قصیدة الحج فی الشعر العربی الحدیث

قيم هذا المقال
(0 صوت)
قصیدة الحج فی الشعر العربی الحدیث

عبدالهادی صافی

لاشك أن تجربة الحج من التجارب الإنسانیة الخالدة، تلهم الشعراء والأدباء، وتمنحهم من روعتها وجلالها عواطف وأحاسیس روحیة عمیقة، وهی على تنوعها وألوانها وأطیافها تثیر أخیلة الشعراء وتمدهم بصور حسیة وواقعیة، وتهیج فی نفوسهم أرقى أنواع المشاعر الإنسانیة، وتفتق أذهانهم عن معان كبیرة، ترتد إلى التاریخ الأول للدعوة الإسلامیة فی أول انطلاقها من الجزیرة العربیة، وتعیش حاضر المسلمین المؤلم والمتردی مع الأسف، وتتطلع إلى مستقبل أرحب حین تتحقق أهداف الأمة الإسلامیة والعربیة.

إن هذه التجربة القدسیة تدعو الشعراء أن یقفوا أمام مسؤولیتهم الأدبیة ورسالتهم، فیعبروا بحق عما یجیش فی نفوسهم من آراء سیاسیة وأفكار دینیة عامرة منحتهم إیاها المواقف المتعددة الألوان فی هذه المناسبة الدینیة السامیة، فلبس الإحرام له معنى التجرد من زخارف الحیاة، ومناسك الحج من طواف وسعی لها فی كل منسك معانیه الدینیة والإنسانیة، والوقوف بعرفات متجردین متساوین على اختلاف عروقهم ولغاتهم وألوانهم بلباس واحد یغمره البیاض الناصع كالحقیقة الواضحة.

ولغنى هذه التجربة الدینیة المقدسة وخصوبتها نجد كثیرًا من الشعراء قد صوروا مشاعرهم فیها، ووصفوها لنا وصفًا دقیقًا وواقعیًّا.. ونأخذ من الشعراء المحدثین الذین أبدعوا قصیدة الحج أمیر الشعراء أحمد شوقی فی رائعته التی یقول فی مطلعها:

إلى عرفات الله یا خیر زائر

علیك سلام الله فی عرفات

ویوم تُوَلی وجهة البیت ناضرًا

وسیم مجالی البشر والقسمات

على كل أفقٍ بالحجاز ملائك

تزف تحایا الله والبركاتِ

ثم یأخذ فی وصف الكعبة الغراء، والمیزاب، وزمزم فی عاطفة قویة متأججة، ورمی الجمرات فی صور متتابعة، وكأنها تجری حركتها أمامك هذه اللحظة:

وفی الكعبة الغراء ركن مرحب

بكعبة قصادٍ وركن عفاة

وما سكبَ المیزاب ماءً وإنما

أفاض علیك الأجر والرحمات

وزمزم تجری بین عینیك أعینًا

من الكوثر المعسول منفجرات

ویرمون إبلیس الرجیم فیصطلی

وشانیك نیرانًا من الجمرات

وما یفتنك بشعر شوقی هو هذه الموسیقى الساحرة التی تتناسب مع جلال الموقف وروعة المشهد، هذه النجوى التی یطلقها ویناجی بها ربه معترفًا بتقصیره وطامعًا بعفوه ومغفرته:

ویا رب هل تغنی عن العبد حجة

وفی العمر ما فیه من الهفوات؟

وأنت ولی العفو فامح بناصع

من الصفح ما سودت من صفحاتی

ویختلط الإحساس بجلال المكان المقدس بهموم عامة یشعر بها كل مسلم یعیش واقع أمته المتردی، وخاصة عندما یقف الحاج أمام قبر الرسول  "صلى الله علیه وسلم"  فتكون هذه المناجاة الرائعة:

إذا زرت یا مولای قبر محمدٍ

وقبلت مثوى الأعظم العطرات

وفاضت مع الدمع العیون مهابة

لأحمد بین الستر والحجرات

وأشرق نور تحت كل ثنیة

وضاع أریج تحت كل حصاة

فقل لرسول الله یا خیر مرسل

أبثك ما تدری من الحسرات

شعوبك فی شرق البلاد وغربها

كأصحاب كهف فی عمیق سبات

بأیمانهم نوران ذكر وسنة

فما بالهم فی حالك الظلمات؟

وهناك شاعر سوری حدیث، لا یقل شعره روعة عن شعر شوقی، وهو الشاعر بدوی الجبل الذی تخیل أنه یسیر فی رحلة إلى بیت الله الحرام، ویعتذر عن عدم تحقیقها، فیعیش بروحه وخیاله هذه التجربة الكبیرة التی، كما قلت سابقًا، تدعو كل شاعر إلى وصفها، والعیش فی أجوائها شعرًا وخیالًا وتصویرًا:

