د. محمد مهدي الصدر
تُعتبر الأسرة بمثابة "نواةٍ" للمجتمع الذي نحيى فيه. إذ أنها أصغر "وحدة" اجتماعية تمارس دورها بين الوحدات الاجتماعية الأخرى.
ولئن كانت الأسرة أصغر الوحدات الاجتماعية حجماً فما هي بأصغرها معنى ولا أقلّها أهمية. فهي الأساس والقاعدة الصلبة التي تتولى النشأة الأولى للأولاد وتقوم بتربيتهم وتعليمهم وإعدادهم كيما يضطلعوا بالمسؤوليات التي تقع على عاتقهم مستقبلاً. وليست الأسرة سوى "مؤسسة إنسانية" تقوم على أكتاف شخصين هما الرجل والمرأة. وهذه المؤسسة تشبع رغبات ملحّة في ذات كل منهما، وهي: رغبة الجنس ورغبة الإدارة ورغبة التربية ورغبة الأمومة ورغبة الأبوّة. وهي تدفع كل فرد من أفرادها إلى القيام بواجباته دون إرغام، بعد أن تشبع فيهم كافة الرغبات الإنسانية، فيقوم الأبوان فيها بتدريس أصول الحياة وكيفية العشرة، لأفراد المجتمع ورجال المستقبل، وهم الأولاد. وما من نظام يستطيع أن يلغي الأسرة بشكل نهائي لأن أي نظام عاجز عن مقاومة الرغبات التي تشبعها الأسرة، وهي رغبات متأصِّلة في أعماق كل إنسان. ولهذا فإنّ الأنظمة التي ألغت الأسرة عادت فأوجدتها على شكل أوسع. فالنظام الشيوعي مثلاً ألغى الأسرة التي تتألّف من (رجل) و(امرأة) و(أولاد)، ولكنه أقام المزارع الجماعية[1] التي تتكون من (عدّة رجال) و(عدّة نساء) و(عدّة أولاد). هذه المزارع عاجزة عن حلّ مشكلاتها (على عكس الخلية الحيّة التي تقوم بإتماء نفسها وحلّ مشكلاتها بلا تدخّل أجنبي)، فكانت بحاجة إلى تدخّل الدولة لحلّ تلك المشكلات. والمزارع الجماعية ذات مفعول رجعي.. بينما نجد أنّ الأسرة ترتفع بالإنسان إلى مستواه كإنسان – ذي حياة منتظمة –. أمّا النُظم الغربية فإنها لم تُقدِم على إلغاء الأسرة عن سابق تخطيط، وإنّ ما قدّمته هذه النُظُم كبديل للأسرة لم يكن إلا الانحلال، والميوعة التي أسفرت عنها حركات الهيبيز والبيتلز والبانك.. إلخ[2]. ويعرّف علمُ الاجتماع الأسرة بأنها رابطة اجتماعية تتكون من زوج وزوجة وأطفالهما، وتشمل الجدود والأحفاد وبعض الأقارب، على أن يكونوا مشتركين في معيشا واحدة[3]. ويرى الباحث علي عبدالواحد وافي في كتابه (الأسرة والمجتمع) أنّ الزواج الذي لا تصحبه ذرية لا يكون أسرة[4]. إنّ الأسرة هي إحدى العوامل الأساسية في بيان الكيان التربوي وإيجاد عملية التطبيع الاجتماعي وتشكيل شخصية الطفل، وإكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طول حياته، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي وبناء الشخصية[5] وفي تقويم السلوك الفردي، وبعث الحياة والطمأنينة في نفس الطفل. فمنها يتعلّم اللغة ويكتسب القِيَم الحميدة. وإليها يعود الفضل في تعلّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق. الفضل في تعلّم الإنسان لأصول الاجتماع، وقواعد الآداب والأخلاق. - واجبات الأسرة ووظائفها: تضطلع الأسرة بمسؤوليات أساسية على جانب كبير من الأهمية. وإن أدنى تقصير في أداء هذه المسؤوليات ليؤدّي – ولا شك – إلى حدوث خلل اجتماعي وإنساني وإلى عواقب وخيمة تدفع ثمنه الأجيال المتعاقِبة وإلى تفشي الجريمة والإدمان على المخدرات.. ولا يحسبنّ أحدٌ أن مسألة الإنجاب أمر ذو أهمية ثانوية. فهو الوسيلة التي تحفظ النوع البشري من الانقراض وهو الذي يرفد المجتمع بالدماء الشابّة. وقد أدّى انخفاض الإنجاب في بعض البلدان الصناعية الكبرى إلى نشوء مخاوف جديّة من أن تصبح بعض هذه البلدان – في بحر عقدين أو ثلاثة من الزمن – أمّة "هرمة" تفتقر إلى عدد كافٍ من الشباب. وهو الأمر الذي يهدّد عجلة الصناعة والاقتصاد والبحث العلمي والإدارة والانتاج بالتوقف[6]. ولابدّ للعائلة من الإشراف الكامل على تربية أطفالها: "فـ:"الأسرة مسؤولة عن عملية التنشئة الاجتماعية التي يتعلّم الطفل من خلالها خبرات الثقافة وقواعدها في صورة تؤهله فيما بعد لمزيد من الاكتساب، وتُمكّنه من المشاركة التفاعلية من غيره من أعضاء المجتمع"[7]. و"إنّ حرمان الطفل من أبيه – مؤقتاً أو بصورة دائمة – يثير فيه كآبةً وقلقاً مقرونين بشعور الإثم والضغينة، ومزاجاً عاتياً متمرِّداً، وخوراً في النفس وفقداناً لحسن العطف العائلي... وقد لُوحظ (في معاهد الأطفال) أنّه إذا كانت صحة الطفل البدنية، ونموه العضلي، وضبط دوافعه الإرادية تتفتح وتزدهر بصورة متناسقة في تلك المعاهد، فإن انفصاله عن والدَيه قد يؤدي من جهة أخرى إلى ظهور بعض المعايب كصعوبة النطق، وتمكّن العادات السيئة منه، وصعوبة نموّ حسّه العاطفي"[8]. أما الواجبات الأخرى للأسرة فهي: 1- إعداد الأولاد للمشاركة في حياة المجتمع والتعرّف على قيمِهِ وعاداته. 2- إمدادهم بالوسائل التي تهيئ لهم ذواتهم داخل المجتمع. 