حوار سلوى النجار مع د. عمر عبدالكافي
رحلة الحج حيث المناسك عبادات محضة، والعبادات أسرار وعبر، إنما هي رحلة مغفرة وتذكرة وقد أفلح من وعي. وفي هذا الحوار مع الدكتور عمر عبدالكافي، مدير مركز الدراسات القرآنية بجائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، عضو هيئة الحكماء في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، نحاول أن نلقي الضوء على عدد من العِبَر والدروس والأسرار النفسية والفلسفية التي تزخَر بها مناسك الحج.
* نبدأ بسؤال عن مفهوم الحج في الديانات السماوية من ناحية تاريخه، وما العبر التي يمكن أن نخلص إليها من هذا الأمر؟
- من أوجه عَظَمَة الإسلام، أنه ينظر إلى الرسالة التي نزلت من السماء، على أنها دين واحد. يقول الله سبحانه وتعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا) (الشورى/ 13). إذن الدين واحد، لكن المذاهب والشرائع هي التي تختلف باختلاف النوعيات والثقافات وتبايُن الزمان والمكان.
وفي ما يتعلّق بالحج، نجد أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في الآية الكريمة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96). والنبي(ص)، لمّا تكلّم عن قضية الحج، قال كما ورد في حديث ابن عباس، "إنّ رسول الله(ص) مَرّ بوادي الأزرق. فقال: "أي وادٍ هذا؟". فقالو: هذا وادي الأزرق. قال: "كأني أنظر إلى موسى (ع) هابطاً من الثنية، وله جؤار إلى الله بالتلبية". ثم أتَى على ثنية هرشى فقال: "أي ثنية هذه؟". قالوا: ثنية هرشى. قال: "كأنّي أنظُر إلى يونس بن متّى (ع) على ناقة حمراء جعدة، عليه جبّة من صوف، خطام ناقته خلبة، وهو يُلبّي". فالأنبياء حجّوا إلى هذا المكان. إذن الحج ليس بدعة إسلامية ولا شَعيرة تخصُّ أمّة محمد (ص)، إنّما الحج موجود منذ بداية أبينا آدم(ع).
- أسرار الحج:
* مَناسك الحج من اغتسال وطَواف وسعي وغيرها، لَيست أعمالاً مُجردة، بل هي عبادات لها من الأسرار وفيها من الآيات والعِبَر ما يختزل كثيراً من أوجه فلسفة الفكر الإسلامي، فَهَلاً تفضّلتُم ببيان جانب من ذلك؟
- العبادة في الإسلام لها أسرار، والنظر إلى عبادة الحج من زاوية فلسفية، يكشف عن جانب من أسراره، ومنها مثلاً أنه إذا جاء موسم الحج، فكأنّ المسلمين ينتدبون في كل عام وفداً منهم لتقديم فروض الولاء والطّاعة لله رب العالمين عند بيته المحرّم. هذا "الوفد"، كما تقول كُتب اللغة، هم عليه القوم، فهم وفد مكرمين عند الله تعالى، ومن ذلك قوله تعالى، في وصف أهل الجنة (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا) (مريم/ 85).
هذا الوفد أول ما يبدأ به من مناسك الحج، بعد تحرّي المال الحلال في النفقة، هو الاغتسال والتطهُّر، ليس التطهّر البَدَني فقط، بل التطهّر الروحي أيضاً من الخطايا والذنوب. فالإنسان عندما يتوضأ للصلاة ربما تكون يده نظيفة، لكنه يغسلها ممّا يكون قد أتَى بها من إيذاء أو رشوة أو أخذ ما لا يحق له، وهكذا المضمضة، فهو يلفظ فيها ما اقترف من غيبة أو كذب أو فحش في القول، وجميع الأعضاء على هذا النحو، وهو من أسرار الوضوء والاغتسال.