وأقعدنی عنك الضنى فبعثتها

شوارد شعرٍ لم ترع بضریب

أقمت وآمالی إلیك مجدة

تلف شروقًا معتمًا بغروب

ویصور الكعبة الزهراء والنور المتدفق منها، والشذا والوحی، ویأتی على ذكر الأماكن المقدسة.. الحطیم وزمزم، وكلها أماكن لها ذكریات عطرة، وتترك أثرًا كبیرًا فی النفس عند ذكرها، وتلهب القلوب لوعة وحنینا لزیارتها ورؤیتها:

هنا الكعبة الزهراء والوحی والشذا

هنا النور فافنی فی هواه وذوبی

ویا مهجتی: بین الحطیم وزمزم

تركت دموعی شافعًا لذنوبی

وفی الكعبة الزهراء زینت لوعتی

وعطر أبواب السماء نحیبی

ویصف فی قصیدته هذه الطویلة مواكب الحجیج كالأمواج، یدعون الله ویلحون فی الدعاء، تردد الصحراء صدى هذا الدعاء، وقد اجتمعوا من كل حدب وصوب یضوع الشذا من بردهم وهم جمیعًا متساوون نظائر:

مواكب كالأمواج عج دعاؤها

ونار الضحى حمراء ذات شبوب

ورددت الصحراء شرقًا ومغربًا

صدى نغم من لوعة ورتوب

تلاقوا علیها من غنی ومعدم

ومن صبیة زغب الجناح وشیب

نظائر فیها: بردهم برد محرم

یضوع شذًا: والقلب قلب منیب

أناخوا الذنوب المثقلات لواغبًا

بأفیح - من عفو الإله - رحیب

وذل لعز الله كل مسود

ورق لخوف الله كل صلیب

ویهمنا فی هذه القصیدة الثناء على الإسلام الذی وحد الأمم ومحا الأحقاد من القلوب، وكان نور هدایة للإنسانیة جمیعًا، ورحمة على العالمین، فینطلق البدوی فی هذه الابتهالات:

ویا رب فی الإسلام نور ورحمة

وشوق نسیب نازح لنسیب

فألف على الإسلام دنیا تمزقت

إلى أمم مقهورة وشعوب

سجایا من الإسلام: سمح حنانها

فلا شعب عن نعمائها بغریب

سبك متین، وصور فنیة متلاحقة، وعاطفة إسلامیة صادقة جامحة، كلها تحقق عناصر الشعر الرائع، فمن یقرأ هذه القصیدة الطویلة یحس كأنه یعیش أجواء الحج، ویشعر كأنه فی رحاب الله وفی الأماكن المقدسة، وهذه مقدرة من الشاعر أن یجعلك تعیش تجربته الشعوریة، وهذا من سمات نجاح القصیدة الشعریة كذلك، وهذا ما یسمیه النقاد بالصدق الفنی الذی یعتبر أحد الأسس الذی تقوم علیه القصیدة الشعریة، فالقصیدة متخیلة ولكنها توهمك بأنها حقیقة، لصدق مشاعرها وصدق أسلوبها الفنی، تقرأ أبیات القصیدة فیشدك الحنین إلى زیارة الأماكن المقدسة، وتتبلل عیونك بالدموع حسرة، لأنك لم تكن مع جموع الحجیج تلبی معهم، وتذرف العبرات، لأنك لم تستطع أداء الحج، وتتحرق إلى زیارة الرسول  "صلى الله علیه وسلم"  تشكو له همومك، وهموم أمتك التی رانت علیها، وسیطرت على كل حیاتها، وتتوسل وتتضرع أن یكون مستقبل هذه الأمة أحسن حظا من الأیام السابقة، وأن تتوحد كلمة المسلمین على البر والتقوى.

