لقد رسم لنا القرآن الكريم معالم حضارية سامية، قوامها رفض الشرك بالله العظيم، والنهي عن الظلم، ومنع الاعتداء، والوقوف بوجه استعباد الناس من قبل بعضهم البعض..
هذه الحضارة التي بشر بها الاسلام، لا تزال حلماً يتمناه كل انسان. على الرغم من ان الموجة التي احدثتها رسالة السماء في اول انطلاقتها، وفي فجر بعثتها؛ هذه الموجة اعطت البشرية المزيد من التقدم والرقي والتكامل في مختلف ابعاد حياتها.
فيا ترى اين هذه الحضارة، وهل يمكن ان تتحقق مرة اخرى؟
بادئ ذي بدء؛ لا يصح القول ان هذه الحضارة مستحيلة التحقق. لماذا؟
لانها لو كانت مستحيلة فعلا لما بشر بها الاسلام، وما خلدها القرآن في آياته، وما اعلن عنها رسول الله صلى الله عليه وآله لأجيال المسلمين. وفي هذا برهان كاف لإمكانية عودة هذه الحضارة من جديد، اذا ما توفرت شروطها في أي عصر واي مصر.
الحضارة الاسلامية افق بعيد:
ونظرتنا للحضارة الاسلامية يجب ان لا تتأطر بحدودها التاريخية، او تجاربها المعاصرة. فمن الخطأ ان نحاول وضع ما جرى في التاريخ الاسلامي الاول موضع تطبيق كامل للاسلام، او القول بان النموذج الكذائي الذي كان في الفترة الكذائية في التاريخ او النموذج المعاصر لنا هنا او هناك هو النموذج الذي بشر به الاسلام. لماذا؟
لانه يسلب الابداع من الانسان، ويعرقل حركته، مما لا يدعه يعمل من اجل المستقبل.
في حين ان الحضارة التي بشر بها الاسلام، انما هي افق عظيم وبعيد وعال، وهذا الافق لابد لنا ان نتحرك نحوه، وان نحصل منه على ما نستطيعه.
التوحيد سنام حضارة الاسلام:
ومن ابرز ما في الاسلام، انه يريد للانسان ان يعبد الله تعالى وحده. وكل الانبياء عليهم السلام، انما بعثهـم الله عز وجل لاجل تكريس هذه الحقيقيـة. وقد جعل ربنـا التوحيد كلمة سـواء بين الاديان السماويـة، حيث قال جل وعلا: ﴿قُلْ يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُوا اشْهَدُواْ بِاَنَّـا مُسْلِمُـونَ ﴾ (آل عمران/64)
هذا المعلم الحضاري، انما يعني ان الناس كلهم سواسية في الخلق. وعليه لا يحق لاحد ان يعبد هذا او ذاك من الناسٍ، اذ ان العبادة خاصة بالله تعالى.
من هنا فان العربي لا يحق له ان يستكبر على الاعجمي، والاعجمي لا يقبل منه ان يتفاخر على العربي. وذلك لان الله عز وجل خلق الناس كأسنان المشط، سواء كانوا اتراك او هنود او افغان او روس او.. وقد قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: " - النـاس- صنفان: اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق".
فان لم يكن أي انسان اخ لك في الدين، فهو نظير لك في الخلق، حيث له عينان ولسان وشفتان.. وله مثلما لك من تطلعات واهداف وطموحات.
الى هذا وامثاله تدعو حضارة الاسلام.
الحج نموذج الحضارة:
والحج من ابرز تجليات الحضارة الاسلامية، اذ جعل الله جل وعلا البيت الحرام نموذجاً لتحقيق التطلع الاسمى لهذه الحضارة.
وبهذا اراد الاسلام ان يجعل للبشرية قدوة ومثالاً وطريقـاً لكي يرجعوا اليه، حتى لا يقول احد بانه يستحيل ان تكون مثل هذه الحضارة فوق الارض. فحينما تذهب الى مكة المكرمة، وتطوف حول البيت الحرام، انظر الى من هم حولك في الطواف، حيث تجد الابيض والاسود، الغني والفقير، الكبير والصغير، العربي والاعجمي.. الكل يطوفون مع بعض حول ذلك البيت المكرم دون أي مائز يذكر.
وهذا المشهد العظيم يتكرر ايضاً في عرفات والمشعر الحرام ومنى، حيث تجد ملايين الناس بمختلف جنسياتهم والوانهم يجتمعون الى بعض لتأدية مراسيم فريضة الحج.
والى هذه الصورة الحضارية اشار الامام الحسين عليه السلام في دعائه في يوم عرفه، حيث قال: " يامن عجت اليه الاصوات بمختلف اللغات".
