ولادته ونشأته
نشأ محمد بن أبي بكر بن أبي قحافة، في بيت النبوة والخلافة، في بيت تربّى فيه الحسن والحسين(ع) . وترعرع عندهم وهو يرتشف من منهل أخلاقهم ويسمو بعزّ فضائلهم، وشرف مكانتهم.
ربّاه أمير المؤمنين(ع) كأحد أبنائه ينفق عليه كما ينفق عليهم ويعلمه كما يعلمهم، وقد قال (ع) : «محمد ابني من ظهر أبي بكر»([1]).
فشبّ وهو عارف بحقيقة أهل البيت(عليهم اسلام)، ومكانتهم من الله ورسوله، وفضلهم على بقية الناس، وخصائصهم التي خصّهم الله تعالى بها.
روى ابن سعد في (طبقاته): إنّ أبا بكر تزوّج أسماء بنت عميس فولدت له محمداً، ثم توفي عنها أبو بكر فتزوجها علي بن أبي طالب فأنجبت له يحيى.
وقد رضع محمد بن أبي بكر الولاء والحب لأهل بيت النبوة(عليهم اسلام) من ثدي أمه، وتعلم الإسلام والإيمان من مربيه علي(ع).
وقعة الجمل:
شهد محمد بن أبي بكر وقعة الجمل، وقاتل بكل بسالة وشجاعة إلى جانب مولاه أمير المؤمنين(ع) . ولما استعر القتال واشتبكت الصفوف، نادى أمير المؤمنين(ع) بعقر الناقة.
فكان محمد بن أبي بكر من بين المتقدمين في الصفوف لعقر الناقة، وبعد أن عقرت، وفرّ أصحاب الجمل، قطع محمد بن أبي بكر البطان وأخرج الهودج، فقالت عائشة: من أنت؟
فقال محمد: أبغض أهلك إليك.
فقالت عائشة: ابن الخثعمية.
فقال محمد: نعم، ولم تكن دون أمهاتك.
فقالت عائشة: لعمري، بل هي شريفة، دع عنك هذا، الحمد لله الذي سلمك.
فقال محمد: قد كان ذلك ما تكرهين.
فقالت عائشة: يا أخي لو كرهته ما قلته.
فقال محمد: كنت تحبين الظّفر، وأني قتلت؟
فقالت عائشة: قد كنت أحب ذلك، ولكنه لما صرنا إلى ما صرنا إليه، أحببت سلامتك لقرابتي منك، فاكفف ولا تعقب الأمور، وخذ الظاهر ولا تكن لومة ولا عذلة، فإنّ أباك لم يكن لومة ولا عذلة([2]).
ولايته على مصر:
ولّى أمير المؤمنين محمد بن أبي بكر على مصر، بعد أن عزل عنها واليها قيس بن سعد([3]).
ولما وصل محمد بن أبي بكر إلى مصر قرأ على أهلها كتاب أمير المؤمنين(ع):
«بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاّه مصر وأمره بتقوى الله في السر والعلانية وخوف الله عز وجل في الغيب والمشهد وباللين على المسلمين، وبالغلظة على الفجار، وبالعدل على أهل الذمّة، وبإنصاف المظلوم، وبالشدة على الظالم، وبالعفو عن الناس، وبالإحسان ما استطاع، والله يجزي المحسنين..» إلى آخر الكتاب.
ثم إن محمد بن أبي بكر قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
«الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق، وبصرنا وإياكم كثيراً مما عمي عنه الجاهلون.
ألا إن أمير المؤمنين ولاّني أمركم وعهد إليّ ما قد سمعتم، وأوصاني بكثير منه مشافهة، ولن آلوكم خيراً ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله وتقوى فاحمدوا الله عز وجل ما كان من ذلك فإنه هو الهادي، وإن رأيتم عاملاً لي عمل غير الحق زائغاً فارفعوا إليّ وعاتبوني فيه، فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون»([4]).
