موسم الحجّ هو موسم الارتحال إلى الله في تصفية دائمة للقلب والعقل مما علق بهما من تأثيرات الدنيا ومظاهرها، وما أكثرها! في هذا الموسم، يعمل المؤمن المخلص على تعزيز حضور الله تعالى في عقله وقلبه، وفي كلّ ساحات الحياة، متمثّلاً لمعاني الحجّ ومفاهيمه الجليلة، سلوكاً متجذّراً يمتد معه مدى العمر، في إجابة وتلبية دائمة لنداء الله تعالى في التزام ميثاقه وحدوده.
وفي أجواء الحج، لا بدَّ لنا من أن نركّز مفاهيمه في نفوسنا، وإلى ذلك يشير سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) بقوله: "لا بدَّ لنا من أن ندرس المفاهيم الَّتي يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يركّزها في عقله وقلبه، وأن يحركها في حياته من خلال الحج، لأنّ الحجّ كأيّة عبادة من العبادات، ليس مجرّد كلمات وحركات ووقوفات، ولكنّ العبادة، صلاة كانت أو صوماً أو حجاً، تستهدف بناء إنسانيَّة الإنسان للارتفاع بعناصر إنسانيَّته في انفتاحه على ربّه.
فالمطلوب من الإنسان في هذه الحياة في كلّ الرسالات، أن يتقرّب إلى الله، وأن يعيش معه، ويفكّر فيه، وأن يذكره، وأن يتعبَّد له، وأن يطيعه، وأن يجعل دنياه في كلّ معانيها تجربة لما يحياه في الآخرة، وذلك بأن تكون دنياه لله، لتكون الآخرة في جوار الله".
إذاً، الارتفاع بإنسانية الإنسان، وتقوية عناصر شخصيته وربطها بأصالة هويتها وقيمتها في انفتاحها على ربها ومواقع مرضاته، هو من الأبعاد الحقيقية والأساسية لموسم عبادة الحج.
وكتاب الله تعالى هو المحور في استنطاق العبد لنداءات ربّه في الحج وغيره من العبادات، وهذا ما يذكره سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) بقوله: "في هذه الأجواء، نحتاج إلى أن نستنطق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الأساس في العقيدة، فآياته هي التي تؤكد لنا أصالة العقيدة والمفاهيم المتصلة بالشريعة، وبالمنهج وبالحركة، وإن آياته هي التي تضيء لنا النور في كل ظلمات اختلاط المفاهيم والأفكار، لذلك، نريد أن نستنطق القرآن في مسألة الحج فيما يريد الله للإنسان أن يعيه.. فهل يكتفي الله منّا بمناسك الحج كجسد يحتوي أعضاءه، أو أن هناك روحاً للحج، فمن لم يدخلها في عقله ومن لم يدخلها في قلبه فإنه لم يحجّ؟".
وهذا كتاب الله تعالى يوضح جملة من المفاهيم على الإنسان أن يتدبرها ويعيها بعقله وقلبه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[الحج: 197]. وفي تفسير الآية، يقول سماحة المرجع المفسّر السيد فضل الله(رض): "فالإحرام للحج يشرع في شوال وذي القعدة وذي الحجة... {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، فالحج هو فترة السلام، والجدال يعبّر عن خصومة وعن نزاع، فأنت تجادل فيما يغلب على الجدال الإنساني من الثأر للذات أو الثأر لما يعرض على الذات من العصبيات، ولذلك يريد الله تعالى أن تجاهد نفسك".
هنا، يعيش الإنسان معنى السلام الحقيقي في نفسه ومع الآخرين، هذه النقاط الثلاث تتصل بالإنسان الآخر [الرفث، الفسوق، الجدال]، ويتحدث سماحته(رض) عن ذلك بالقول: "ونلاحظ أنّ هذه النقاط الثلاث تتصل بالإنسان الآخر، ما يوحي بأن الله يريد لك في حركتك في الحج أن تكون الإنسان الذي يعيش مع الإنسان الآخر، بعيداً عن لذته كما مع المرأة، وبعيداً عما يؤذي الآخر فيما تمثّله المعصية من إساءة إلى الإنسان والحياة أو الجدال فيما يعبّر عنه من خصومات..
ثم أراد الله تعالى في هذا المجال أن تنفتح على الخير، فكأنه يقول لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وإنما الحج الخير، اعمل خيراً في كلماتك، وخيراً في علاقاتك بالناس، وفي كل ما تعبِّر به عن مسؤوليتك في الحياة {تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} حتى لو فعلتموه في السرّ، لأن السرّ والعلانية يستويات عند الله.
والحجّ موسم يؤكّد فيه المؤمن تقواه، ويعاهد نفسه وربّه على الاستزادة منها، والتزوّد بها كسلاح يواجه بها الفرد والجماعة كل ما يعترض مسيرتهم في الوجود من تحديات.".
ويضيف سماحته(رض): "{وَتَزَوَّدُواْ}، ففكِّر وأنت في الحج أنك بحاجة إلى زاد تقدّمه يوم القيامة، حيث لا زاد إلا التقوى، ولذلك، حاول وأنت تتحرك نحو الحج وأنت تعيش داخله أن تحصل على التقوى بأن تتقي الله تعالى من موقع حبّك له وحبّ رضاه، ومن موقع خوفك منه لتبتعد من غضبه.. وحاول أن تحاسب نفسك في الحج حتى تكتشف ما في نفسك من عناصر الانحراف، وحاول أن تجاهد نفسك وتحاكمها من أجل أن تخرج إنساناً تقياً منفتحاً على الله سبحانه وتعالى.
