الجهد والمشقّة في الحجّ.. موعظة وعِبرة

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الجهد والمشقّة في الحجّ.. موعظة وعِبرة

لا نزال مع سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، في معالجته للفكرة الّتي أشرنا إليها في ما تقدَّم من حديث، وهي أنَّ اللّه سبحانه وتعالى ابتلى عباده في مسألة الإيمان والطّاعة، بأن جعلهما في دائرة الجهد لا الرّاحة، فأراد للأنبياء(ع) أن يبرزوا للنّاس دونما مظهر من مظاهر القوّة، إلا قوَّة العقل والرّوح والاستقامة في خطّ الإيمان.

لذّة العمل

وفي الفقرات التّالية، يتطرّق الإمام علي(ع) إلى الحديث عن البيت الحرام، وكيف أنّ اللّه سبحانه وتعالى جعله في أكثر الأماكن صعوبةً، على حدِّ تعبير سيّدنا إبراهيم(ع)، عندما دعا ربّه ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ : {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، بمعنى أنّه لم تتوافر في ذلك الوادي أيّ شروط للحياة. ولذا، دعا إبراهيم(ع) ربّه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، لكي يكملوا مسيرة الحياة، ويبنوا مجتمعاً، فكأنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده بطاعته، من موقع الجهد والمشقَّة.

ولعلَّ الجانب الإيجابي في ذلك، هو أنَّ الإنسان عندما ينطلق نحو القيام بالمسؤوليّة من موقع الجهد الذي يتحمّله، فإنه يرتبط بهذه المسؤوليّة، ويخرج بنتائج روحيّة إيمانيّة أكثر مما لو كانت المسؤوليّة تتمثّل في مواقع الاسترخاء والراحة. ولعلَّ الإنسان يعرف ذلك من نفسه، فعندما يقوم بعمل يفرض عليه الكثير من الجهد، فإنّ النّتائج الّتي يحصل عليها من خلال كلّ مفاعيل هذا العمل في نفسه، أكثر مما لو اختصر العمل بوسائل تتّصف بالسّهولة، وهذا ما يوحي بأنّ على الإنسان أن يواجه التزاماته الفكريّة والعقائديّة من موقع الإنسان الَّذي يؤكّد مسؤوليّته في ذلك بكلّ جهده وطاقته، لتتعمّق المسؤوليَّة بمفرداتها في عقله وقلبه ووجدانه، وكأنَّ المسؤوليّة تتحوّل إلى تجسيد في وجوده، وبذلك يمثِّل الجهد الّذي يبذله الإنسان عمليّة تدريبيَّة يواجه من خلالها المصاعب، ليكون في مستوى المسؤوليَّة، وليحقِّق من خلالها كلَّ عناصر القوّة في إنسانيّته.

يقول أمير المؤمنين عليّ(ع) وهو يصوّر هذه اللّفتة الإسلاميّة:

"ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوَّلين من لدن آدم صلوات اللّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع"، وليس فيها أيّ نبضة من الحياة، "فجعلها بيته الحرام، الّذي جعله للناس قياماً"، أي عماداً للنّاس. يُقال مثلاً: (فلان قيام أهله)، أي أنه عماد أهله، لاعتمادهم عليه. فاللّه سبحانه وتعالى قدَّم بيته على أساس أنه مؤلّف من أحجار صماء، لا تختلف عن بقيّة الأحجار الأخرى من قريب أو بعيد، ولكنّها اعتبرت رمزاً للإيمان، ودليلاً عليه، وموضع اختبار الناس على ذلك، فجعله عماداً للنّاس، يستوحون إيمانهم منه، كما في حالة الطّواف حوله، وينفتحون على كلّ مسؤوليّاتهم الّتي يفرضها عليهم هذا الإيمان.

ثم يتابع الإمام عليّ(ع) فيقول:

"ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً"، يعني أصعب بقاع الأرض في المسلك والمقام. والذّاهب إلى الحجّ يعرف مدلول هذه المعاني، "وأقلّ نتائق الدّنيا مدراً". وكلمة (نتائق) ربما تعدُّ غريبة على السّمع الآن، ولم نعد نستعملها، وهي مأخوذة من قولهم (امرأة منتاق)، وهي المرأة كثيرة الحمل والولادة، يعني كثيرة الإنتاج، ويُقال ضيعة منتاق، يعني كثيرة الرّيع.