ولم يتخذ محمد بن أبي بكر مواقف حازمة تجاه الأوضاع في مصر، لا سيما تجاه الذين اعتزلوا عن قبول ولايته وخلافة أمير المؤمنين(ع) ، وعملوا على بث الدعايات المغرضة المطالبة بدم عثمان مما أضعف مركز محمد بن أبي بكر ووصلت أخبار ذلك وانفضاض أهل مصر من حول محمد بن أبي بكر إلى أمير المؤمنين(ع) فبعث مالك الأشتر والياً عليها، فعظم ذلك الخبر على معاوية لمعرفته بمقام مالك وسعى لقتله بكل وسيلة لئلا يصل إلى مصر.
فبعث معاوية إلى الجايستار رجلاً من أهل الخراج، فقال له: إنّ الأشتر قد ولي مصر فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجاً ما بقيت. فخرج الجايستار حتى أتى القلزم، وكان الأشتر قد خرج من العراق إلى مصر، فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار فقال له: هذا منزل وهذا طعام وعلف. فنزل به الأشتر، وأتاه الرجل بعسل جعل فيه سم، فسقاه إياه فلما شربها مات. ولما سمع معاوية بن أبي سفيان ذلك قال: إن لله جنوداً من عسل. ثم أقبل على أهل الشام، وقال: كان لعلي بن أبي طالب يمينان أحدهما قطعت في صفين وهو عمار بن ياسر، والآن قطعت الثانية وهو مالك الأشتر([5]).
خبر شهادة محمد بن أبي بكر
وأما مسلمة بن مخلد ومن شايعه من العثمانية في مصر فقد كتبوا كتاباً إلى معاوية بن أبي سفيان: عجّل علينا خيلك ورجلك.
فقال معاوية لعمرو بن العاص: تجهز يا أبا عبد الله.
فبعثه إلى مصر في ستة آلاف رجل، فلما وصل عمرو بن العاص إلى مصر، اجتمعت إليه العثمانية، وكتب إلى محمد بن أبي بكر كتاباً:
«أما بعد؛ فتنحّ عني بدمك يا ابن أبي بكر فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، إنّ الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك ورفض أمرك...».
فلما قرأ محمد بن أبي بكر الكتاب، كتب كتاباً إلى أمير المؤمنين(ع) يطلب فيه العون والمدد، ويخبره بالموقف عنده.
وبعد أن وصله كتاب أمير المؤمنين(ع) كتب إلى معاوية يردّ فيه بما قاله، وينتدب لقتاله، ثم قام خطيباً في الناس، يحضّهم فيه على جهاد أعداء الله.
فانتدب معه نحو ألفي رجل، وخرج محمد بن أبي بكر لمقاتلة الخارجين عليه. وكان على رأس جيش الشام عمرو بن العاص الذي خرج لقتال محمد ابن أبي بكر.
والتقى الجيشان ودارت بينهما معركة عظيمة، فكانت الغلبة في البداية لجيش محمد، إلا أن عمرو بن العاص استنجد بجيش الشام، فجاءه المدد وكان يفوق جيش محمد أضعافاً، فاحتوشوا جيش محمد من كل مكان وقتلوا معظم رجاله وفرّ الباقون، وانسحب محمد بن أبي بكر.
فخرج معاوية بن حديج في طلب محمد بن أبي بكر، فمرّ في قوم في قارعة الطريق فسألهم: هل لمح أحدكم غريباً؟ فقال أحدهم: إني دخلت الخربة فوجدت فيها رجلاً جالساً. فقال ابن حديج: هو وربّ الكعبة. فانطلقوا يركضون حتى دخلوا عليه فاستخرجوه وقد أهلكه العطش، فطلب محمد أن يشرب، فقال له ابن حديج بوجود عمرو بن العاص: لا سقاه الله من سقاك قطرة، منعتم عثمان أن يشرب الماء حتى قتلتموه صائماً، ثم قتله وألقاه في جيفة حمار وألقاه في النار وهو حي.
وقيل إن معاوية بن حديج قطع رأس محمد بن أبي بكر وأرسله إلى معاوية ابن أبي سفيان بدمشق، وطيف برأسه وهو أول رأس طيف به في الإسلام([6]).
([2]) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 2: 404.
([3]) أعيان الشيعة السيد محسن الأمين 1: 137.
([4]) شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد 6: 66.