تمهيد
يعتبر عامل الوراثة من العناصر الرئيسة التي يتمّ البحث عن مدى تأثيرها في صناعة شخصيّة الطفل عند علماء التربية والنفس والاجتماع والبيولوجيا، فما هي الوراثة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في رسم معالم ماهية الطفل؟
ما هي الوراثة؟
الوراثة في اللغة العربية من مادة (و ر ث)، بمعنى "أن يكون الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب"1. فالوراثة عبارة عن انتقال شيء جزءاً أو كلّاً من شخص أو موضوع إلى آخر مادياً أو معنوياً2.
والمدلول الاصطلاحيّ للكلمة لا يختلف في المضمون عن المعنى اللغويّ.
وقد أصبح موضوع الوراثة اليوم محوراً مستقلّاً لعلم خاصّ من فروع علم الأحياء أطلق عليه وليام باتسون مصطلح: "علم الوراثة" Genetics، ووظيفته دراسة الصفات التي يتمّ انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وكيفية ذلك الانتقال، وتفسير أسباب التشابه والاختلاف بين من تجمعهم صلة القرابة.
التكوين البيولوجيّ للكائن الحيّ
ابتدأت أوّليات الأبحاث العلمية المعتمدة على الملاحظة الحسّية حول الوراثة مع غريغور مندل Gregor Mendel في منتصف القرن التاسع عشر، حيث قام بمراقبة كيفية انتقال الصفات الموروثة من الآباء إلى الأبناء. وهكذا أخذ البحث في هذا العلم بالتطوّر شيئاً فشيئاً نتيجة التراكم الكمّيّ والكيفيّ في هذا المجال. وقد ساعد تطوّر البحث العلميّ، والتقدّم التقنيّ، خصوصاً في مجال صناعة الأجهزة المجهرية الدقيقة - الميكروسكوب الإلكترونيّ - وصناعة الكمبيوتر، في تسجيل واحد من أعظم الإنجازات البشرية في اكتشاف عظمة سرّ الله تعالى وقدرته في خلق الإنسان، ألا وهي قراءة الخارطة الوراثية وفكّ رموزها Gentic Ma pping، ومعرفة ترتيب المعلومات الوراثية الكاملة عند الإنسان من خلال تحديد نوع وتسلسل الجينات الموجودة في الحقيبة الوراثية (الجينوم)3.
ويؤكّد هذا الاكتشاف أهمّية إجراء الفحوص المخبرية اللازمة قبل الزواج من أجل الاسترشاد الوراثيّ الوقائيّ. وقد أُعطي الإنسان أيضاً القدرة على التدخّل عن طريق الجينات لتحديد جنس المولود ذكراً أو أنثى، أو العبث وإيجاد التشوّهات الخلقية، أو جعل الإنسان أكثر شبهاً لأمّه أو أبيه... إلخ.
كما يُشكّل هذا الاكتشاف الخطوة الأولى على طريق إعطاء الإنسان قدرة أكبر على التحكّم في الحدّ من الأمراض ذات الصلة بالناحية الوراثية من حيث قابلية الإصابة بها، ولكن ما زالت الطريق طويلة في هذا السياق وتحتاج إلى الكثير من الأبحاث وتراكم الجهود البشرية.
وقد زرعت يد الله تعالى هذا القانون الوراثيّ الطبيعيّ كميزة وجودية في الكائنات الحيّة لضمان الحفاظ على وحدة الصور النوعية لها، ونقل الصفات والخصائص البيولوجية (كلون البشرة والعينين والشعر، وفصيلة الدم، وشكل الجسد...). كما يسمح هذا القانون الوراثيّ بنقل الأمراض القابلة للانتقال، من الأصل إلى الفرع.
والبحث عن فقه تطبيقات علم الوراثة له مجال واسع في الدراسات الفقهية المعاصرة، مثل تحديد النسب، وتحديد جنس المولود، وتحديد التشوّهات الخلقية المجوّزة للإجهاض، والاستنساخ...
رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة بيولوجياً
من المسائل الثابتة في البحث البيولوجيّ، أنّ الإنسان يورّث الخصائص الجسمانية لذريّته. ولا ريب عند أحد من العلماء المسلمين في صحّة وبداهة قانون الوراثة الطبيعيّ فيما يتعلّق بنقل الخصائص والصفات الجسمانية من الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد، مؤكّدين أنّ هذا ما كشفت عنه الأحاديث النبوية، خصوصاً الوارد فيها لفظ: "العرق"، منها:
عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "أتى رجل من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هذه ابنة عمّي وامرأتي، لا أعلم منها إلا خيراً، وقد أتتني بولد شديد السواد، منتشر المنخرين جعد قطط4، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي.
فقال-النبي صلى الله عليه وآله وسلم- لامرأته: ما تقولين؟
قالت: لا والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ما أقعدت مقعده منّي - منذ ملكني - أحداً غيره.
قال الإمام الباقر عليه السلام -: فنكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه مليّاً، ثم رفع بصره إلى السماء، ثم أقبل على الرجل فقال: يا هذا، إنّه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقاً كلّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروقوتسأل الله الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تُدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك.
خذي إليك ابنك. فقالت المرأة: فرّجت عنّي يا رسول الله"5.
وهناك عدّة روايات قريبة المعنى من هذه الرواية6.
ومنها: ما ورد في الحثّ على حسن اختيار الزوجة، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس"7، حيث اعتبر بعض العلماء أنّ هذا الحديث يُسلّط الضوء على قانون الوراثة بشكل صريح باعتبار الترادف بين العرق والوراثة8. ومعنى العرق معروف، وهو أيضاً في اللغة أصل كلّ شيء وما يقوم عليه9، ودسّاس من الدسّ أي أدخل الشيء في الشيء بخفاء، ومفاد الحديث أنّ هناك خصائص معيّنة تنتقل بالنسب من الأصل وتدخل إلى الفرع.
رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة ذهنيّاً ونفسيّاً وسلوكيّاً
لكن يبقى السؤال: هل تشمل الوراثة انتقال الخصائص غير الجسمانية إلى الذرّية، كالخصائص الذهنية والصفات النفسية... إلخ؟ وعلى فرض انتقالها هل يُمكن للإنسان بإرادته الحرّة واختياره نقض قانون الوراثة الطبيعيّ؟
نُشير في البداية إلى مقدّمة منهجية في هذا السياق، وهي أنّ العلاقة بين جسد الإنسان وروحه هي علاقة الاتّحاد التفاعليّ، بمعنى أنّ روح الإنسان تؤثّر في بدنه، والخصائص البدنية للإنسان تؤثّر في روحه، وهذا يعني أنّ الإنسان الذي تكون له خصائص وصفات جسمانية معيّنة ستؤثّر على صفاته الذهنية والنفسية، فمثلاً إنّ بعض الغدد إذا أفرزت كمّية أكثر من المعتاد يؤدّي ذلك إلى سرعة الغضب عند الإنسان، وإذا أفرزت بكمّية أقلّ من المعدل الطبيعيّ يُلاحظ على الإنسان الارتخاء.
ويكشف لنا التطوّر العلميّ يوماً بعد يوم إمكانية السيطرة على مثل هذه الحالات في مرحلة ما من حياة الإنسان، فمثلاً إنّ مرض phenylketonuria الذي تنتج عنه أعراض التخلّف العقلي، هو قابل للتوارث، ولكن إذا تمّ اكتشاف المرض عن طريق الفحوصات المطلوبة في وقت مبكر كأن يكون قبل دخول الطفل في الشهر الثالث من عمره مثلاً، فإنّه يُمكن تجنّب تلك الأعراض بدرجة كبيرة، من خلال تجنّب تناول الأطعمة التي تحتوي على بروتينات خاصة تزيد من تراكم المادة الضارّة، والمتسبّبة في إحداث المرض نتيجة تأثيرها على خلايا المخ. وقد أظهرت متابعة العديد من الحالات نجاحاً كبيراً، وتقدّماً ملحوظاً في النموّ العقليّ، حتّى يكاد يصبح الطفل طبيعياً في سنّ الخامسة من عمره تقريباً10.
