لقد أكّدت روايات كثيرة أنّ ليلة القدر ليست ليلة معيّنة بذاتها، فهي الليالي العشر الأخيرة من الشهر الشريف. وهي عند الأخوة السنّة ليلة السابع والعشرين منه. إلاّ أن الروايات الواردة من طرف أئمة الهدى عليهم السلام، لا تجعلها ليلة بعينها، إنما تردّدها بين ليلة تسع عشرة ولو كان الشهر تسعة وعشرين يوماً تكون أول الليالي العشر الأخيرة، وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين من هذا الشهر. وما ذلك الترديد سوى زيادة في تشويق العبد للتفرغ للعمل الصالح، ليمحض الله اهتمامه وطاعته في هذه الليلة، وفي ذلك رفع لقدر المؤمن وتشريف له بهذه العبودية.
فعن محمد بن يعقوب الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد ﴿بن يحيى﴾، عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن حسّان بن مهران، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "سألته عن ليلة القدر؟ فقال: إلتمسها في ليلة إحدى وعشرين أو ليلة ثلاث وعشرين"[1].
وفي رواية أخرى عن طريق محمد بن حمران، عن سفيان بن السمط، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "الليالي التي يرجى فيها من شهر رمضان؟ فقال: تسع عشرة، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين..."[2].
وفي رواية تبيّن مدى الترابط بين الليالي الثلاث، بالإسناد إلى علي بن الحكم، عن ابن بكير، عن زرارة قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"[3].
ولكن ما يتيحه الله لعباده، وما يمكن أن يملأ به العباد أوعيتهم من رشحات الأنس وتجليّات الوصال، أعظم من أن يحول دونه عدد الليالي التي يسافر فيها أهل القلوب المتوثّبة والنفوس الطامحة. ففي رواية محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، واجتنب الليل، وتفرّغ للعبادة"[4].
أفضل ما ينبغي طلبه ليلة القدر:
إنّ أعزّ ما ينبغي للمؤمن العاقل طلبه في ليلة القدر هو فكاك الرقبة من النار، والفوز بالجنة. وهذا لا يكون إن أراده ميسّراً إلا إن غفر الله ذنوبه. وهو ما تشير إليه الكثير من الأحاديث باعتباره ثواباً لعمل ليلة القدر.
فعن محمد بن أبي عمير قال: "قال موسى بن جعفر عليه السلام: من اغتسل ليلة القدر وأحياها إلى طلوع الفجر خرج من ذنوبه"[5].
وفي حديث آخر عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن موسى، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: من أحيى ليلة القدر غُفرت له ذنوبه ولو كانت عدد نجوم السماوات ومثاقيل الجبال ومكاييل البحار"[6].
وقد تقدّم أن ليلة القدر يقدّر الله فيها ما سيكون إلى مثلها من قابل، فليسأل العبد ربّه خاتمة حسنة وعاقبة منجية ليدرك بالموت الفوز بلقاء الله.
[1] الكافي، ج4، ص156، ح1.
[2] الفقيه، ج2، ص103، ح460.
[3] الكافي، ج4، ص549، ح8.
[4] الكافي، ج4، ص155، ح3.
[5] وسائل الشيعة، ج15، ص398، ج11، عن فضائل الأشهر الثلاثة للشيخ الصدوق، ص137، ح146.
[6] فضائل الأشهر الثلاثة، ص118، ح114.