أسرة البلاغ
كلنا نمرُّ بحالات من النسيان العرضي، فننسى اسم أحد الجيران، أو تاريخ عيد ميلاد، أو تفاصيل يومية مثل موعد مع الطبيب، أو المكان الذي أوقفنا فيه سيارتنا، أو وضعنا فيه مفاتيحنا. هل يمكن تقوية الذاكرة وتفادي تفاقم حالات النسيان العرضية؟ يميل الكثيرون، عند تكرار حالات النسيان لديهم، إلى إلقاء اللوم على التقدم في السن، أو التوتر، أو الافتقار إلى النوم أو الإجهاد. وفي كثير من الأحيان يُبالغون في قلقهم، ويحسبون أنها علامات مُنذرة بإصابة مستقبلية بمرض "ألزهايمر" أو الخَرَف. لكن لابدّ من الإشارة هنا، إلى وجود الكثير من المفاهيم الخاطئة بشأن وظيفة الذاكرة. فعلى الرغم من أنّ الذهن يخضع لتغيرات مع التقدم في السن، لكن هذا لا يعني أن وظائف الذاكرة والتعلُّم كافة، تتراجع مع مرور السنين. كذلك، فإن بعض حالات النسيان العَرَضية، ليست بالضرورة مؤشراً إلى تراجع القُدرات الذهنية. والحقيقة، أنّ القسم الأكبر من الذاكرة لا يتأثر بالسن. فالذاكرة المتعلقة بالدلالات والألفاظ ومعرفة اللغة مثلاً، غالباً ما تحسن مع السنين، كذلك فإنّ الذاكرة العملية المتعلقة بكيفيّة القيام بالأشياء مثل ركوب الدراجة، لا تتغير أيضاً. وفي المقابل، تُعتبر الذاكرة الحديثة المتعلقة بأحداث الحياة اليومية، الأكثر تأثراً بمرور السنين. وهذا يعني عملياً تراجع قدرتنا على تذكُّر الأحداث اليومية، مثل اسم شخص قابلناه مؤخراً، أو المكان الذي تركنا فيه نظاراتنا. كذلك ربما يصبح من الأصعب علينا مع التقدم في السن، مُعالجة كمية كبيرة من المعلومات بالسهولة الماضية نفسها، أو أجراء أكثر من محادثة في الوقت نفسه. لكنها تظل مشكلة عادية منتشرة، يمكن تحسينها باتّباع بعض النصائح البسيطة الفاعلة، وأبرزها: - ممارسة الأنشطة البدنية: أوّل ما ينصح به المتخصصون لتحسين ذاكرتنا وقُدراتنا الذهنية، هو تفادي نمط الحياة الخامل، وممارسة الأنشطة البدنية بانتظام. وتؤكد أستاذة العلوم العصبية وعلم النفس في "جامعة برونيل" البريطانية، الدكتورة ليندا شوو، أنّ النشاط البدني يساعد على تزويد الدماغ بالأوكسجين ويُغذيه بإمدادات أكبر من الدم. والواقع، أنّه لا يكاد يَمرُّ أسبوع من دون أن تظهر دراسة ما في العالم، لتؤكد فوائد الرياضة والنشاط البدني للدماغ. وفي بعض الأبحاث الأخيرة، وجد العلماء في "جامعة دبلن"، أنّ الأشخاص الذين قاموا بتمارين قيادة الدراجة بشكل نشيط جدّاً لفترة قصيرة، سجّلوا على اختبارات تذكّر الوجوه، نتائج أفضل من تلك التي سجلها الذين لم يقوموا بأي نشاط بدني واكتفوا بالجلوس. إضافة إلى ذلك، تَبيَّن في فحوص الدم التي أجريت في ما بعد، أن دماء الأشخاص الذين مارسوا الرياضة، كانت تحتوي على مستويات من بروتين يساعد على تعزيز صحة الخلايا العصبية، أعلى من تلك الموجودة في دماء الخاملين. ومن جهته يقول البروفيسور ديف كولينز، مدير مؤسسة الأداء