الكعبة حجر يتحوّل، في الوعي إلى معراج للروح. والبيت بيت للعبادة والتسليم والتعظيم، فيه الأمن والأمان وإليه شرّع سبحانه الحج:
- إنّ أوّلَ بيتٍ وُضِعَ للنّاسِ لَلّذي بِبَكّةَ مباركاً وهُدىً للعالمينَ * فيهِ آياتٌ بيّناتٌ مقامُ إبراهيمَ، ومنْ دَخَلَهُ كانَ آمناً، وللهِ على النّاسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليه سَبيلاً .
- وإذْ جعلْنا البيتَ مثابةً للنّاسِ وأمناً، واتّخِذوا منْ مَقامِ إبراهيمَ مُصلّى، وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهِّرا بيتَيَ للطّائفين والعاكِفينَ والرُّكّعِ السُّجود .
- وإذْ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تُشركْ بي شيئاً، وطهِّرْ بيتيَ للطّائفين والقائمين والرُّكَّعِ السُّجود .
- وأذّنْ في النّاسِ بالحَجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كلِّ ضامرٍ، يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق * ليشهدوا منافعَ لهمْ ويذكروا اسمَ اللهِ في أيّام معلوماتٍ على ما رزقَهمْ من بَهيمةِ الأنعام، فكُلُوا منها وأطعموا البائسَ الفقير * ثُمّ لْيقضوا تَفَثَهُمْ، ولْيُوفوا نذورَهمْ، وَلْيطَّوّفوا بالبيتِ العتيق * ذلكَ ومَنْ يُعظّمْ حُرماتِ الله فهوَ خيرٌ لهُ عِندَ ربِّهِ، وأُحِلّت لكمُ الأنعامُ، إلاّ ما يُتلى عليكمْ، فاجتنِبُوا الرّجسَ من الأوثانِ، واجتنبوا قولَ الزُّور .
- جَعَلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للنّاسِ والشّهرَ الحرامَ والهدْيَ والقلائدَ، ذلك لتعلموا أنّ اللهَ يعلمُ ما في السّماواتِ وما في الأرضِ وأنّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليم .
يعلّمنا القرآن
ومما نتعلّمه من هذه الآيات الشريفة:
1 ـ أنّ الربّ سبحانه هو الذي دلّ نبيه إبراهيم عليه السّلام على مكان البيت، حين أمره بإنزال إسماعيل وأمّه عنده، في هجرتهما القديمة. وكان آدم عليه السّلام قد وضع مِن قبل، قواعدَ بيت الله بأمر من الله عزّوجلّ.
2 ـ شرع إبراهيم وإسماعيل برفع القواعد والأسس القديمة وإعلائها، حتّى استوت بُنية حجرية مكتملة. وكان الرجلان ـ وهما يزاولان العمل البنائي العظيم ـ يشعران بضآلتهما إزاء عظمة الله تعالى، ويتطامنان رهبةً ورغبةً وخشوعاً، ويمتلئان
مناجاة ودعاة:
- ربّنا تقبّلْ منّا إنّكَ أنتَ السميعُ العليم .
3 ـ الكعبة أساس راسخ لعقيدة التوحيد، ومركز إشعاع لهذه العقيدة، ومنجاة من أشراك الوثنية والضلالة والجهالة، ففي علاقة الموحّد بالكعبة تتجلّى مظاهر وحدانية الله في الطاعة والعبادة، وحدة في الغاية، ووحدة في الطريق إلى الغاية:
- وإذْ بوّأنا لإِبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تشركْ بي شيئاً .
4 ـ والكعبة، بهذا المعنى الايماني العظيم أوّل بنية شهدتها البشرية، أُنشئت لهذا الهدف، وأوّل بيت وُضع للنّاس من أجل العبادة، فقصدُ زيارته والحج إليه تزكيةٌ للنفس، وتطهير للقلب، وهو درب يهدي إلى الصراط المستقيم، ويغترف المرء من حجّه وقصد زيارته عظيمَ الأجر والثواب:
- وإذْْ جعلْنا البيتَ مَثابةً للنّاس .
سأل رجل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن البيت الحرام:
ـ أهو أوّل بيتٍ ؟
قال: ـ ( لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركاً، فيه الهدى والرحمة والبركة ).
وقال عليه السّلام أيضاً:
[ كانت البيوت قبله، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله ].
5 ـ ومن ملامح الاقتداء بإبراهيم عليه السّلام والائتمام به وهو يخطوأمامنا في الطريق إلى الله، أن أمرنا ربّنا سبحانه أن نتخذ من مقام خليله إبراهيم ـ إذ كان يبني الكعبة ـ مصلّى لنا، نتوجّه فيه بالطاعة والذكر والشكر، فنشعر بجهود الخليل عليه السّلام إذ كان يتعب وينصب، فنكشر الله أن هيّأ لنا رجلاً نأتم به كإبراهيم. وربّما أراد ربّنا تبارك وتعالى أن يزيد من منزلة إبراهيم عنده ومن ثوابه لديه، بما يناله من الأجر في كلّ صلاة يصلّيها مصلّ في مقام إبراهيم. وفي الحديث عن الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يقرّر هذه الفكرة العامّة:
[ مَنْ سنَّ سنَّةً حسنةً فلهُ أجرها وأجر من عملَ بها إلى يومِ القيامة ].