وما یلفتنا فی قصیدة البدوی نغمها العذب الذی یتوافق مع الجو الروحانی، والوزن الشعری (البحر الطویل) الذی یتلاءم مع الرحلة الطویلة وهی تجوب الصحراء والفیافی، واستخدامه لتراكیب وألفاظ صحراویة، وكأنها تنتمی إلى الشعر العربی القدیم (عج دعاؤها- نار الضحى حمراء ذات شبوب - أناخوا الذنوب المثقلات لواغبًا). ونقف عند بعض الصور الفنیة الجمیلة مثل (وعطر أبواب السماء نحیبی)، (تلاقوا علیها من غنی ومعدم ومن صبیة زغب الجناح وشیب)، (ورددت الصحراء شرقًا ومغربًا صدى نغم من لوعة ورتوب).

وهناك قصائد كثیرة وردت فی الشعر العربی الحدیث، وكلها قصائد رائعة، تجری على هذا النسق البدیع من الشعور بالشوق واللهفة لأداء فریضة الحج وتصویر واقعی لمشاهد المناسك السعی والطواف والموقف بعرفات ومزدلفة ومنى والبیت الحرام والكعبة الزهراء بجلالها وروعتها.. كما یقول احد الشعراء المحدثین یصف هذا الشوق وهذه المشاهد التی تتكرر كل عام، فهو فی قصیدته یصور حالته الشعوریة وقد فاتته فریضة الحج، وهو یرى الحجاج یتأهبون للرحیل، قاصدین بیت الله الحرام، فیأخذه الشوق والحنین، ویذرف الدموع حسرة وأسى، ویتراءى له البیت الحرام بجلاله ووقاره:

خلفونی مع الدموع وراحوا

لیتهم من وداعهم قد أراحوا

فجروا فی الفؤاد نبع حنین

یا بروحی حنینه الوضاح

وسماء أسمو إلیها وأسمو

وضیاء یلفنی لمّاح

وسحاب یقتادنی ونجوم

وأغانٍ علویة وبطاح

وتجلى البیت الحرام وقارًا

وجمالا أفیاؤه والساح

وجلال الأستار فی الكعبة الغراء

نور من الهدى ووشاح

ویستمر على هذا النسق الرائع فی وصف المشهد المقدس: الناس المحرمون، وزحام الطواف والتلبیة والجو السماوی یلف المكان الرحیب:

وبرایا والمطهر عریان یمشی

وزرتاه إیمانه والسماح

یا بر وحی الإحرام مورد تقوى

وتساوٍ وروعة وانفتاح

وزحام الطواف نفحة حب

وحنان الدعاء روح وراح

وتعالى الصوت الحبیب جهیرًا

تلبیات ترجیعها صداح

واقع تخشع القلوب إلیه

ومقام العز فیه الصلاح

ویقف أمام قبر الرسول  "صلى الله علیه وسلم"  یشكو ذنوبه وحوادث الأیام وهموم الحیاة، متمنیًا أن یسعده الله ویأذن بسفر إلى بیت الله الحرام:

یا رسول الأنام طال ضیاعی

فی مسیری وزلزلتنی ریاح

وخیالی إثر الحجیج شفانی

وسقتنی بصفوها الأقداح

أترانی أحظى بسفرة حج

فی حیاتی أم فاتنی المصباح

ونرى أن الشعراء المغمورین الذین لم تسلط علیهم الأضواء یأتون بشعر قد یكون أروع وأعمق من شعر الشعراء المشهورین البارزین، ففیه الصدق والتواضع، بعیدًا عن حب الظهور والبروز.. فیبقى شعرهم أشد أثرًا وتأثیرًا فی النفس، وجاء شعرهم- حقًّا- مزینا بثوب قشیب من الحسن والجمال.

وأرید أن أختم هذا الحدیث عن قصیدة الحج بشاعر آخر، لا یقل براعة وإبداعًا عن الشعراء الذین تحدثنا عنهم، فصحیح أنهم مغمورون، ولكن إذا أتیحت لهم فرصة للظهور، وطبعت دواوینهم وآثارهم الأدبیة، لعرفهم الناس ولقدروا إنتاجهم الأدبی، واستطاعوا أن یقوموه تقییمًا صحیحًا، یضعهم فی مكانهم اللائق فی دنیا الأدب وعالم الشعر.