فإذا اغتسل الحاج، فهو يلبس ما يشبه الكَفَن، ذلك الثوب الأبيض الذي لا جيب فيه ولا مخيط ولا محيط، وفيه تذكرة بحاله بعد مماته، فإذا ودّع أهله وركب الباخرة أو الطائرة، فيتمثّل عندما يأتي الموت، أنه أيضاً سوف يُحمَل ويُتركَ وهو ذاهب إلى حسابه مع رب العباد.
وإذا بلغ مكة المكرمة، زادها الله تشريفاً وتعظيماً، ودخل المسجد الحرام وطَالَع الكعبة المشرّفة أول بيت وُضِع للناس وقِبلَة المسلمين في كل بقاع الأرض، فله دعوة مستجابة، ونحن نطوف من هذا الرمز، حيث الصلاة عنده بمئة ألف صلاة، وحيث يُقسّم الله عزّوجلّ الرحَمات في هذا المكان المبارك. وإذا كان الناظر إلى الكعبة له ثواب، فما بالَك بالطائف حولها؟
وعندما يقضي الحاج الطّوَاف، يذهب إلى السعي بين الصفا والمروة، كما صَنَعَت أمُّنَا هاجَر، عندما كانت تبحث عن الماء لوليدها إسماعيل (ع)، ونحنُ نأخذ هذه الشّعيرة العظيمة عن امرأة نُقدّرها ونُجلّها على مَرّ التاريخ، وهذا دليل على مَكَانة المرأة في الإسلام. ويجب علينا نحنُ معشَر الرجال، أن نُسرع ما بين الميلين الأخضرين، ونهرول سريعاً، كما كانت أمّنا هاجر تصنع عند مهبط الوادي ومسيله. أما المرأة فلا تُهرول بين الصفا والمروة، بل تمشي على تَؤدَة، لأنّ أمّنا هاجر أنابَت عن كل بنات حواء في ألاّ يُسرعن، وكانت وكيلة لهنّ في ذلك.
بعد ذلك، نشرب من زمزم، ونتضلّع منه، حيث نتذكر هذا الوادي الذي لم يكن فيه زرع ولا ضَرع ولا ماء، حتى جاء جبريل (ع) وضرب الأرض بجناحه، فخرجت بئر زمزم طعام السّقاء وسِقَاء الشفاء الذي لا ينضَب أبداً.
بعد ذلك يأتي اليوم الثامن، وهو يوم التروية، وفيه يذهب الحجيج إلى منى، استعداداً لبدء مناسك الحج، ويأتي عليهم يوم عرفة، الذي يُشبه تماماً اليوم الآخر، فالكل في عرفة من مطلع الفجر حتى غروب الشمس، حاسر الرأس، يلبس زيّاً واحداً، وجميعهم في دعاء وإخبات نيّة، اللغات مختلفة والألسنة مختلفة والدعوات مختلفة ورب العباد سبحانه وتعالى ينظر إليهم ويُباهي بهم ملائكته.
فإذا أفاض الناس من عرفات إلى المزدلفة عند المشعر الحرام، فهم عندما يقومون بجمع الحصى إنما يجمعون أسباباً يقومون بها على ضرب إبليس وإيقاف الشر الذي يأتيهم من شياطين الإنس والجن، فإذا صلُّوا صلاة الفجر في المشعر الحرام، ذهبوا إلى جمرة العقَبَة الكبرى، وهناك نتذكّر الخليل إبراهيم (ع)، الذي لَمّا هَمّ بتنفيذ أمر الله بذبح ولده إسماعيل(ع)، أتَاه إبليس يعلو بصوته عليه يا إبراهيم: أتذبح ولدك؟ أتذبح وحيدك؟ فيرميه الخليل بحجارة سبعة عند الجمرة الصغرى والوسطى والكبرى. ونحن نأخذ هذا المنسك من خليل الله إبراهيم(ع)، وفي ذلك دليل على وحدة الدّين وأنه الدّين واحد، وأننا كما قال رب العباد عزّوجلّ: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78). وكما دعا سيدنا إبراهيم (ع)، (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129).
