قال تعالى في كتابه العزيز:(وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)([1])، في الليلة التي عزم فيها النبي(ص) على الهجرة إلى المدينة، حيث أخبره ربه بمكيدة قريش لقتله، وأمره أن يأمر علياً(ع) بالمبيت في فراشه، فما كان من علي(ع) غير أن سأله: أو تسلم بمبيتي هناك يا نبي الله؟ قال (ص): نعم، فأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً لله، فنام على فراش النبي(ص) واشتمل ببرده الحضرمي، فخرج (ص)([2]).وجعل المشركون يرمون علياً بالحجارة، وهم يحسبونه رسول الله، وعلي(ع) يتضور - أي يتلوى ويتقلب - وقد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتى أصبح، فهجموا عليه، فلما بصر بهم علي(ع) قد انتضوا السيوف، وأقبلوا عليه، وثب في وجوههم فأجفلوا أمامه، وتبصروه فإذا علي، فقالوا: وإنك لعلي؟ قال: أنا علي، قالوا: فما فعل صاحبك، فقال: وهل جعلتموني عليه حارساً([3]).
وقد ورد: أن الله تعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة. فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد(ص)، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟ إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخٍ بخٍ، من مثلك يا ابن أبي طالب، يباهي الله به الملائكة، فأنزل الله تعالى الآية([4]) التي ابتدأنا بها؛ (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي...).
قال الإسكافي: «وقد روى المفسرون كلهم. أن قوله تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ)، نزلت في علي(ع) ليلة المبيت على الفراش»([5]).
وقد أنكر ابن تيمية نزول هذه الآية في مبيت علي(ع) في فراش النبي(ص)، فقال على ما نقله عنه الحلبي في سيرته: كذب بإتفاق أهل العلم بالحديث والسير.
وأيضاً قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له: Sلن يخلص إليك شيء تكرهه منهمR، فلم يكن فيه فداء النفس، ولا إيثار بالحياة، والآية المذكورة في سورة البقرة، وهي مدنية بالاتفاق، وقد قيل: إنها نزلت في صهيب لما هاجر([6]).
وقد رد على قوله الكثير من الأعلام وخلاصته:
أولاً: إن اتفاق أهل العلم بالحديث والسير على كذب نزول هذه الآية في علي، لا عين له ولا أثر، بل على العكس تماماً حيث تلقاه العلماء والحفاظ والمحدثون من دون غمز فيه أو لمز([7])، بل إن الحاكم النيسابوري، والذهبي صححاه([8]).
ثانياً: إن ما ذكره من قول النبي(ص) لعلي(ع) حين مبيته: Sلن يخلص إليك شيء تكرهه منهمR، غير موجود في الرواية، فقد علّق على ذلك الحلبي بقوله: Sلكنه في الإمتاع لم يذكر أنه (ص) قال لعلي ما ذكر، أي لن يصل..، وعليه فيكون فداؤه للنبي بنفسه واضحاً، نعم ذكر النبي(ص) ذلك له بعد ما خرج وصاحبه من غار ثور باتجاه المدينة وأمر علياً أن يعود إلى مكة ليؤدي الأمانات إلى أهلها ويأتيه بالفواطمR([9]).
ثالثاً: إن سورة البقرة وإن كانت مدنية، ولكن هذه الآية باعتراف الجميع مكية، ومجرد كون هذه الآية مكية لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية، لأن الحكم يكون للغالب([10]).
رابعاً: أما نزولها في صهيب فخطأ كبير، لأنّ الحادثة التي يروونها فيه، وفي نزول الآية فيه عارية عن الصحة، للاختلاف الكبير في نقلها ومضمونها، ومن أراد الوقوف على المزيد من تفاصيلها فليراجع (الإصابة) في ترجمة صهيب، و(السيرة الحلبية: 2/23 - 24).
معطيات الفداء:
ولفداء علي(ع) بنفسه معطيات كثيرة ينبغي الالتفات إليها:
أولاً: إن الدين والإسلام يستحق أبلغ التضحيات، وأعظم وأثمن ما عند الإنسان وهي حياته، وأولاده وكل غال ونفيس، ولذا ورد قوله تعالى: (إِنّ اللهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الّجَنّةَ)([11]).
ثانياً: أن موقف الأمير(ع) في فدائه النبي(ص) بحياته ووجوده يعطي تحرره من قيود الدنيا وعبوديتها، فإن المانع الذي يحول دون التضحية بالنفس حب الدنيا والتعلق بها، وقد أعطى (ع) بمبادرته للمبيت في فراشه أنه متحرر من كباح الدنيا ومفاتنها.
ثالثاً: أن على المؤمن أن يكون على استعداد دائم للقاء الله تعالى، إذ لعله في أي لحظة يدعى للقائه، فلا بد وأن يكون مستعداً للوفادة عليه.
([3]) السيرة الحلبية 2: 35، ومجمع الفوائد 9: 120.
([4]) أسد الغابة 4: 25، وتاريخ اليعقوبي 2: 39، وكفاية الطالب: 239، وشواهد التنزيل 1: 97، وتذكرة الخواص: 35، وتاريخ الخميس 1: 325، والمناقب للخوارزمي: 74، وينابيع المودة: 92، والتفسير الكبير 5: 204، والجامع لأحكام القرآن 3: 31، والسيرة الحلبية 3: 168، وتفسير البرهان 1: 207.
([5]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 262.
([7]) راجع للوقوف على من رواه كتاب إحقاق الحق.
([8]) المستدرك في الصحيحين، وبذيله التلخيص 3: 4.