تقدم الإنسان باتجاه الكمال، فكانت رسالة الرسول(ص) العمل على كسر كل القيود الفكرية والاجتماعية.. التي كبّلت الإنسان، ومنعته من التطور في جميع المجالات، يقول تعالى، في وصف نبيه(ص) : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)([1]).
فلذلك حدث تحول كبير في تاريخ الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام إذ حوّل العرب الحفاة العراة، إلى قادة وسادة يحكمون أعظم امبراطورية في التاريخ.
ومن الدروس التي تعلمناها من الرسول(ص) لمواجهة تحديات الحياة، هو الحث على التفاؤل ونبذ التشاؤم، فقد عرف عن النبي(ص) أنه كان يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة كما ورد في الحديث عن رسول الله(ص) : «إن الله يحب الفأل الحسن»([2]).
ولذلك كان (ص) يأمر من رأى شيئاً يكرهه ويتطير منه أن يقول: «اللهم لا يؤتي الخير إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك»([3]).
ومن هذا المنطلق، جعل الشارع المقدس وسائل فعّالة لرفع الشؤم الذي عرف عنه شهر صفر، وذلك بالصدقة والدعاء والاستعاذة من الشيطان الرجيم، وقد ورد في الحديث أنه إذا أراد امرؤ أن يصبح في مأمن من الأضرار في هذا الشهر فليقرأ هذا الدعاء عشر مرات: «يا شديد القوى، يا شديد المحال، يا عزيز، يا عزيز، يا عزيز، ذلّت لعظمتك جميع خلقك، فاكفني شر خلقك يا محسن يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، يا لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين»([4]).
ويُستحسن عند ذكر شهر صفر وصفه بالخير والبركة، فيقال: (شهر صفر المظفّر)، أو (شهر صفر الخير)، من باب التفاؤل واقتداءً برسول الله(ص) الذي كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان وغيرها.. فقد غيّر (ص) اسم غاوي بن ظالم إلى راشد بن عبد ربه،
وغيّر (ص) اسم أرض من بئسان إلى نعمان، وغيّر (ص) اسم عاصية إلى جميلة([5]).
أحداث شهر صفر
إن من يطالع الكتب التاريخية يلاحظ وقوع أحداث مهمة في هذا الشهر أثرت كثيراً على التاريخ الإسلامي، من قبيل: وقعة صفين في الأول منه، وأربعينية الإمام الحسين(ع) في أواسطه، ووفاة الرسول(ص) وسبطه الحسن(ع) وحفيده الإمام الرضا(ع) في أواخره.وغيرها من الأحداث والتي سنستعرضها فيما سيأتي، عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون، والله ولي التوفيق.
وقعة صفين (1/ صفر / السنة 37 هـ)
كان ابتداء القتال بصفّين في أول يوم من صفر سنة (37 للهجرة)، وذلك عند نهر الفرات في وادي صفين قرب الرّقة.
ويذكر المؤرخون أنه لما عزم أمير المؤمنين(ع) على المسير لقتال معاوية ومن معه من أهل الشام، خطب في أصحابه، ومما جاء في كلامه بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله(ص):
«اتقوا الله - عباد الله - وأطيعوه وأطيعوا إمامكم، فإن الرعية الصالحة تنجو بالإمام العادل. ألا وإن الرعية الفاجرة تهلك بالإمام الفاجر، وقد أصبح معاوية غاصباً لما في يديه من حقي، ناكثاً لبيعتي، طاعناً في دين الله عز وجل...
فالعجب من معاوية بن أبي سفيان، ينازعني الخلافة، ويجحدني الإمامة ويزعم أنه أحقّ بها مني، جرأة منه على الله وعلى رسوله، بغير حق له فيها ولا حجة، لم يبايعه عليها المهاجرون، ولا سلّم له الأنصار والمسلمون..R.إلى أن قال (ع):Sاتقوا الله - عباد الله - وتحاثّوا على الجهاد مع إمامكم، فلو كان لي منكم عصابة بعدد أهل بدر؛ إذا أمرتهم أطاعوني، وإذا استنهضتهم نهضوا معي، لاستغنيت بهم عن كثير منكم، وأسرعت النهوض إلى حرب معاوية وأصحابه فإنه الجهاد المفروض»([6]).
منع الماء:
وقد كشف معاوية عن نواياه العدائية، عندما بادر إلى الاستيلاء على الماء، وحال بينه وبين أهل العراق، فأضرّ بهم وبدوابّهم العطش، فأرسل إليهم أمير المؤمنين(ع) : «إنا لم نأت هذه الأرض لنسيطر على الماء والكلأ، ولو سبقناكم إليه، لا نمنعكم منه».