ثم يأتي ذبح الأُضحية، ليُذكّرنا بفداء إسماعيل (ع)، وقد قال (ص): "أنا ابن الذبيحين"، فأبوه عبدالله تعرّض للذبح وفُدي بمئة من الإبل، وسيدنا إسماعيل (ع) جَدُّه وجَدُّ العرب والمسلمين، تعرّض للذبح وفَداه رب العباد بكبش من الجنّة.
ثم بعد ذلك يذهب إلى الحلاقة، حيث الرجل يحلق والمرأة تُقصّر، ومعروف أنّ زينة كثير من الناس في شعورهم، وربما عندما يحلق الرجل وتُقصّر المرأة يستشعران خضوعهم وذلّتهم لله وائتمارهم بأمره سبحانه وتعالى.
- بين نقل وعقل:
* يقول الحاج بمناسك الحج من طواف وسعي ورجم بالجَمَرات، امتثالاً لأمر الله تعالى، ويفعلها بجسده، لكن قلبه وروحه متجهان إلى الله الواحد الأحد. لكن البعض من غير المسلمين، قد يسألون عن العلاقة بين الرمز والمدلول في هذه الأعمال.
- عندما ننظر إلى فريضة الحج، يجب أن نرى القضية بين نقل وعقل. النقل هو قوله تعالى (وَأتمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ لله) (البقرة/ 196). أما العقل، فقد يأتي الشيطان ليقول: مبنى يُطاف حوله؟ أليست هذه صورة من صوَر الوثنية؟ ونحن نردُّ على ذلك بمثال بسيط، وهو العَلَم الذي تتخذه الدول رمزاً لها، فتحية هذا العَلَم، الذي هو قطعة مِن القماش الملوّن ترمُز إلى تقدير واحترام الدولة، في حين أن تمزيق العَلَم فيه إهانَة للدولة صاحبة العَلَم، ونحن عندما نذهب إلى الكعبة ونطوف حولها، فلأنها رمز للمكان الذي يتقرّب فيه العبد إلى رب العباد عزّوجلّ. ويُقال إنّ البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك، لا يخرجون إلاّ يوم القيامة، لو وقع منه حجر لَوَقَع على سقف الكعبة، إذن نحن عندما نطوف ونصلي حول الكعبة المشرّفة، إنما نتشبّه بهؤلاء الملائكة الذين يعمرون ويتعبَّدون في البيت المعمور.
أما أن يُقال كيف تُقبّلون حجراً ترجمون آخر؟ فهذه قضية النقل، لأن حجراً يُقبَّل وحجراً يُرجم، فهذه هي الدفعات النفسية والطاقة الإيجابية التي نُقبّل من أجلها حجراً ونقذف آخر. وعمر يقول عند الحجر الأسود: والله أنا أعلَم أنّك حَجَر لا تنفَع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله (ص) يُقبّلك ما قبّلتك".
لكن ائتماراً بأمر الله، فرحلة الحج رحلة إذعان وتسليم لله سبحانه وتعالى، تبدأ بالاغتسال وتنتهي بغسل الذنوب، وما بينهما عبادة لله سبحانه وتعالى.
* لا شك في أنّ استحضار مثل هذه الدفعات النفسية والشحنات الإيجابية، يلزمه استعداد نفسي وروحي للحج، فما السبيل إلى بلوغ ذلك؟
- الاستعداد النفسي للحج لا يقل أهمية عن الاستعداد البدني والمادي للحج، ويبدأ الاستعداد النفسي للحج بتجهيز المال الحلال، فالإنسان إذا كان في ماله شُبهة أو حرام ويتجه إلى الحج، يقول (لبّيك اللهم لبّيك). يقول الله تعالى "لا لبّيك ولا سعديك وحجّك مردود عليك، مالك من حرام وملبسك من حرام ومشربك من حرام وغُذّيت بالحرام، فأنّى يُستَجاب لك".