6 ـ واستأهل بيت الله عزّوجلّ لما له من دلالات إيمانية عميقة، ورموز روحية شاخصة، ومن أثر في توحيد وجهة الموحدين، حرمةً خاصة، واحتراماً يناسب وظيفته ويلائم مهمته:
- جعلَ اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً للناس .
فالبيت له في النفوس تعظيم وقداسة، وجعل الله سبحانه من الناحية الزمنية أشهراً حُرماً، ووصل بين حرمة المكان وحرمة الزمان بصلة وثيقة، كالحج في شهر ذي الحجّة الحرام، وشرّع قضايا تناسب الحرمة كالهَدْي والقلائد.
وتتعدّد مصاديق احترام البيت الحرام وتعظيمه فيما نفعله من التوجّه في الصلوات شطر الكعبة المشرّفة، وفيما نصنعه من توجيه الذّبائح وتوجيه الأموات وجهة البيت الحرام، وكذلك فيما نتجنّب فيه استقبال القبلة واستدبارها من سيّئ حالاتنا، وفيما يخدش توقيرنا وتكريمنا لهذه البقعة المطهّرة الكريمة.
7 ـ ويرتبط بتعظيم البيت وتوقيره واحترامه ما يشيع فيه من أمن تشريعي ومن سلامة الانسان فيه وطمأنينته على دمه وعرضه وماله:
- وإذْ جعلْنا البيتَ مثابةً للنّاسِ وأمنا .
- إنّ أوّلَ بيتٍ وُضعَ للنّاسِ لَلذي ببكّةَ مباركاً وهُدىً للعالمين * فيه آياتٌ بيّناتٌ مقامُ إبراهيمَ، ومَنْ دخلهُ كانَ آمنا .
إنّ المرء ليشعر ـ وهو يعيش حالة الاحترام وحالة الأمن في البيت الحرام ـ بمعان من الجلال ومن الطمأنينة الشاملة، ويحس أنّ بيت الله تبارك وتعالى ملاذ الطريد، وملجأ الشريد، وحصن المضطهَد، وأمان الخائف، وهناءة المرعوب، فهنا في بيت الله ينبع السلام الدائم، وهنا في بيت الله يتحدّر الجلال الدائم.
8 ـ وإذ يفرغ إبراهيم عليه السّلام هو وابنه إسماعيل من إقامة الكعبة الشريفة، يبدأ التكليف الإلهي للناس أن يقصدوا بيت الله ويشدّوا الرحال إلى حجّه وزيارته، فيُسمَع صوت النبي إبراهيم عليه السّلام مؤذّناً في الناس بفريضة الحج:
- وأذِّنْ في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً، وعلى كلِّ ضامر، يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق .
- وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً .
إنّ الله عزّوجلّ إله البشرية وربّ البشرية، وقد انبثق الناس جميعاً من يد القدرة الإلهية الخالقة العظيمة؛ من أجل أن يبدأوا رحلة الحياة في السير نحو الله تعالى، وفي التوجّه نحو المصدر الذي انبثقوا منه، بنمط خاصّ من التعبّد، وطراز فريد من الطاعة والتسليم:
- وما خلقتُ الجِنَّ والإِنسَ إلاّ ليعبدونِ * ما أُريدُ منهمْ منْ رِزق وما أُريدُ أن يُطعمونِ * إنّ اللهَ هوَ الرزّاقُ ذُو القوّةِ المَتين .
وها هو ذا صوت النبيّ إبراهيم ينادي بالناس كافّة بالحجّ، فالحجّ مظهر راقٍ من مظاهر الطاعة، والبشر ما خُلقوا إلاّ ليخطوا في طريق الطاعة.
9 ـ وآية الأذان بالحج:
- وأذِّنْ في النّاسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً، وعلى كلِّ ضامرٍ يأتينَ منْ كلِّ فجٍّ عميق .