ونضرب مثالاً آخر في هذا السياق، وهو مرض ويلسون Wilson’s disease، وهو أحد الأمراض الوراثية العائد إلى اضطراب في التمثيل الغذائيّ للنحاس، بحيث يؤدّي تراكم النواتج الضارة للنحاس إلى تلف خلايا الجهاز العصبيّ، وأصبح من الممكن التحكّم بهذا المرض من خلال تناول عقار البنيسيلامين penicillamine.
وهناك أمثلة كثيرة لا تُحصى في العلاقة بين تصرّفات الإنسان وسلوكه وبين حالته الجسدية، وبعض هذه الخصائص الجسدية تنتقل إليه بالوراثة، وهذا ممّا لا شك فيه11.
وبالعودة إلى السؤال، صرّح العديد من العلماء المسلمين بهذا الخصوص بالإيجاب، معتبراً أنّ هناك خصائص ذهنية كالذكاء أو التبلّد والحمق...، ونفسية كالكرم والشجاعة وسوء الخلق...، تنتقل من الأصل إلى الفرع بالوراثة12. يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "إنّ الآباء والأمّهات ينقلون قسماً من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم حسب قانون الوراثة الطبيعيّ"13.
ويقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال... وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية"14.
وواحدة من استدلالاتهم على ذلك نفس العبارة السابقة: "العرق دسّاس" أو "العرق نزاع"، مع إضافة روايات أخرى في هذا المجال، منها: عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تزوّجوا في الحجز الصالح، فإنّ العرق دسّاس"15، والحجز هو الأصل والمنبت16, وبقرينة العرق دسّاس لا يكون المقصود بالحجز الصالح الصلاح بلحاظ البيئة، بل بلحاظ الوراثة، وهذا يعني أنّ الطفل يحمل من خصائص أمّه وأبيه الذهنية والنفسية والأخلاقية.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "انظر في أيّ شيء تضع ولدك فإنّ العرق دسّاس"17. وقد عقّب الإمام الخمينيّ قدس سره على هذا الحديث بقوله: "والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء"18، مضيفاً في هذا السياق الحديث الوارد عن الإمام عليه عليه السلام: "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق"19.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ"20. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "استجيدوا الخال فإنّ العرق دسّاس"21.
وعنه: "اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين"22. وذلك لأنّ الولد يكسب من صفات أخواله وأخلاقهم بالوراثة. قال العلامة محمد باقر المجلسي معلِّقاً: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحد الضجيعين"، لعلّ المراد بيان مدخلية الخال في مشابهة الولد في أخلاقه، فكأنّ الخال ضجيع الرجل لمدخليّته فيما تولد منه عند المضاجعة من الولد..."23.
ومن الأدلّة على ذلك أيضاً، ما روي أنّ الإمام علياً عليه السلام حين قال لأخيه عقيل وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: "انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوّجها، فتلد لي غلاماً فارساً. فقال له عقيل: تزوّج أم البنين الكلابية، فإنّهليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوّجها الإمام علي"24، فأنجبت له أبا الفضل العبّاس الذي دافع عن أخيه الحسين عليه السلام في كربلاء بشجاعة حتى استشهد دونه.
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تُساكنوا الخوز، ولا تزوّجوا إليهم، فإنّ لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء"25.
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لا تناكحوا الزنج والخزر، فإنّ لهم أرحاماً تدلّ على غير الوفاء"26.
وقد ذهب بعضهم أبعد من ذلك في قانون الوراثة، فمثلاً يرى الشيخ باقر شريف القرشي أنّ قانون الوراثة يشمل نقل الكفر والإلحاد من الآباء إلى الأبناء، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارً﴾27، حيث يقول: "فالآية دلّت بوضوح على انتقال الكفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلى الأبناء"28.
تحديد الموقف من المسألة
لا ريب في أنّ لبعض الخصائص البدنية والأمراض الجسمية دوراً في الحالات الذهنية والصفات النفسية للإنسان كما أثبتت الأبحاث التجريبية والعلمية. وتقدّمت بعض الأمثلة سابقاً.
وانتقال تلك الخصائص والأمراض الجسمية بالوراثة للأبناء سيلعب دوراً في منحهم الحالات الناتجة عنها تبعاً لها.