3- توفير الاستقرار والأمن والحماية والحنو على الأطفال. ففي الدين يجد الشباب الأمان والاطمئنان والسلامة النفسية في الحاضر والمستقبل. وعلينا أن نعلم بأننا "سوف نخسر أنفسنا عندما ننكر تراثنا وشخصيتنا الإسلامية أو نبتعد عنها بدلاً من أن نحاول إثباتها"[9]. فالدين إحدى الدعامات الرئيسية التي يرتكز عليها الكيان النفسي لأي إنسان، وهذه الدعامة تقيه من الهزات التي قد تعتريه في صراعه مع ظروف الحياة المتقلّبة"[10]. وهذا فضلاً عن أنّه يمنحه قناعة ورضا بما قسم الله تعالى له من رزق وصحه. وقد أرسى الإسلام الحنيف نظام الأسرة على أسس راسخة تستجيب لمتطلبات الحياة وتتواءم مع حاجات الناس وسلوكهم. وقد شاء الله تعالى أن تقوم الزوجية – وهي أسّ الحياة العائلية ونواتها الأولى – على أساس من المودّة والرحمة. قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21). قال الراغب: يُقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج، ولكل قرينين فيها وفي غيرها: زوج، قال تعالى: (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) (القيامة/ 39)، وقال: (وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة/ 35)، وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات – إلى أن قال – وجمع الزوج أزواج. فقوله: (أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، أي خلق لأجلكم – أو لينفعكم – من جنسكم فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر، حتى إذا اتصل به سكن إليه لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره، وهذا هو الشبق المودَع في كل من هذين القرينين. وقوله: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، المودّة كأنّها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودّة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو تأثّر نفساني عن العظمة والكبرياء. والرحمة نوع تأثّرٍ نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان ورفع نقصه. ومن أجلّ موارد المودّة والرحمة المجتمع المنزلي، فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة والمحبة وهما معاً – وخاصة الزوجة – يرحمان الصغار من الأولاد في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وإيوائهم وتربيتهم، ولولا هذه الرحمة لا نقطع النسل ولم يعش النوع قط. ويحرص الإسلام كل الحرص على أن يجعل الأسرة المسلمة أنموذجاً رفيعاً ومثالاً يحتذى به بما يُمثِّله من عناصر الريادة والقيادة الصالحة في المجتمع الإنساني. قال سبحانه وتعالى في وصف عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74). ومرادهم بكون أزواجهم وذرياتهم قرّة أعين لهم، أن يسرّوهم بطاعة الله والتجنّب عن معصيته، فلا حاجة لهم في غير ذلك ولا إربة، وهم أهل حق لا يتبعون الهوى. وقوله: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، أي متسابقين إلى الخيرات سابقين إلى رحمتك فيتبعنا غيرنا من المتقين. وكأنّ المراد أن يكونوا صفاً واحداً متقدِّماً على غيرهم من المتقين ولذا جيء بالإمام بلفظ الأفراد. وهكذا نجد أن نظام الأسرة الذي شرّعه الإسلام مبني على أساس الحرص الشديد على تأمين السعادة للأسرة، وعلى تمتين أسس تماسكها وترابطها من الناحية النفسية والاجتماعية والجسدية كيما ينعم كل فرد من أفرادها بالحب والحنان والدعة والاستقرار والتفاهم والتكافل. والدولة الإسلامية مكلّفة أن تعنى أعظم العناية بإنشاء الاُسَر وحياطتها وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتعالج ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسّها، نَعَم هي مسؤولة عن ذلك مسؤوليتها عن التموين والتعليم والدفاع وما أشبه هذه الأغراض التي لا يمكن تركها للأفراد، لأنّها من صميم عمل الدولة[11]. الهوامش:
[1]- وهي على نوعين: مزارع حكومية وتدعى كولخوز ومزارع أهلية وتدعى سوفخوز. [2]- انظر كتاب السيد هادي المدرسي: كيف تسعد الحياة الزوجية، مؤسسة الوفاء، بيروت 1403، ص12-16. [3]- علم الاجتماع، محمد عاطف. [4]- ص 15-16. [5]- النظام التربوي في الإسلام، باقر شريف القرشي، دار التعارف – بيروت 1403، ص64-65. [6]- تدهور نسبة الإنجاب في فرنسا – مثلاً – إلى 1.7 طفل للعائلة الواحدة. وما تزال هذه النسبة مستمرة في الانخفاض. علماً بأن الحد الأدنى الضروري لا يقلّ عن نسبة 3 أطفال للعائلة الواحدة. [7]- علم الاجتماع، ص48. [8]- أثر الأسرة والمجتمع في الأحداث الذين هم دون الثالثة عشرة – اليونسكو، ص37. [9]- إسلام امرأة، ص8. [10]- الشاب من الطفولة إلى الزواج. إعداد محمد رفعت. مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر – بيروت، 1403، ص201.
[11]- حقوق الإنسان، محمد الغزالي، ص115-116.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 19 و20 لسنة 1991م