أرید أن أستعرض قصیدة لشاعر امتلك كل أدوات الشعر الجید، من خیال خصب، ومعانٍ شعریة عمیقة، وتناسق فی الألفاظ، وقوة فی التراكیب، وسوف أدلل أثناء الحدیث على مكامن القوة فی الأداء، والخصوبة فی الخیال، والمشاعر الدینیة الصادقة، لأخلص إلى أن الشعر الإسلامی الذی یطرح أفكارا إسلامیة، ویصور أحداثا دینیة، ویصور مناسبات مقدسة، لا یقل روعة وجمالًا عن سائر القصائد التی تصور وتتحدث عن قضایا إنسانیة أخرى غیر دینیة.. وأحب أن أشیر فی هذه الدراسة إلى أن الأدب الإسلامی إذا توافرت فیه عناصر الجمال والقیم المعنویة، یكون من الآداب الجدیرة بالقراءة والمتابعة، أما إذا أهمل الجانب الجمالی فی الشعر والأدب، واعتمد على رصانة المعانی التی یقدمها ویطرحها فحسب فإنه یكون بذلك قد أهمل عنصرًا مهمًّا فی العملیة الإبداعیة وهو عنصر الجمال، وینتج عن إهمال هذا الجانب أدب باهت لا حظ له من الروعة والإبداع، إذ إن أهم عنصر من عناصر الشعر هو عنصر الجمال الفنی، وعلیه مدار التفوق بین الشعراء، ولو فقد هذا العنصر لاقترب من النثر، ولفقد الجمال فیه، وهو- أی عنصر الجمال فی الشعر- یخلب العقول ویجدد الإحساس بالروعة، ویضیف إلى القارئ المتعة النفسیة، وقد یكون الجمال الصادر من الشعر یأتی عن طریق الصور الشعریة والخیال الجانح، وقد یكون من التناغم الموسیقی ومن تناسق الألفاظ وانسجامها مع المعانی والأفكار، وقد یكون من هذه العناصر جمیعًا.

والشاعر الذی أعرض بعض الأبیات من قصیدته التی جاءت فی دیوانه «نسیم الصباح» تحت عنوان «هنا تذرف العبرات یا عمر» یشكو فی مطلعها من الهجیر وقفر المرابع وذبول الزهر فی الساح، ویشكو من بعض الخطوب التی نزلت به، فیطلق بعض الحكم والحقائق التی یراها ماثلة أمامنا، فلیس فی الأرض الواسعة وفی البهارج والأضواء التی تحیط بنا إلا حصاد هشیم یجلب السهد والهم، وقد آن للقلوب الحائرة المضطربة أن تستریح فی دیار الله وتستریح من طول الجهد والعناء:

هذی دیار حباها الله منزلة

یهفو إلیها.. إلى أفیائها البشر

ربوعها السحر لا یرقى لها قلم

والسحر یدرك لا یأتی به الخبر

خذنی إلى (البیت) تسعى فی جوانبه

نسائم بأمان الله تنتشر

فی بطن (مكة) قدسی الشعاع سرى

فما تحس سوى الأنوار تنهمر

وفی كل منسك من مناسك الحج یشعر بالسعادة الروحیة والوجدانیة، وبالمتعة الإیمانیة، فعند الطواف تظلنا سحابة من الأمن والاطمئنان فلا تحس بخوف ولا بخطر، وعند المقام ركعتان.. جنان الكون تختصر، ونرتوی من ماء زمزم وكوثره العذب الذی یغسل كل كدر وبلاء، والملتزم یلوز به الحاجون، وتقبیل الحجر الأسعد والدموع الحانیات التی تذرف فی شوق وفی وله:

تعال نشرب صفاء الود كوثره

هذا المعین فلا طین ولا كدر

تعالى (نسع) إلى روض تظلله

سحابه الأمن.. لا خوف ولا خطر

وفی مقام (خلیل الله) موقفنا

والركعتان: جنات الكون تختصر

تبدت الكعبة الزهراء حالیة

مجلوة.. فعیون القوم تنبهر

لقد التقى فی هذه الأبیات: جلال المعانی مع جمال المبانی، قدسیة العواطف والمشاعر مع نورانیة الصور والمفردات والحروف، فجاءت القصیدة محلقة فی أجوائها الإیمانیة، تنطلق بجمالیات إبداعیة یحسها كل قارئ وذائق. والأبیات التی قدمتها تعتبر نموذجًا طیبًا وصالحًا للشعر الإسلامی الرفیع الذی نرنو إلیه.

وفی الختام، فقد لاحظنا أن قصیدة الحج فی الشعر العربی الحدیث تتسم بسمات فنیة وخصائص أسلوبیة تمیزها عن غیرها من القصائد التی كتبت فی تجارب شعریة أخرى، وأهم هذه السمات شفافیة التعبیر، وحرارة الأداء، وجمال التصویر والتلوین.

قراءة 1350 مرة