كما أنّه لا ريب في أنّ صفات الآباء والأمّهات تلعب دوراً مؤثّراً في تكوين استعدادات خاصّة عند الطفل تجعله أقرب إلى بعض الصفات منها إلى صفات أخرى29. وهذا واضح في الروايات، وسيظهر خلال مسار الدروس اللاحقة. فإذا كان المقصود بمؤثّرية قانون الوراثة في الخصائص الذهنية والصفات النفسية والروحية للطفل هو إيجاد مثل هذه الأرضية الخاصة التي تجعل الطفل أكثر استعداداً للسير في اتّجاه معيّن فهو أمر مسلّم، ولكن إن كان المقصود هو انتقال الخصائص والصفات نفسها أي الكرم والشجاعة مثلاً بالوراثة من الآباء والأمهات إلى شخصية الطفل، فهذا ممّا يُمكن المناقشة فيه من جهة أنّ الطفل يولد خالي النفس من كلّ معرفة أو ملكة أخلاقية أو مهارية سلوكية، ثم يبدأ باكتساب المعارف بالتدريج، فما يكون مجهّزاً به بأصل الخلقة هو الاستعداد والقابلية دون نفس المعارف، وبذلك تخرج المعرفة، أمّا الملكات النفسانية الأخلاقية - والأثر المطلوب الناتج عنها - فهي عبارة عن كيفيات وصفات بطيئة الزوال تحصل نتيجة الممارسة المتراكمة لها حتى ترسخ في النفس، فيصدر عنها الفعل مناسباً لها، فتحتاج إلى الدربة والعادة والبيئة الحاضنة لنموّها، فالموروث هو الاستعداد الخاص دون نفس الصفات بما هي صفات، والاستعداد الخاص الموروث لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة.
لذا يعتقد بعض العلماء بعدم وجود دليل على انتقال الصفات المكتسبة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء، بل قام الدليلُ على العدم، يقول السيد محمد باقر الصدر في هذا السياق: "إنّ الصفات المكتسبة لا توّرث"30.
ولتوضيح هذه النقطة لا بد من بعض التفصيل، فبعد اتفاق العلماء البيولوجيين على أنّ الصفات غير المكتسبة تنتقل بالوراثة، وقع الخلاف بينهم في أنّ الصفات المكتسبة هل تورّث أم لا؟
وقد أجاب البعض أمثال جان بابست لامارك أنّ الصفات الجسمانية التي تحصل أثناء فترة حياة الكائن الحيّ تنتقل إلى نسله بالوارثة، وكذلك هو رأي تشارلز داروين. ولكن أبحاث علم الوراثة الحديث ترفض هذه النظرية. إلا أنّه ليست هذه النقطة هي موضع البحث، بل هي هل تنتقل الصفات الذهنية والخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من قِبَل الآباء والأمّهات إلى الأبناء؟
في الحقيقة، لا يوجد أيّ دليل علميّ تجريبيّ ولا وحيانيّ (قرآنيّ - روائيّ) على الانتقال الوراثيّ للخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء كما هي أي كصفات محصّلة بالاختيار، كما يدّعي بعض علماء النفس والاجتماع والأخلاق من أنّ الطفل يولد مجهّزاً بمجموعة صفات ناشئة من الوراثة كالخوف المفرط أو الميل إلى الاعتداء تعجز كلّ وسائل التربية والبيئة عن تغييرها، وكذلك الدليل التجريبيّ والوحيانيّ يُناقض الرأي المقابل الذي يعتقد أنّه لا دور للوارثة في بناء هويّة الطفل أبداً، وأنّه صنيعة التربية فقط.
لكلٍّ من الوراثة والبيئة دورها
أمام هذين الرأيين، يُمكن أن نختار رأياً ثالثاً وسطياً، يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه منهما ومن البيئة، فالوراثة لها دور واضح كما ورد في الأحاديث السابقة، والبيئة لها دور أيضاً، وكذلك التربية
لها دور، مضافاً إلى دور الإرادة الحرّة للإنسان نفسه، فإنْ كان المقصود بانتقال الصفات من الآباء إلى الأبناء، هو انتقال الصفات التي حصّلها الآباء بالإرادة الحرّة والاكتساب إلى الأبناء كما هي فهو أمر لا شاهد عليه، وإنْ كان المراد أنّ خصائص الأب أو الأم توجِد استعداداً خاصّاً وقابلية معيّنة عند الطفل للنمو تجعله يسير باتّجاه ما يُشابه الأب أو الأم فهو أمر تؤكّده النصوص الروائية المتقدّمة. مع الإشارة إلى أمرين مهمّين، وهما: أنّ الموروث أي الاستعداد الخاص لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة، أولاً. وثانياً، إذا كانت الفطرة التوحيدية السليمة التي هي من أشدّ الاستعدادات الخاصة التي جُبلت عليها نفس الطفل قابلة لأن تُدفن وتُدس بسبب مؤثّرات التربية والبيئة وطبيعة الاستجابة الشخصية، فبالأولوية القطعية يكون هذا هو حال الاستعدادات الوراثية.
