العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄الحجّ من العبادات الإسلامية التي أرادها الله للناس، لتتحقّق لهم من خلالها النظرة الشاملة لقضية الإنسان في الحياة. فقد جعله الله فريضةً على كلّ مَن استطاع إليه سبيلاً، واعتبر تركها خروجاً على عمق الالتزام الإسلامي، حتى جعل التارك لها في حكم الخارج عن الإسلام.
وقد تعبّد الله بالحجّ عباده منذ النبيّ إبراهيم (ع)، وجاء الإسلام فأضاف إليه شروطاً وأحكاماً، وحدَّد له أهدافاً ورسم له خطوطاً، من أجل أن يحقّق للإسلام الدور الكبير في الحياة في فاعلية وامتداد، فلم يقتصر فيه على جانبٍ واحدٍ من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق في العبادات الأُخرى.
لقد جعل الله الحجّ فريضةً على كلّ مَن استطاع إليه سبيلاً، واعتبر تركها خروجاً على عمق الالتزام الإسلامي
أ ـ الإحرام:
وقد شرَّع الإحرام في كلّ التزاماته وتروكه، ليحقّق للإنسان أهداف الصوم، ولكن في أسلوبٍ متحرّكٍ متنوّع، لا يخاطب في الإنسان جوع الجسد وظمأه، ولكنّه يخاطب فيه جوانب أُخرى تُهذِّب فيه نزعة القوّة، فتوحي إليه بالانضباط والتوازن، وتُهذِّب فيه نزعة الترف فتقوده إلى الخشونة، ونزعة الكبرياء فتوجّهه إلى التواضع، وتعلّمه كيف يحرّك الفكر والثقافة والمعرفة في اتّجاه الحقّ بدلاً من الباطل، لتبقى المعرفة سبيله الوحيد في حركة الكلمة والفكرة.
ب ـ الطواف:
وشرَّع الطواف حول البيت وجعله صلاةً، ليعيش معه الإنسان آفاق الصلاة وروحيتها، ذلك البيت الذي أراده الله رمزاً للوحدة بين الناس في معناه الروحي المتّصل بالله، لا في مدلوله المادّي المتمثّل بالحجارة، وللإيحاء بأنّ الحياة لابدّ من أن تتحوّل إلى طوافٍ حول إرادة الله، فيما يتمثّل في بيته من مشاعر الطهارة والنقاء والخير والبركة والرحمة والمحبّة.. لتكون الحياة حركةً في طريق الأهداف التي يحبّها الله ويرضاها، والتي يريد لعباده أن ينطلقوا معها في رسالته ومسؤوليته.
ج ـ السعي:
وفرض السعي بين الصفا والمروة، ليعيش الإنسان معه الشعور الواعي بأن خطواته لابدّ من أن تتّجه إلى المجالات الخيِّرة، ليكون سعيه سعياً في سبيل الخير، وابتعاداً عن طريق الشرّ، فهو يسعى هنا لا لشيء، إلّا لأنّ الله أراد منه ذلك ليحصل على القرب منه، ما يوحي بأنّ السعي هنا إذا كان للحصول على مرضاة الله فيما تعبَّدنا الله به من أمره ونهيه، فينبغي لنا أن نطلق السعي في مجالات الحياة الأُخرى، في كلّ آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الاتجاه نفسه، لنحصل على رضاه في كلّ أُمورنا.
د ـ الوقوف بالمشاعر:
أمّا الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومِنى، فهي وقفات تأمّل وحساب وتدبّر وانطلاق، ليستعيد فيها الإنسان مبادئه التي قد تضيع في غمرات الصراع التي يخوضها في سبيل لقمة العيش أو في سبيل تحقيق رغباته ومطامعه المشروعة وغير المشروعة، فإنّ الإنسان قد يفقد الكثير من قيمه الكبيرة تحت تأثير النوازع الذاتية من جهة، والتحدّيات المضادة التي قد تخلق لديه ردود فعل متوترة ـ من جهةٍ أُخرى ـ فينسى في غمرة ذلك كلّه الكثير الكثير ممّا يؤمن به أو يدعو له، الأمر الذي يجعله بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التأمّل والمحاسبة، ليرجع إلى فكره وعقيدته وخطّه المستقيم في الحياة.
الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومِنى، هي وقفات تأمّل وتدبّر ومحاسبة للنفس
هـ ـ الأضحية:
وجعل الأضحية رمزاً حيّاً للتضحية والعطاء، فيما يرمز إليه من تاريخ إبراهيم وإسماعيل (ع)، عندما أسلما لله الأمر وانتصرا على نوازع الأبوّة في عاطفتها تجاه البنوّة، وعلى حبّ الذات في إحساس الإنسان بحياته، وانتهى الأمر إلى أن فداه الله بذبحٍ عظيم، كما جعل الأضحية رمزاً للتضحية فيما يريد أن يثيره في حياة الإنسان في كلّ زمانٍ، من السَّير على هدى هذه الروح، ليكون ذلك خطّاً عملياً تسير عليه الحياة في كلّ مرحلةٍ تحتاج إلى التضحية والعطاء.
و - الرَّجم:
وكان رجم الشيطان إيحاءً بما يريد الله للإنسان أن يعيشه في حياته كهمٍّ يوميٍّ يواجه فيه خطوات الشيطان، في فكره وعاطفته وقوله وفعله وانتماءاته وعلاقاته العامّة والخاصّة. وربّما كان في هذا التكرير في الفريضة لرجم الشيطان - الرمز، إشارة إلى أنّ قضية محاربة الإنسان للشيطان ليست قضية حالة واحدة يعيشها الإنسان ويتركها، بل هي قضية متجدّدة في كلّ يوم.►