تدلّ على أنّ أذان الرسول في الناس بالحج سيُقابَل بالاجابة، وأنّ صوته الذي يجهر بالدعوة إلى قصد البيت وزيارته سيجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية، تتخطّى المسافات، وتتجاوز المفاوز والعقبات والسبل البعيدة الشائكة، لتلبّي دعوة الله التي جرت على لسان رسوله الكريم. فالقادرون من الموحّدين ـ كانوا وما يزالون وسيظلون ـ يسمعون أذان الخليل ونداءه بالحجّ، ويلبّون هذا النداء ويُيمّمون وجوههم شطر المسجد الحرام، ماشين على أقدامهم، رغم بُعد الشقة، ورغم الفراسخ والأميال، أو يقصدون البيت راكبين نياقاً قد أرهقها السفر، وأضناها المسير، حتّى وصلت إلى مكّة متعبة مكدودة مهزولة ضامرة. وجموع الحجيج هذه من القبائل والعشائر والأفراد المنقطعين تتطلّع كلّها إلى مكّة المشرّفة، تلبّي النداء الشريف، وتجيب بنبرة تتكسّر، وترقّ، وتسمو، وتشفّ عمّا بها من تخشّع، وهيبة، وسكينة، وعبودية نقية صافية:
[ لبّيكَ اللّهمّ لبّيك، لبّيكَ لا شريكَ لَكَ لبّيك. إنّ الحمدَ والنعمةَ لكَ والمُلك. لا شريكَ لكَ لبّيك ].
10 ـ ويشهد البيت الحرام، ومكّة المشرّفة جموعاً بشريةً كبيرةً متلاحقة لا تنقطع، فهي محط الرحال وموضع الآمال، ولا تكاد تخلو كعبة الله جلّ وعلا لحظة من قاصد للحجّ أو للزيارة، بل إنّ البيت ليموج بحركة الناس وازدحامهم في الطواف حول الكعبة، أو في تقبيل الحجر السود المبارك وفي استلامه، أو في السعي بين الصفا والمروة، أو في غير ذلك من شعائر الحج أو العمرة. ومن أجل هذه الكثافة البشرية الهائلة التي تتجمّع في أرض مكّة ومن أجل هذه الحركة العبادية الدائمة، كان لمكّة اسم آخر، ينبثق من هذا المعنى هو «بكّة»:
- إنّ أوّلَ بيتٍ وُضعَ للنّاسِ لَلّذي بِبَكّةَ مباركاً وهدىً للعالمين .
يقول الإمام الصادق عليه السّلام وهو يفسّر لفظة «بكّة»:
[ سُمّيت بكّة؛ لأنّ الناس يبكّون فيها، أي يزدحمون ].
وتشهد بصدق ذلك حقائق التاريخ، كما يشهد الواقع الحي الذي نعيشه كلّ عام في موسم الحجّ ومواسم الاعتمار.
11 ـ ومن أجل تحقّق النقاء الكامل، والنظافة الشاملة، أمر الله سبحانه نبيّه بالتطهير: تطهير البيت من الأقذار الماديّة والأنجاس المعنويّة، ليتسنّى لمواكب الحجيج التي لا تنقطع أن تتقدّم إلى بارئها بمراسم العبودية ومظاهر التوحيد والتأليه بقصد القرب منه والزُلفى لديه:
- وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا بيتيَ للطّائفينَ والعاكفينَ والرُّكّعِ السُّجود .
- وإذْ بوّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أن لا تشركْ بي شيئاً، وطَهّرْ بيتيَ للطائفينَ والقائمينَ والرُّكّعِ السُّجود .
وتطهير البيت إنّما يتحقّق بجعله بيتاً للتوحيد الصافي من لوثة الوثنية وأرجاس الجاهلية، بأن يعلّم إبراهيم عليه السّلام الناس الطريق إلى العبودية الطاهرة، فالعبادة فيه عبادة خالصة لوجه الله لا تشويها شائبةُ شرك أو دنس أو انحراف، كما حدث فيما بعد أيّام الجاهلية الأولى.
وتطهير البيت كذلك تطهيره من كلّ ما لا يليق بحرمة هذا البيت الشريف وقداسته.
12 ـ بناء الكعبة، ومظاهر العبادة الخاصّة التي تُزاوَل فيها، والمناسك التي تأتيها الألوف بعد الألوف من الناس، والملايين بعد الملايين، والمعاني والأسرار المتصلة بالحج والبيت الشريف وبمكّة عامّة، كلّ ذلك علامات دالة وإشارات معبّرة، توصل ـ في نهاية المطاف، أو في أوّل المطاف ونهايته ـ إلى الله جلّ وعلا، وتحكي جليل مقامه سبحانه وعظيم سلطانه، إنّها آيات وعلامات تكون لذوي البصائر بمثابة البوّابات إلى الصراط: موقف إبراهيم عليه السّلام، حرم آمن يأمن مَن دخله، مناسك وعبادات على نمط فريد، الاستمرار على مدى الليالي والأيّام، الألوف عقب الألوف، والملايين بعد الملايين، ما يحسّه المرء من هيمنة روحية مدهشة. أي شيء من هذه الأمور الرائعة لا يكون علامة تدل على الله سبحانه ؟! وأي شيء من هذه المظاهر لا تذكّر بجلال الله وتفرده بالالوهيّة والربوبيّة ؟!
إنّ في البيت لآيات وعلامات، وإنّها لبيِّنات في الوقت نفسه، توصل إلى الله من أقرب طريق صادق، وتُفضي إلى الحقّ من أيسر وجهة صحيحة: فيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ: مَقامُ إبراهيمَ، ومَنْ دخلهُ كان آمِناً .