{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ}، فهو يريد أن يؤكد المسألة وأن يربطها بنفسه {يا أولي الألباب} يا أولي العقول، فإذا كان لك عقل تفكّر فيه، فإنَّ عقلك يقول: أيها الناس، إن نهاية المطاف عند الله،كما كانت بداية المطاف من الله، فعندما تتقوم الله في مواقع رضاه فتعملونها وتتقون الله في مواقع غضبه، فتتركونها تحرزون عقلانية الحركة وعقلانية العمل، لأن العمل يقودك إلى ما ينقذ نفسك وإلى ما يركّز مصيرك".
فالمسألة هي في العمل الصالح النافع الذي يعود خيراً وسلاماً ورحمة على الفرد والجماعة، وهو ما يكون أشدّ جلاءً ووضوحاً في ذكر الله، واستحضاره على الدوام في وجدان المرء، وفي هذا السياق، يقول المرجع السيد فضل الله: "{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} استحضر وأنت تذكر الله تعالى كيف كنت ضالاً فهداك، وكيف كنت منحرفاً فدلّك على طريق الاستقامة، واحمد ربّك واشكره على الهداية...
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، استحضر دائماً نعمة الهداية، فإذا عشت معنى النعمة فيها، كان ذلك حافزاً لك بأن تحوطها من كل ضلال وتحرسها من كل سارق حتى تستمر بها، لأنَّ الإنسان إذا غفل عن نفسه وعن هداية ربه، فقد يسرقها السارقون وقد يصادرها المنحرفون من حيث لا تدرون ولا تشعرون".
ويتابع في السياق ذاته: "{وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي قبل هذا الهدى، {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، فعندما تريدون أن تتحركوا من موقع إلى موقع فكونوا مع الناس الذين يكبّرون والذين يلبّون والذين يخشعون والذين يخضعون، فإنك عندما تعبد الله في هذا الجو الجماعي الصارخ بالله، الملبي لله، الخاشع لله، المهاجر إلى الله، فإنك تزداد بذلك روحانية وتشعر بنفسك أنك جزء من أمة وجزء من مجتمع".
وذكر الآخرة من صميم حسابات المؤمن، فهو دائم الذكر لهذا الموقف، لذا هو يذكر مواقفها ويعمل لها، وحول هذه النقطة يقول سماحته(رض): "وأما الآخرة، فهو في غفلة عنها حتى في ذلك الموقف. إنه يذكر الله حتى يعطيه الدنيا، أما أن يطلب من الله الآخرة، فهذا ليس وارداً في حساباته، ولكن هناك أناساً يعرفون أن الله أراد للإنسان أن يوازن بين الدنيا والآخرة، ففي الحديث: "ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه.
والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:77]، {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة: 200]، لأنه لم يذكر الآخرة ولم يعش اهتمامات الآخرة، فليس له فيها نصيب، لأن نصيب الآخرة للذين يفكّرون في الآخرة ويعيشون همّها، كما قال الإمام علي(ع): "فليكن سرورك بما قدّمت وأسفُك فيما خلّفت من فرص، وهمّك فيما بعد الموت".. فمن لم يعش هم الآخرة فإنه لا يستعد ولا يعمل لها، ومن لا يعمل للآخرة، فكيف يحصل على النتائج الإيجابية فيها؟".
ومن معاني التلبية الأصيلة للإجابة الدائمة لنداء الله تعالى على المستويات كافة، وحول ذلك يتابع سماحته(رض): "وأنت تلبّي ربّك وتشهده أنك تستجيب له، تستحضر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وتستحضر كل نداءات الله في وعيك، وتعطيه عهداً أنك من هنا تبدأ الاستجابة له، والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، بأن تنطلق في هذا الاتجاه لتتحرك من جديد، ولتكون حياتك إجابة دائمة لله فيما ألزمك به وفيما حرّمه عليك".
تبقى الهجرة إلى الله، وفيها يختم سماحته(رض) بقوله: "فيا ربنا إننا في الطريق إليك، هاجرنا إليك كما قال إبراهيم(ع) {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ}، فاجعل هجرتنا في الحياة ونحن نسير إليك هجرة عقولنا إليك، لتلتقي بالحق فيما تتحرك به، وهجرة قلوبنا إليك لتكون عاطفتها عاطفة الحق، وهجرة كل جسدنا إليك حتى يكون وقفاً على طاعتك وبعيداً عن معصيتك. وبذلك نحجّ ولا نكون كما جاء في الكلمة المأثورة "ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج".
وفي نهاية المطاف، نلتقي بقول أحد أئمة أهل الكتاب(ع): "لا يعبأ الله بمن أمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وخلقٌ يداري به الناس، وحلمٌ يردُّ به جهل الجاهل".. بأن تأتي من الحج لتكون الورع الذي يحجزك ورعك عن معاصي الله فيما تستقبل، وأن تكون إنساناً تداري الناس فلا تثير حساسياتهم، وأن تكون حليماً تردّ جهل الجاهل بالعفو والمغفرة {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}. [مصدر كلام السيد:الندوة،ج3، ص 120 وما بعدها].