وعلى الرغم من ان هذا التجمع العظيم الذي ضم جنسيات متعددة، ولغات مختلفة.. يعطي صورة رائعة لحضارة الاسلام، عمد الاسلام الى ان يجعل حتى ثيابهم من نوع واحد خلال أداء مناسك الحج، والكل يردد نفس الكلمات: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.. وهم يتحركون باتجاهات موحدة.
هذا النموذج الحي يجعل الانسان يؤمن بكل وجوده بامكان تشكيل حضارة تجمع الناس كلهم، دون أي فوارق عرقية او طبقية او عنصرية..
مكة مركز الانتشار الحضاري:
لا شـك ان ما يجري في مكـة المكرمة او في وادي عرفـات او المشعـر الحرام.. خلال ايام الحج، انما يعكس جزءاً صغيراً من مظاهر الحضارة الاسلامية، وفي هذا دليل كاف على امكانية ان تكون مكة المكرمة مركزاً للانتشار الحضاري في كل مكان.
وقد جاء في المأثور كما الحديث المروي عن أبي عبد الله الامام الصادق عليه السلام قال: " ان الله عز وجل دحى الأرض من تحت الكعبة". وهذا يعني ان الله سبحانه دحى ونشر الارض من تحت مكة المكرمة. كيف هذا من الناحية الجيولوجية، لا اعرف. ولكن لا أشك في ان مكة المكرمة بأجواءها الروحانية، ومعالمها الرسالية تبعث بالأمل والايمان والتوحيد.. في نفوس الملايين من الناس. وقد تلمس هذا بوضوح من خلال توجه المسلمين اليها في اداء صلواتهم اين ما كانوا.
مكة من الحرمات الالهية:
وقد اولى الله تعالى مكة المكرمة مكانة خاصة، حتى جعلها من الحرمات تشريعياً وتكوينياً. فكل من يأتي اليها يتمتع بالأمن والسلامة، وكل من يعيش فيها يتمتع بالطمأنينة والاستقرار. لذلك تجد الناس يتوافدون عليها من اقطار الارض دون وجل. واذا سوّلت لاحد نفسه بالاعتداء على مكة، سرعان ما سينال جزاءه من الانتقام الالهي. وقد اخبرنا ربنا عز وجل بقصة اصحاب الفيل، حينما قادهم ابرهة ملك الحبشة ليهجم على مكة بقواته المدججة بالسلاح، وبفيلته المدربة على القتال.. ليمحي منها الكعبة المشرفة؛ مركز التوحيد ومعلم العبادة.. غير انهم قبل ان يدخلوا مكة معتدين عليها، ارسل الله عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فقضى عليهم اجمعين، والى ذلك اشار القرآن الكريم في سورة الفيل ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِاَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ (الفيل/1-5) وكل من حاول الاعتداء على مكة المكرمة لم تكن عاقبته على خير أبـداً.
وفي حديثه عن مكة، قال ربنا جل جلاله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ﴾.
والصد عن سبيل الله ابرزه واجلاه هو الصد عن مكة المكرمة، وبالذات عن المسجد الحرام. من هنا تجد الحكومات على اختلاف مشاربها ومذاهبها والوانها، لا تستطيع ان تمنع الناس من الحج، واذا ما اصدرت قراراً بمنع الحج، فانها لا تستمر طويلاً حتى تلغي ذلك المنع، لانه ليس بوسعها ان تمنع الحج دائماً.
ثم يؤكد القرآن على ان المسجد الحرام ليس لأهل مكة، ولا لمن يشرف على تلك الديار المقدسة سياسياً او اقتصادياً. كلا، انما هي لأهل مكة وغير أهلها؛ انها لكل الناس.
ثم يقول ربنا عز وجل: ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم﴾. فالذي يحارب مكة، ويؤذي حجاج بيت الله الحرام، فانه لابد له من ان يذوق العذاب الاليم.
بعد هذا، يقول ربنا جل وعلا: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾.
من خصوصيات هذا البيت، انه لا احد يحق له ان يتسلط على احد باسم اللغة او باسم المذهب او باسم القوم.. انه بيت الجميع. وعلى هذا يجدر بكل انسان يدخل مكة المكرمة ان يتجرد عن انتماءاته الجغرافية والسياسية والعرقية.. فلا يتعصب لأرض او لغة او قوم.. وانما يتوجه خالصاً لله رب العالمين. عند ذاك يشعر بانه عبد لله تعالى، فيدرك انسانيته، ويتحسس بروحانية التوحيد، فيعيش حياة الطهر.
ثم يقول ربنا سبحانه: ﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً﴾.
صحيح ان الشرك في كل مكان مرفوض، ولكن في هذا الموقـع الشريف؛ مركز تجلي التوحيد، انما يكون الرفض للشرك اجلى من كل مكان.
﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ ؛ أي ان البيت الحرام يجب ان يكون دائماً نظيفاً، طاهراً مطهراً.