بين الوراثة والبيئة والتربية
وبهذا يتّضح أنّه يُمكن توجيه شخصيّة الطفل باتّجاه مغاير لما هو مكوّن عليه من استعداد خاصّ منقول إليه بالوراثة.
ولكن، كما وجد في البيئة اتّجاه حتميّ، كذلك نُلاحظ في الوراثة وجود اتّجاه حتميّ، إلى درجة اعتبر بعض العلماء مثلاً أنّ الخصائص العقلية للطفل مثل الذكاء تعود إلى عوامل وراثية
في الأغلب31، كما في دراسة هرندون (Herndon) سنة1954م، حيث أثبت أنّ دور الوراثة في تحديد الذكاء يتراوح بين (50 %-75 %)، وكذلك دراسة بيركز (Berkes)، ودراسة آثر جنسن (Jensen) الذي يعتبر أن حوالي (80 %) من الاختلافات بين الناس في الذكاء يُمكن تفسيرها بالفروق الوراثية المباشرة بين هؤلاء الناس.
وقد اتّضحت مناقشة هذا الرأي ممّا تقدّم سابقاً في نقد نظرية العامل الواحد في تفسير خصائص وصفات الطفل، لأنّ هناك مجموعة عوامل وعناصر تتداخل وتتفاعل فيما بينها لتُشكّل هوية الطفل، منها البيئة - وقد أُجري العديد من التجارب المعاكسة في هذا المجال، كالأبحاث التي أجراها جيزل ولورد والدراسة التي قام بها كيفر حول تأثير البيئة في الذكاء32-، وأهمّها التربية، فضلاً عن التفاعلات الداخلية لنفس المتربّي كعنصر إضافيّ إلى عاملي التربية والبيئة، "فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتّقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإرادتهم واختيارهم"33.
هل كلّ الاستعدادات الموروثة قابلة للتغيير؟
يُمكن تقسيم الاستعدادات الموروثة إلى قسمين:
أولاً: استعدادات لها طبيعة بيولوجية إمّا محضة وإمّا تنعكس على الخصائص الذهنية كقلة الذكاء أو البلادة والحمق أو التخلّف العقليّ... كما تقدّم في بعض الأمثلة. واتّضح أنّه كلّما تقدّم التطوّر العلميّ عند الإنسان كان لديه قدرة أكبر على التحكّم بها. ولكن يبقى الكلام في عدم وفرة هذه الفرص عملياً بنحو يستطيعه كلّ الناس وفي أيّ دولة كانت، لذا ستبقى هذه الاستعدادات غير قابلة للتغيير.
ثانياً: استعدادات قابلة للتغيير والتعديل، بسهولة أو بصعوبة.
يقول الشيخ جعفر السبحاني في هذا السياق-بغض النظر عن المناقشة في بعضّ الأمثلة التي ذكرها -: "... أمّا الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقاً، فلا شك أنّ الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الإجمال، ولكن ما يتركه الآباء والأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يفرض على الأولاد فرضاً لا يُمكن إزالته مثل الحمق، والبلادة، والعقل والذكاء، والجبن والشجاعة وغير ذلك ممّا لا يُمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإصلاحية.
الثاني: ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والاقتضاء، وبصورة تأثير العلّة الناقصة، فيُمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسلّ وغيره، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرّد فإنّه يُمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان وعقليّته، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمّهات مصيراً لازماً وقضاء حتماً، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيّرة لأرضية الوراثة"34.