ولكن لم تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية من الطرف المقابل، ما اضطرّ علياً(ع) إلى استعمال القوة لإنقاذ عشرات الألوف ممن كان معه من الموت عطشاً، فأرسل الأشتر في كتيبة من عسكره فأظهروا من البسالة ما أبهر جيش معاوية وأجبرهم على الانسحاب، فاستعاد أصحاب أمير المؤمنين(ع) الماء من أهل الشام.
وهنا ظهرت سماحة الإمام (ع) حيث حاول بعض أصحابه إقناعه أن يقابل أهل الشام بالمثل ويمنع عنهم الماء، فأبى(ع) عليهم أشدّ الإباء.
فبقي الجيشان ينهلان من الماء على قدم المساواة، واستمرت جهود الإمام (ع) في حلّ النزاع سلمياً كما يظهر ذلك من أكثر المرويات في هذا المجال، ولكن جهود الإمام (ع) ذهبت سدىً، بعد أن واصل أصحاب معاوية استفزازاتهم، وغاراتهم حتى أوقعوا في أصحاب الإمام عدداً من القتلى، عندها أذن الإمام بالقتال، وبدأت حرب بين الطرفين استمرت شهوراً وراح ضحيتها أكثر من مئة ألف من المسلمين، في فتنة أشعل نارها ابن هند لمآربه الخاصة.
فتنة رفع المصاحف
تفاجأ معاوية ومن معه من بسالة أصحاب الإمام في الذود عن الحق الذي يمثله
الإمام (ع) ، وفيهم أكابر صحابة رسول الله(ص) حتى إن عمار بن ياسر كان ينادي: «والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل».
ونتيجة لذلك انهار عسكر معاوية، وأوشك جيش العراق أن يحتل مضارب معاوية ويقبض عليه حياً حتى إنه دعا بفرسه لينجو، فتذكر مستشاره عمرو ابن العاص، فلجأ إليه لينقذه من هذه الورطة فأشار عليه برفع المصاحف على أسنة الرماح فكان ما أراد وارتفعت الأصوات من ناحية عسكر معاوية:
«يا أهل العراق، هذا كتاب الله بيننا وبينكم فهلموا إلى العمل به».
فانطلت الحيلة على ضعاف النفوس والخونة المنبثين في جيش علي(ع) ، وضموا أصواتهم إلى أصوات أصحاب معاوية لمنع علي(ع) وأصحابه المخلصين من الاستمرار في القتال والقضاء على رأس الفتنة.
حتى إنه جاء الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين(ع) قائلاً له: «إن لم تحكم، قتلناك بهذه السيوف التي قتلنا بها عثمان».
فقال(ع) حينئذ: «لا رأي لمن لا يطاع»، وقال لأصحابه: «هذه كلمة حق يراد بها باطل، وهذا كتاب الله الصامت وأنا المعبِّر عنه، فخذوا بكتاب الله الناطق وذروا الحكم بكتاب الله الصامت إذ لا معبّر عنه غيري»([7]).
ولما لم يرجع أصحابه إلى رأيه الذي تقدم ذكره، حتى إن نحواً من عشرين ألف مقاتل أحاطوا به مقنعين بالحديد وهم يقولون مهدّدين: «أجب القوم وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان».
وإزاء هذا الوضع الخطير، لم يجد أمير المؤمنين(ع) أمامه إلا خيارين أحلاهما مر:
إما المضي بالقتال، وهذا يعني أنه سيقاتل ثلاثة أرباع جيشه وأهل الشام بأجمعهم.
وإما القبول بالتحكيم وهو أهون الشرين، فاختاره على مضض.
التحكيم
ولم تكن مرحلة التحكيم بأيسر من مرحلة القتال على أمير المؤمنين(ع). فبعد أن اجتمعت كلمة أهل الشام على اختيار عمرو بن العاص كمندوب لهم للتفاوض، اختلف أهل العراق مع علي(ع) على اختيار مندوب لهم.
فقد كان رأيه (ع) وعدة من أصحابه اختيار أحد الثلاثة عبد الله بن عباس، أو مالك الأشتر، أو الأحنف بن قيس، وكانوا من أفضل المرشحين.
ولكن الكثرة الغالبة من ضعاف النفوس التي انطلت عليهم خديعة رفع المصاحف، رفضوا هؤلاء الثلاثة ورشحوا أبا موسى الأشعري، الذي رفض الإمام (ع) ترشيحه لانحرافه عنه.
ولكنهم ضغطوا على الإمام (ع) فخشي الإمام أن تدبّ الفتنة مرة أخرى في صفوف جيشه فاضطرّ لقبول مرشحهم، فكانت النتيجة بلا ريب لغير صالحه.
