لما وصل النبي(ص) في هجرته من مكة إلى قرية قباء من ضواحي يثرب وكان ذلك في 12 من ربيع الأول أقام فيها عدة أيام منتظراً قدوم ابن عمه وأخيه علي بن أبي طالب(ع) بركب الفواطم، وكان قد ألحّ أبو بكر عليه لكي يدخل المدينة في ليلته إلاّ أن النبي(ص) قال له: «ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن عمي وأخي وابنتي»، يعني علياً وفاطمة(عليهما السلام)، ([1]). فلما أمسى فارقه أبو بكر، ودخل المدينة، ونزل على بعض الأنصار، وبقي النبي(ص) في قباء نازلاً على كلثوم ابن الهدم([2])، ينتظر قدوم ابن عمه من مكة المكرمة ليدخلوا مدينة يثرب معاً.
وقد خرج الإمام علي بن أبي طالب (ع) من مكة المكرمة، بعد خروج النبي بثلاثة أيام بعدما نفَّذ وصايا النبي (ص) وكان معه من ضعفاء المؤمنين، وأمرهم أن يتسللوا ويتخفّوا تحت جنح الليل إلى ذي طوى، وخرج (ع) بالفواطم، وتبعهم أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله(ص) وأبو واقد، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فأمره (ع) بالرفق فاعتذر بخوفه من الطلب، فقال أمير المؤمنين(ع) : «أربع عليك، فإن رسول الله(ص) قال لي: يا علي أما إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه»([3]).
وأدركه الطلب قرب ضجنان، وهم سبع فوارس متلثمون، وثامنهم مولى للحارث بن أمية يدعى جناحاً، فأنزل علي(ع) النسوة، وأقبل على القوم منتضياً السيف، فأمروه بالرجوع، فقال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً، أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
ودنا الفوارس من المطايا ليثوّروها، فحال علي(ع) بينهم وبينها فأهوى جناح بسيفه، فراغ علي(ع) عن ضربته، وتختله علي(ع) فضربه على عاتقه فأسرع السيف مضياً فيه، حتى مس كاثبة فرسه، ثم شد عليهم بسيفه فتصدع القوم عنه، وقالوا: أغن عنا نفسك يا ابن أبي طالب، قال (ع) : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه، وأهريق دمه فليتبعني، أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه، فقال لهما: أطلقا مطاياكما.
ثم سار فنزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين، فعبدوا الله تلك الليلة قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلى بهم علي(ع) صلاة الفجر، ثم سار بهم، فجعلوا يصنعون ذلك في كل منزل حتى قدم قباء.
ولما بلغ النبي(ص) قدوم علي، قال: ادعوا لي علياً، قيل: يا رسول الله، لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبي(ص) ، فلما رآه اعتنقه، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً، فقال (ص) : «يا علي، أنت أول هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لا يحبك والذي نفسي بيده إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ولا يبغضك إلا منافق أو كافر»([4]).
ثم بعد ذلك دخل النبي(ص) والإمام علي(ع) ومن معه إلى المدينة.
يقول المقريزي: قدم رسول الله(ص) قباء في الثاني عشر من ربيع الأول، والتحق به علي(ع) في منتصف ذلك الشهر نفسه([5])، ويؤيد هذا القول ما ذكره الطبري في (تاريخه) إذ كتب يقول: أقام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى أدى عن رسول الله(ص) الودائع التي كانت عنده إلى الناس([6]).
([1]) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص) : 4: 88 – 89.
([3]) هذه الكلمة قالها النبي له بعد خروجه من الغار لا عند مبيته في الفراش كما توهمه ابن تيمية.
([4]) راجع تفاصيل هذه القصة: أمالي الطوسي 2: 83 – 86، وبحار الأنوار 19: 64 – 67، وتفسير البرهان 1: 332 – 333، نقلاً عن الشيباني في نهج البيان، وعن الشيخ المفيد في الاختصاص، ورواها ابن شهر آشوب في المناقب 1: 183 – 184، وإعلام الورى: 190، وإمتاع الإسماع للمقريزي 1: 48، وذكره ابن الأثير في الكامل في التاريخ 2: 106.
([6]) تاريخ الطبري 2: 382، نقلاً عن كتاب سيد المرسلين 1: 619.