فقابلية صفة ما للتوارث، ويطلق عليه بالمصطلح العلميّ Heritability، لا تعني عدم قابلية التغيّر، بل الصفات الوراثية لديها القابلية للتغيّر، ويصطلح عليه Variability.
* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- معجم مقاييس اللغة، ج6، ص105.
2- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج13، ص77.
3- ونوضح هذه الفكرة بشكل مختصر، يتركّب جسم كلّ كائن حيّ كالإنسان من مجموعة أجزاء صغيرة جداً يُطلق عليها اسم الخلايا الحيّة. وتحتوي كلّ خلية على نواة في داخلها، وفي
داخل النواة أجزاء تُسمّى: الكروموسومات chromosomeالصبغيات - وهي شريط من الحمض النوويّ DNA، يحتوي على الجينات gene. ومن هاتين الكلمتين تمّ اشتقاق مصطلح الجينوم genome، فهو يجمع بين gen وهي الأحرف الثلاثة الأولى لكلمة جين، والجزء الثاني هو الأحرف الثلاثة الأخيرة من كلمة كروموسوم وهي ome. والدلالة العلمية
لمصطلح الجينوم البشريّ: الخريطة الجينية البشرية أو الخريطة الوراثية أو الحقيبة الوراثية البشرية الموجودة داخل نواة الخلية، والتي تحمل الصفات والخصائص الوراثية للإنسان.
وعدد الكروموسومات في كل خلية 46، تحتوي الخلية التناسلية على نصف هذا العدد 23، وعندما يلتقي الحيوان المنويّ مع البويضة يُصبح العدد 46، أي أنّ نصفه يأتي من الأم، والنصف الآخر من الأب، وبالمقدار الذي تكون الصفات الوراثية بارزة في كروموسومات أيٍّ منهما يأتي الشبه للأب أو الأم.
4- جعد قطط: أي شعره شديد الجعودة.
5- الكافي، ج5، ص562.
6- أنظر: جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص327- 328.
7- السرائر، ج2، ص559. والمحجة البيضاء، ج3، ص93.
8- فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص61. والجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص162.
9- تاج العروس، ج13، ص324.
10- يراجع: عبد القوي، سامي، علم النفس البيولوجي، الفصل الخامس، مكتبة النهضة المصرية، 1997م.
11- يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص206-207.
12- يراجع مثلاً: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126. والسبحاني، جعفر، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، ص115. والأبطحي، علي، الإمام الحسين في أحاديث الفريقين من الولادة إلى ما بعد الشهادة، ج2، ص5. والفياض، محمد إسحاق، منهاج الصالحين، ج3، ص41. والشيرازي، محمد الحسيني، الفقه البيئة، ص16. وعون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج10، ص359.
13- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126.
14- السبحاني، جعفر، عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص33.
15- مكارم الأخلاق، ص197.
16- لسان العرب، ج5، ص332.
17- الهندي، علي المتقي، كنز العمال، ج15، ص855.
18- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر والقدر تقريراً لمحاضرات الإمام الخميني قدس سره، ص120.
19- عيون الحكم والمواعظ، ص228.
20- الجامع الصغير، ج1، ص503، ح3269.
21- ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج2، ص117.
22- الكافي، ج5، ص332.
23- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج20، ص22.
24- ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص357. والأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج7، ص429.
25- علل الشرائع، ج2، ص393.
26- الكليني، الكافي، ج5، ص352.
27- سورة نوح، الآيتان 26-27.
28- القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط1، 1398هـ- 1974م، ج1، ص43.
29- يراجع: لب الأثر في الجبر والقدر، ص114.
30- فلسفتنا، ص312-315.
31- أنظر: ناصف، مصطفى، الوراثة والإنسان أساسيات الوراثة البشرية والطبية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 100، ص135.
32- يراجع: فؤاد البهي السيد، الذكاء، ص 30-36. ومرسي، شفيق علاونة، سيكولوجية التطور الإنساني من الطفولة إلى الرشد، ص 190. وكمال إبراهيم، البيئة والوراثة وأثرها في الانحرافات النفسية والسلوكية، ص 223-252.
33- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج4، ص396.
34- السبحاني، جعفر، الإلهيات، ج1، ص662.