وعند اجتماع الطرفين للاتفاق على بنود التحكيم ظهرت نوايا معاوية المبيتة، عندما رفض إدراج صفة أمير المؤمنين خلف اسم الإمام (ع) حيث جاء في الكتب المعتبرة أنهم حينما شرعوا في كتابة بنود الاتفاق كتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان.
فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، ولا تسمّه بإمرة المؤمنين، فإنما هذا أمير هؤلاء وليس بأميرنا، فقال له الأحنف بن قيس: لا تمح هذا الاسم، فإني أتخوّف إن محوته لا يرجع إليك أبداً.
فامتنع أمير المؤمنين(ع) من محوه فتراجع الخطاب فيه ملياً من النهار، فقال الأشعث بن قيس: امح هذا الاسم...
فقال أمير المؤمنين(ع):
«الله أكبـر سنة بسنة ومثل بمثل والله إني لكاتب رسول الله(ص) يوم الحديبية وقد أملى علي: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو، فقال له سهيل: امحُ رسول الله، فإنا لا نقر لك بذلك، ولا نشهد لك بذلك، اكتب اسمك واسم أبيك، فامتنعت من محوه»، فقال النبي(ص) : «امحه يا علي، وستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض..».
وتمّ الكتاب بين الطرفين ووقّعه من كل منهما عشرة من قادتهم ووجهائهم، ويتلخص مضمونه بأن يقفوا عند أحكام الله ويرجعوا إلى حكم الكتاب فيما يختلفون فيه، وإلى سنّة رسول الله(ص) فيما لم يجدوا حكمه في الكتاب، والتزم علي ومعاوية ومن يتبعهما من المؤمنين والمسلمين بما يحكم به الحكمان، وأن يجتمع الحكمان في مكان بين الشام والحجاز يدعى (دومة الجندل)، وأن لا يحضر معهما إلاّ من أرادوه، وأن يعمل الطرفان على توفير الجو المناسب لهما خلال اجتماعهما وفيما بعده.
ومن الغريب أنه لم يرد في نص الوثيقة أي ذكر لأسباب الصراع وموضوعه الحقيقي من قريب أو بعيد، في حين أن أسباب الصراع واضحة لأن معاوية كان قبل معركة الجمل يطالب بمحاكمة أولئك الذين قتلوا عثمان أو تسليمهم إليه ليتولّى القصاص منهم، وبعد تمرّد السيدة عائشة وطلحة والزبير تعزّز موقفه وأصبح يطالب بإعادة الخلافة شورى بين المسلمين على أن يكون له رأي في ذلك.
وقد ردّ علي(ع) على طلبه الأول بأن يدخل فيما دخل فيه المسلمون ثم يحاكم القوم إليه ليقتصَّ لعثمان من قاتليه إذا أدينوا بجريمة توجب القصاص، وردّ (ع) على طلبه الثاني، بأنّ خلافته قد تمّت بإجماع أهل الحرمين الذين بايعوا الخلفاء الثلاثة من قبله، بل بايعه جميع الأمصار ما عدا الشام.
وتشير بعض الروايات إلى أن إقصاء أمير المؤمنين عن الخلافة كان أمراً مفروغاً منه لدى الطرفين، ولكن الخلاف كان على البديل، فقد اقترح أبو موسى الأشعري عبد الله بن عمر بن الخطاب، فردّ عليه ابن العاص بأن عثمان بن عفان قتل مظلوماً ومعاوية وليه.
ولم يُبدِ أبو موسى أية ملاحظة حول هذه الناحية، ومضى ابن العاص يغريه بالسلطة إن هو وافق معه على أن تكون الخلافة لمعاوية.
وبعد حوار طويل بين الطرفين استطاع ابن العاص أن يخدعه فأظهر له موافقته على إقصائهما معاً وترك الأمر للمسلمين يختارون لأنفسهم من يريدون، وكان ما أراده ابن العاص فخلع أبو موسى علياً وأثبت ابن العاص معاوية.
وانتهت مهزلة التحكيم على هذا النحو كما يرويها المؤرخون. وهي نتيجة مفروغ منها بعد أن رفض كل اقتراحات الإمام (ع) ومناشداته، من قبل الكثرة التي غلب عليها الشيطان فأضل أعمالهم.
وقد نصَّت المرويات على أنه أقام في صفين بعد إعلان الهدنة وكتابة بنود الاتفاق يومين أو ثلاثة مشغولاً بتهدئة الخواطر والنفوس، ودفن القتلى من أصحابه، ثم خرج بعدها متوجهاً إلى الكوفة ليواجه مشاكل جديدة.
([1]) سورة الأعراف: الآية 157.
([2]) مكارم الأخلاق: 250 الطبرسي.