أخذ الملاحدة العرب من بلادهم الجهل والتعصب وأخذوا من الغرب الانحلال والغرور فجمعوا بين السوء هنا وهناك، وانسلخوا من انتماءاتهم ولم ينسلخوا من عيوبهم، وافتخروا -وهم العرب- على العرب بما عند الغرب! "مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".
يدعوني النظر للجاهل إلى الشفقة به وتعليمه، إلا الجاهل المتعالم الذى ساوى غيره في الجهل ثم تعالى وتعالم وادعى الفهم، فهذا يدعو إلى الغيظ منه أو السخرية به، وكلام الملحدين العرب نموذج صارخ لذلك. الذين يحاربون كل ما هو إسلامي بدعوى كل ما هو إنساني، ويوهموننا التناقض بين غير متناقضات فيقولون: (العمل أم التوكل- الرحمة أم تطبيق الحدود- العلم أم الدين) في صورة ساذجة غبية تفقدك حتى الرغبة في الحوار، ومثل هذه الأمثلة يسميه المنطقيون "السؤال المشحون أو الملغوم" الذي يفترِضُ ابتداءًا تعارضًا وهميًا ثم يبني سؤاله عليه فيضلل غيره!
ومنه كذلك دعواهم التي يقيؤونها كل حج (إطعام الفقراء خير من الحج) وكأن هناك تعارضًا، ويرددها المسلمون جهلًا وعاطفةً، والحق أنه لا تعارض، فالعبادة لها مقاصدها وسبيلها، وفعل الخير له مقاصده وسبله، لا يغنى هذا عن ذلك. والعبادة -فضلًا أنها أمر الله واجب النفاذ- لا يقول عاقل بعدم أهميتها وأهمية الجانب الروحي للإنسان وأثره في السكينة والاتزان النفسي، ولا يغني عنه كل شيء من الأنشطة الخاصة أو الاجتماعيه
لا مشكلة أن نتحدث عن أفضلية إطعام الفقير على تكرار الحج، وقد تحدث الفقهاء في هذا ولكنه في إطار الإقرار بأهمية كل عمل من هذه الأعمال، واحترامها، والإيمان بها
كما أن الله -حاشاه- لم يهمل الفقير، والأوامر كثيرة للدولة وللفرد في التصدق على المسكين وكفايته، وكفالة اليتيم، والسعي في حاجة الأرملة والمسكين، ومراعاة شعوره عند العطاء، ويكفي أن الأمر بالزكاة هو القرين للصلاة في أغلب آيات القرآن. فدعوى الملحدين والتنويريين تلك أبعد ما تكون عن المنطق والإنصاف والاتزان. وأتساءل: لماذا لا نسمع هذه المقارنات إلا فيما يخص الإسلام؟ لماذا لا يقولون: "إطعام الفقراء خير من المصايف أو من السينما أو غيرها؟". مع أن الحج لا يتكلف عُشر معشار ما يتكلفه غيره من وسائل الترفيه قليلة أو عديمة الأهمية أو حتى المضرة! فالأمر ليس شفقة بالفقير بقدر ما هو كره للإسلام وشعائره، وما أحقر التخفي بالخير لقصد آخر، والتلبس بالشفقة لستر الكره!
يجب أن نحقق التوازن بين تعاليم الدين المختلفة، وبين الشخصي منها والاجتماعي، ومع الحذر من قوم فُتنوا بالغرب فحملوا إلينا حضارتهم بغثٍّها وسمينها، بل غثِّها فقط |
ثم أقول للمسلمين المخدوعين المنهزمين نفسيًا أمام الغرب، لِمٙ لا نعتز بإسلامنا بكل تفاصيله من أعظمها إلى أدقه؟ تخجلون من حديث الإسلام عن تفاصيل طريقة الطعام والنوم ودخول الحمام، ثم تهتمون وتفخرون بطريقة الغرب في إمساك السكين والشوكة، وفي طريقة التحية والسلام والجلوس والقيام، وغيرها من القوانين الدقيقة التي تسمى "الإتيكيت"، لماذا يحترم الغرب تلك الآداب الصغيرة وتحترمونها تبعًا لهم، ثم تخجلون من آداب الإسلام العظيمة إذا ما قورنت بغيرها في الذوق والنظافة والجمال؟
والعجيب أن هؤلاء المخدوعين ألغوا كل تعاليم الدين، فإن حدثتهم عن تعاليم الإسلام للدولة والمجتمع، قالوا "الدين أمر شخصي"، وإن حدثتهم في الأمور الشخصية، سخروا وقالوا: "وهل أرسل الله نبيًا ليخبرني كيف آكل؟ وهل يغضب الله لو دخلت الخلاء بالقدم اليمنى بدل اليسرى؟"، وإن أمرتهم بالعبادة قالوا: "نقاء القلب خير من ذلك، وحسبنا أننا ندين بالإنسانية" فلم يبق من إسلام التنويريين إلا بعض القيم التي يكاد يتفق عليها البشر جميعًا، فلا حاجة أصلًا لاسم "الإسلام" إذ الحاجة للاسم هي تعيين شيء مميز، ولا شيء هنا ندعوه!
أيها المستغربون (نسبة للغرب) لماذا لا ترون التقدم إلا في الانسلاخ التام عن الثقافة والتراث العربي (وليس فقط الإسلامي) والتلبس الكامل بالثقافة الغربية واقتفاء العادات والمظاهر الغربية واحدة واحدة؟ دول شرق آسيا والهند -مثلًا- مع تقدمهم يتمسكون ويعتزون بحضاراتهم وثقافاتهم وطقوسهم بشكل كبير حتى في أقل تفاصيل الحياة كالملابس والطعام. لماذا العلمانيون العرب -دون غيرهم- يريدون أنفسهم وأقوامهم مسوخًا ونُسٙخًا من حضارات أخرى، ولا يتوقفون عند التنصل من تعاليم الدين، بل يتنصلون من أصلهم وماضيهم وحضارتهم على الجملة!
لامشكلة أن نتحدث عن أفضلية إطعام الفقير على تكرار الحج، وقد تحدث الفقهاء في هذا ولكنه في إطار الإقرار بأهمية كل عمل من هذه الأعمال، واحترامها، والإيمان بها، وتحقيق التوازن بين تعاليم الدين المختلفة، وبين الشخصي منها والاجتماعي، وبين ما بيني وبين الله وما بيني وبين الناس، ومع الحذر من قوم فُتنوا بالغرب فحملوا إلينا حضارتهم بغثٍّها وسمينها، بل غثِّها فقط!
المصدر: الجزیره