وقد أراد الإمام عليّ(ع) أن يبيِّن أنّ مكان البيت، وهو مكّة، أقلّ بقاع الأرض صلاحاً للزّراعة والإنتاج، فأرضها حجريّة، ولا يمكن أن تعطي للحياة شيئاً من الزرّع وما إلى ذلك، "وأضيق بطون الأودية قُطراً"، أي ضيّقة الجوانب، "بين جبالٍ خشنة، ورمال دمثة"، يعني بين خشونة الجبال والرّمال السّهلة. والرّمال قد تكون على قسمين، فمنها اللّيّنة، بحيث إذا وضعت القدم فيها، فإنها تغرس في الأرض، ورمال فيها شيء من الخشونة والصّلابة. أمّا الرّمال السهلة، فهي التي لا يستقرُّ فيها الزرّع، "وعيون وشلة"، والوشل هو الماء القليل، فالعيون الموجودة في مكّة ليس فيها الماء الكثير، "وقرى منقطعة"، يعني لا رابط بينها، "لا يزكو بها خفّ"، بمعنى لا ينمو ويكثر، والخفّ كناية عن الإبل، "ولا حافر"، يعني الخيل والحمير، "ولا ظلف"، والظّلف هو الشاة؛ لأنّ الثروة الحيوانيّة تعتمد على العشب، وتنمو من خلال المراعي، فإذا لم يكن في الأرض مرعى، فكيف يتسنّى لها النموّ؟!

"ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه"، يعني أن يقصدوه. وهذا الكلام من أمير المؤمنين(ع)، فيه إشارة إلى أنَّ النّاس منذ آدم(ع) حتى يومنا هذا، عرفوا البيت الحرام، وقد ذُكرت أحاديث لدى السُنَّة والشيعة، تدلُّ على أنّ اللّه عرَّف آدم من خلال جبرائيل بالبيت الحرام، وقيل إنه كان يحجّ إليه. نعم، أخذ البيتُ صورته وموقعه وبنيانه منذ زمن إبراهيم الخليل(ع)، وربما نستفيد من بعض الآيات القرآنيّة، أنَّ إبراهيم(ع) لم يؤسّس هذا البيت من فراغ، كما في الآية السابقة: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. وعلى كلّ حال، فهو بيت اللّه الحرام، الذي أراد لإبراهيم(ع) أن يؤذّن في الناس بالحجّ إليه: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، "فصار"، البيت الحرام، "مثابةً لمنتجع أسفارهم"، والنّجع هو طلب الكلأ، وصار كنايةً عن كلّ من قصد أمراً يروم النّفع منه، فيقال المنتجع لكلّ أمر يقصد منه تحصيل المنفعة.

"وغاية لملقى رحالهم"، هو الغاية والهدف الّذي يُلقون عنده رحالهم، "تهوي إليه ثمار الأفئدة"، وثمرة الفؤاد تعني السّويداء، وهي متشوّقة إليه، "من مفاوز قفار سحيقة"، والمقصود بالمفاوز الفلوات السحيقة التي لا ماء فيها، والبعيدة، حيث إنّ الناس عندما تأتي إلى مكّة، تقطع الصّحارى والقفار، "ومهاوي فجاجٍ عميقة"، والفجّ هو الطّريق بين جبلين، وفي طريق النّاس إلى مكّة، تحجزهم الجبال، فيسيرون على الطّريق بين جبلين، "وجزائر بحارٍ منقطعة"، وربما يأتي بعض النّاس مكّة من طريق البحر، "حتى يهزّوا مناكبهم ذُلُلاً"، بمعنى أنّ الشوق يحركهم للوصول إلى الهدف، فيكونون ذللاً، أي في حالة خضوع، "يهلّلون للّه حوله"، أي يرفعون أصواتهم بالتّهليل، وهو قول (لا إله إلا اللّه)، "ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له"، أيْ يمشون مسرعين قليلاً، حيث إنَّ الرَّمَل هو ضربٌ من السير، فوق المشي ودون الجري، وباعتبار أنهم لم ينظّموا شعورهم أو يغتسلوا، فيبدون مغبّرين بسبب غبار الصحراء والمشقّة، "قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم"، وهو كناية عن نزع الثياب والاقتصار على ملابس الإحرام، "وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم"، حيث يظهر الإنسان في صورة غير جميلة، حينما يترك شعره دون تسريح، "ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً"، حيث يشير الإمام إلى الأخطار والمشقّة التي يسبّبها المسير إلى بيت الله الحرام، وذلك من أجل النّتيجة التي أشار إليها(ع) بقوله: "وتمحيصاً بليغاً جعله اللّه سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنّته"، إذ قال الله للنّاس، إنكم إذا أردتم الحصول على الرحمة والوصول إلى الجنة، فإنَّ عليكم تحمّل كلّ هذه المشاقّ التي يفرضها المسير إلى بيت اللّه الحرام.