حضارة الطهر:
من ابرز افكار الحضارة الاسلامية واولها، فكرة ان الارض لله تعالى لا لأحد غيره، وان الانسان عبداً لرب العزة لا لأحد غيره، وان العصبيات والحميات والعنصريات.. كل هذه الحواجز يجب ان تذهب الى غير رجعة في حياة المسلم. ثم تؤكد على ضرورة الطهارة والنظافة، اذ ان الانسان يعيش مرحلتين؛ مرحلة الفطرة النقية، ومرحلة الحياة الملوثة. فأول ما يخرج الانسان من رحم امه، يخرج بفطرة طاهرة نقية، غير ان هذه الفطرة مع الزمن تتلوث بالمحيط، كما ان الجسد يتلوث بالمحيط. فيتجمع عليها غبار الحميات والذاتيات والمذهبيات.. وهذه بدورها تشكل حواجز تحول دون معرفة الحقائق، ومعرفة النفس، ومعرفة الدين.
وبالتالي يصير الانسان في ﴿ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ (النور/40)
ولا سبيل لرجوع الانسان الى فطرته النقية، في روحه وفي عقله وايضاً في جسده، الا بالطهر. وقد جعل الله تعالى الحضور في وادي عرفات في عصر يوم التاسع من شهر ذي الحجة، فرصة للعودة الى الطهر من جديد، حيث يخاطب رب العزة كل من حضر هناك بلا استثناء: عبدي استأنف العمل، فقد غفرت لك ما سبق. عند ذاك يحصل الانسان على الطهر مائة بالمائة، فيستأنف العمل بكل صفاء ونقاء..
حضارة الانفتاح:
ومن ابعاد الحضارة الاسلامية الاخرى؛ انها تريد الخير والبركة والرحمة للناس جميعـاً، دون ان تقتصر في ذلك على من يؤيدها ويؤمن بها فقط.
من هنا حينمـا استقر النبي ابراهيم عليه السلام في مكـة المشرفـة ، وبنى البيت، عند ذاك امره الله: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.
فلم يفكر النبي ابراهيم عليه السلام في ان يحصر فضيلة الحج بالعرب فقط، ولا بأهل بابل الذين كان ينتسب اليهم، ولا لأهل مصر الذين مر عليهم، ولا لأهل كنعان حيث هاجر اليهم، ولم يخص بذلك اولاده وجماعته من العبريين والعرب، وانما دعا البشرية جمعاء الى اداء فريضة الحج ليحظوا بفضلها وكراماتها..
فالاسلام يرفض الانغلاق على الذات في اية قضية تعود بالنفع على الاخرين، لان حضارته للجميع. على عكس ما يفكر به الغربيون، اذ يتصورون ان كل ما توصلوا اليه من علوم ومعارف وتطور تكنلوجي.. انما هو حكر لهم، ولا يحق لأحد ان يمد عينيه الى تلك القضايا، لانها تعد من اسرارهم. وما يسوقونه اليوم الى هذا البلد او ذاك، انما هو من قديم علومهم ومتدنيات تكنلوجياتهم.. وهذا ايضاً لا يعطونه إلاّ مقابل مبالغ طائلة، وشروط قاسية..
حضارة متكاملة:
ولأن الاسلام يريد الخير للجميع، فهو يأخذ بأيدي الناس صوب التكامل المعنوي، كما ويأخذ بأيديهم صوب التكامل المادي. فالحضارة الاسلامية انما تنطلق ابتداءاً من الروحيات والمعنويات، ومن ثم تنتشر من افق المعنويات الى أفق الماديات. لذلك يقول ربنا عز وجل: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الاَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ﴾.
وبهيمة الانعام هذه انما هي مادة للأكل، ولأجل ان لا تحجب الانسان عن المعنويات اكد الله تعالى على ذكره في ايام معلومات واطعام البائس الفقير.
هذه هي بعض الابعاد المهمة في فريضة الحج، النموذج الحضاري الذي بشر به الدين الاسلامي. فأين نحن من هذا النموذج؟
لكي نجسد هذا النموذج في واقعنا، يجدر بنا ان نعيش روح الحج. فحينما يحضر احدنا في اماكن اداء مناسك الحج، يجدر به ان يتواجد في عمق الناس دون ان ينزوي عنهم، حتى تظهر عظمة اجتماع المسلمين الى بعضهم البعض، دون ان تجزءهم الاقليميات والقوميات، ودون ان تميزهم الالقاب والسمات.. فالكل يعيش في رحاب الاسلام بود واحترام، ومحبة ووئام.
نسأل الله تعالى ان يجعل حجنا وحج المسلمين جميعاً، حجاً اسلاميـاً كما اراد، وان يجعلنا في هذا العام من حجاج بيته الحرام، المبرور حجهم، المشكور سعيهم، المغفور ذنوبهم، انه ولي التوفيـق1.
1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.