بعث ابن زياد رسولاً إلى يزيد يخبره بقتل الإمام الحسين(ع) ومن معه، وأن عياله في الكوفة، وينتظر أمره فيهم، فأتاه الجواب بحملهم والرؤوس معهم([1]).
فأمر ابن زياد زجر بن قيس، وأبا بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن ضبيان في جماعة من أهل الكوفة؛ أن يحملوا رأس الإمام الحسين(ع) ورؤوس من قتل معه إلى يزيد([2]).
وسرح في أثرهم الإمام علي بن الحسين(ع) مغلولة يداه إلى عنقه وعياله معه([3]).
وكان معهم شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، وجماعة، وأمرهم أن يلحقوا الرؤوس ويشهروهم في كل بلد يأتونه([4]).
وفي الأول من شهر صفر سنة 61هـ أدخل رأس الإمام الحسين(ع) وموكب السبايا إلى الشام، ولما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد تمثّل قائلاً:
يفلّقن هاماً من رجال أعزّة |
|
علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما([5]) |
ثم أذن للناس، فدخلوا والرأس بين يديه وهو ينكت ثغر الإمام بقضيب، فقال له أبو برزة الأسلمي من أصحاب رسول الله(ص) :
«أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين؟! أما، لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً، لربما رأيت رسول الله(ص) يرشفه! أما، إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد! ويجيء هذا يوم القيامة وشفيعه محمد(ص) »([6])، ثم قام فولّى.
وسمعت هند([7]) بما دار من هذا الحديث، فخرجت مذهولة ودخلت على يزيد وهي تصيح: يزيد، رأس من هذا؟
فأراد يزيد التملّص من مسؤوليته في ارتكاب الجريمة فقال: أعولي عليه يا هند، وحدّي عليه، فإنه ابن بنت رسول الله(ص) ، وصريخة بني هاشم، عجل عليه ابن زياد فقتله([8]).
وقد يكون من المفيد أن نذكر ما ذكره ابن نما وابن طاووس: لما سمعت زينب بنت علي(س) يزيداً، يتمثل بأبيات ابن الزبعرى([9])، حتى قال:
لعبت هاشم بالملك فـلا |
|
خبـر جـاء ولا وحي نـزل |
فوقفت خطيبة فقالت بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على نبيه وآله:
(ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوَءَىَ أَن كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ) ([10])، أظننت يا يزيد، حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: (وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوَاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مّهِينٌ)([11]).
أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهنّ، وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف، ليس معهنّ من حماتهنّ حمي ولا من رجالهنّ ولي؟ وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطئ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشّنف والشّنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهلّوا واستهلّوا فرحاً |
|
ثم قالوا يا يزيد لا تشل |
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد(ص) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودنّ أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممّن ظلمنا، وأحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردنّ على رسول الله(ص) بما تحمّلت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلمّ شعثهم، ويأخذ بحقهم: (وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ)([12]).
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد(ص) خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلاً وأيّكم شرّ مكاناً، وأضعف جنداً.
ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى، ألا فالعجب كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفّرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعول.
فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها، وهل رأيك إلا فند وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.
والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل ([13]).
ثم أمر يزيد الخطيب أن يصعد المنبر ويثني على معاوية وينال من الحسين وآله. ففعل الخطيب وأكثر من الوقيعة في علي(ع) والحسين(ع) ، فصاح به السجاد(ع) : «أيها الخاطب لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار»([14]).
ثم التفت (ع) إلى يزيد وقال له: «أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه لله رضى ولهؤلاء أجر وثواب».
فأبى يزيد، وألحّ الناس عليه، فلم يقبل، فقال ابنه معاوية الثاني: ائذن له، ما قدر أن يأتي به؟ فقال يزيد: إن هؤلاء ورثوا العلم والفصاحة وزقوا العلم زقاً. وما زالوا به حتى أذن له.
فقال (ع) : «الحمد لله الذي لا بداية له، والدائم الذي لا نفاد له، والأول الذي لا أولية له، والآخر الذي لا آخرية له، والباقي بعد فناء الخلق، قدر الليالي والأيام، وقسم فيما بينهم الأقسام، فتبارك الله الملك العلام..».
إلى أن قال (ع): «أيها الناس، أُعطينا ستاً وفضلنا بسبع؛ أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضّلنا بأن منا النبي والصديق والطيار وأسد الله وأسد رسوله وسبطا هذه الأمة (ومنا مهديها).
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.
أيها الناس أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردى، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى وخير من طاف وسعى، وحج ولبّى، أنا ابن من حُمل على البـراق وبلغ به جبـرائيل سدرة المنتهى، فكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين ووارث النبيين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين، ومفرق الأحزاب، أربطهم جأشاً، وأمضاهم عزيمة ذاك أبو السبطين الحسن والحسين، علي بن أبي طالب.
أنا ابن فاطمة الزهراء، وسيدة النساء، وابن خديجة الكبـرى.
أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن ذبيح كربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء، وناحت الطير في الهواء».
فلما بلغ إلى هذا الموضع ضجّ الناس بالبكاء وخشي يزيد الفتنة فأمر المؤذن أن يؤذن للصلاة فقال المؤذن: الله أكبر.
فقال الإمام (ع) : «الله أكبـر وأجلّ وأعلى وأكرم مما أخاف وأحذر».
ولما قال المؤذن: أشهد أن لا اله إلا الله.
قال (ع) : «نعم أشهد مع كل شاهد أن لا إله غيره ولا ربّ سواه».
فلما قال المؤذن: أشهد أنّ محمداً رسول الله.
قال الإمام للمؤذن: «أسألك بحق محمد أن تسكت حتى أكلم هذا».
والتفت إلى يزيد وقال: «هذا الرسول العزيز الكريم جدّك أم جدّي؟ فإن قلت أنه جدك علم الحاضرون والناس كلهم أنك كاذب، وإن قلت جدي فلم قتلت أبي ظلماً وعدواناً، وانتهبت ماله وسبيت نساءه، فويل لك يوم القيامة إذا كان جدّي خصمك»([15]).
فصاح يزيد بالمؤذن: أقم الصلاة، فوقع بين الناس همهمة وصلى بعضهم وتفرق الآخر، وخشي يزيد الفتنة، فأمر بنقل السبايا إلى الخربة.
([4]) المنتخب للطريحي: 339 (ط2).
([6]) الطبري 5: 390، والمسعودي 3: 71.
([7]) هي هند بنت عبد الله بن عامر بن حريز من المدينة، وهي زوج يزيد آنذاك.
([11]) سورة آل عمران: الآية 178.
([12]) سورة آل عمران: الآية 169.