المثوبة والعمل

ثم أراد الإمام عليّ(ع) أن يُبيِّن الجانب الثاني لتلك المشاقّ في الحجّ، فقال:

"ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام"، والمشاعر هي المناسك، "بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثّمار..."، حيث يستطيع الإنسان أن يقطف الثّمار دون جهدٍ من الأشجار، "وأرياف محدقة"، والرّيف هو ما يشتمل على مجال واسع من الأرض الخصبة، والمحدقة يعني المحيطة، "وعراصٍ مغدقة"، أيْ ساحات غزيرة الينابيع وفيض الماء، "ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء"، فالتجربة الّتي يمارسها الإنسان بغير مشقّة، لا يستحقّ عليها ثواباً كبيراً، لأنّ بإمكان أيّ إنسان أن يمارسها، ولا شكّ ـ عند العقلاء ـ في أنّ الإنسان الذي يقوم بتضحية وجهد أكبر، يكون ثوابه أكبر.

وربما يقول بعض المعلّقين على (نهج البلاغة)، إنّ ذلك كان قديماً، حيث الذّهاب إلى الحجّ على الإبل، وحيث صعوبة التنقّل، أمّا الآن، فتوجد الطائرات والسيّارات، فلا صعوبة، ولكن القضيّة أنه إذا كان الطريق للوصول إلى مكّة سهلاً الآن، فإنَّ ظروف الحجّ لا تخلو من صعوبة كبيرة، من حيث الطواف والسعي، وفي عرفات ومنى، فهناك المشقّة البالغة من نواحٍ عديدة، فقد تخفّ المشقّة في جانب، ولكنّها تبقى في جوانب أخرى.

"ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها"، إشارةً إلى أسس الكعبة، "بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفَّف ذلك مُصارعة الشكّ في الصّدور"، فيندفع الإنسان في تلك الحالة دونما عناء، ولا يعيش وساوس الشّيطان التي تأتيه، فلا يكون لديه حالة صراع مع النّفس، "ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب"، لأنّه لا يوجد هناك أيّ جهد يستغلّه الشّيطان في إبعاد الإنسان عن القيام بمسؤوليّته، "ولنفى معتلج الرّيب من الناس"، فلا يجد إبليس أيّ فرصة هناك لإدخال الشكّ في نفس الإنسان، "ولكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم"، وهذا هو الموضع الأساس، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعيش المشقَّة والجهد وحالات التعب، حتى تضعف عنده حالات العنفوان والتكبر؛ لأنّ الإنسان يعيش حالة التكبر على الآخرين عندما يشعر بالاسترخاء والرّاحة والغنى، ولكن عندما يكون هو والفقير على حالة سواء في الحجّ، فقد تختلف المسألة، "وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم"، فإنّ الإنسان كلّما تعب أكثر، عاش التذلّل في نفسه أكثر، "وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله"، من خلال ما يقوم به من جهد قربةً إلى اللّه وامتثالاً لأمره، "وأسباباً ذللاً لعفوه"، يعني بالأسلوب الّذي يعيش فيه الإنسان تذلّلاً للّه سبحانه وتعالى.

هذا أحد الجوانب الّتي أثارها الإمام عليّ(ع)، وهناك تتمّة لهذا الموضوع في الأسبوع القادم، إن شاء اللّه.

قراءة 1991 مرة