* هناك بعض المسائل الحديثة، التي تُعرَض في الحج ومنها الحج المُريح والمُيسّر، الذي يُذلّل جانباً كبيراً من مشقّة الحج. فهل في ذلك نقصان للأجر؟
- يقول الله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء/ 147). فإذا يُسّر للحاج وسيلة مواصلات مُريحة، ومكان طيب للإقامة، فلا أرى في هذا انقاصاً للثواب. بل على العكس إذا استطاع الإنسان أن يحج حَجّاً كهذا، فهو يتفرّغ للعبادة والدّعاء وإخلاص النيّة ولا تشغله المشقّة ولا المتاعب عن العبادة، بفضل من الله سبحانه وتعالى. فأنا لا أرى أبداً هذا إنقاصاً للثواب وربنا كريم ومُتفضّل. والحقيقة أنّ القائمين على أمر الحج في المملكة العربية السعودية، لا يُقصّرون، ويعملون على إراحة الحجيج قدر وسعهم.
* وماذا عن القادرين الذين يكررون الحج النافلة أكثر من مرة؟
- الحجيج الذين حجّوا مِن قبل، وأسقطوا الفريضة، عليهم أن يوجّهوا نفقات حج النافلة لتزويج الشباب المسلم، وسداد ديون المسلمين المعوزين، وإدخال السرور على الأسر المسلمة، فهذا خير لهم من حج النافلة، لأن إدخال السرور على المسلمين فرض، والحج الثاني إلى المئة نافلة. وقد يستشهد قائل بقول الرسول (ص): "تابعوا بين الحج والعمرة.."، نقول نعم. هذا عندما يستغني فقراء المسلمين ويتزوج الشاب غير القادرين، وتُسدّد ديون المدينين، وهذه للذين يكررون شعيرة الحج كل عام، وهم من الأثرياء.
* في المقابل، نجد مَن يعمَد إلى تأجيل حج الفريضة، على الرغم من القدرة والاستطاعة، فما قولكم ذلك؟
- الحج مرهون بالاستطاعة، ومَن لم يستطع فقد سقط عنه الحج. حتى إنّ بعض الناس، عندما يأتي ليستفتيني في أن يذهب ليحج عن أمه أو أبيه بعد وفاتهما، أقول له عندما كان أبوك أو أُمك على قيد الحياة، هل كانَا يستطيعان الحج؟ يقول لا، كانا فقيرين مثلاً. إذن فقط سقط عنهم الحج، أما إذا أراد أن يحج من باب البر بأبيه أو أمه، فهو خير، لكنه ليس مفروضاً عليه أن يحج، لأن غير القادر سقط عنه الحج تماماً.
لكن الأمر الخطير يتعلق بالقادر على الحج ولم يحج. إذ يقول رسول الله (ص): "مَن استطاع أن يحج ولم يحج، فليمُت إن شاء يهودياً أن نصرانياً أو مجوسياً". ويُقال إنّ عمر قال: مَن كان يستطيع أن يحج ولم يحج ومات، لا اُصلّي عليه صلاة الجنازة.
* وفي ختام هذا الحوار، ما الكلمة التي تتوجهون بها إلى مَن يَسّر الله تعالى لهم أداء فريضة الحج هذا العام؟
- أقول للذين سوف يَمُنّ الله عليهم هذا العام، بأداء هذه الشعيرة الكبير، أن يتقوا الله ربهم، وأن يُخلصوا نيتهم لله، وأن يعلموا أنّ الحج إنما هو نداء ربّاني. يقول سبحانه وتعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27). فإنّ الخليل إبراهيم (ع)، نادَى ورب العباد قدر أن تسمع الأرواح. فاعلم أيُّها الحاج، أنّ روحك قد استجابت لنداء الخليل، وهذا مِن فضل وكَرَم الله عليك، فتوكَّل على الله سبحانه وتعالى، بصدق نيّة، واعلم أنّ هذا نداء مِن الله، فاستجب لنداء الله، ولا تستجب بعد ذلك لنداء الشيطان.