والتدريب في "جامعة لانكشاير" البريطانية، إنّ الشخص اللائق بدنياً يمتلك كمية أكبر من الوقود التي يحتاج إليها الدماغ. وفي أبحاث يابانية حديثة، نشرتها مجلة "الفيزيولوجيا"، تَبيَّن أنّ الدماغ يتمتع بطُرق متميّزة لتزويد نفسه بالوقود أثناء ممارسة الرياضة، ويمكن لذلك أن يؤثر أيضاً في قدراتنا الذهنية وذاكرتنا في الأوقات الأخرى. وكان البحاثة قد أجروا تجارب على الفئران بعد قيامها بدفعة من النشاط البدني، وبعد 4 أسابيع من الركض المنتظم بسرعة معتدلة، وجدوا أن مستويات الـ"غليكوجين" (الكربوهيدرات المخزونة)، ترتفع بشكل كبير جدّاً مباشرة بعد ممارسة النشاط البدني، وذلك بنسبة 60 في المئة تقريباً، وتظل مرتفعة لمدة 24 ساعة. وتبيَّن أنّه بعد 4 أسابيع من الركض المنتظم، يصبح هذا المستوى المرتفع من مخزون الـ"إلوكوجين" هو المستوى العادي لدى هذه الفئران واللافت والمهم، أنّ المناطق الدماغية المسؤولة عن التعلم وتشكل الذكريات، وهي اللحاء وقرن آمون، تشهد أعلى مستويات من الـ"غليكوجين". لذا استنتج البحّاثة، أنّ الدماغ عندما تكون لديه مخزونات أكبر من الطاقة، يكون أكثر تنبّهاً.. فيؤدّي وظائفه بشكل أفضل. من جهة ثانية، يؤكد البحاثة ضرورة وأهمية التزوّد بالقدر الكافي من الماء. ويقول كولينز، إنّ خسارة ما نسبته 2 في المئة من وزن الجسم، بسبب انخفاض مستويات رطوبة الجسم، يُمكن أن يؤثر سلباً في قدرة الدماغ على معالجة المعلومات، ويُضعف قدرة الذاكرة قصيرة الأمد بنسبة 20 في المئة.
- التمارين الرياضية التي تُعزز قدرات الدماغ: · في 5 دقائق: من المفيد أن نتحدّى أنفسنا ذهنياً أثناء ممارسة الرياضة. ويقول المتخصص البريطاني في اللياقة البدنية غي راسيل، إنّ الذهن والجسم يتعبان، لكن في وسعنا تحسين ذلك. وهو يُخضع الأشخاص الذين يُدربهم لتمرين يطلب منهم فيه تنفيذ عكس الأمر الذي يصدره. مثل أن يقول لهم توجهوا يميناً. ويريدهم في الحقيقة أن يتوجهوا شمالاً. وهو ينصحنا بالطلب من صديق لنا أن يقوم بذلك أثناء أدائنا التمارين الرياضية. · في 10 دقائق: ينصح المدرب الرياضي البريطاني مات ولستنهولم، بالجمع بين التمرينين البدني والذهني. فأثناء القيام بتمرين يتطلّب بذل جُهد بدني، يمكننا أثناء الحفاظ على وضعية الجسم، أن نعمل مثلاً على البحث عن أوراق لعب متشابهة، نفردها أمامنا مقلوبة على الأرض ونفتح اثنتين منها كل مَرّة، حتى نجد الورقتين المتشابهتين. والمهم هنا، هو أن نتذكر مواقع أوراق اللعب. ويقول، إنّ المواظَبة على القيام بذلك، عندما يكون جسمنا مُعرَّضاً للإجهاد البدني، تسهم في تحسين قدرتنا على التركيز. · في 30 دقيقة: لسنا مضطرين إلى التعرُّق كي نلحظ فوائد النشاط البدني على الدماغ. فالتمارين التي تخفّف التوتر مثل رياضة الـ"يوغاط، تمنحنا أيضاً نتائج إيجابية. وكان البحاثة في كلية الطب في "جامعة بوسطن" الأميركية، قد أظهروا أنّ ممارسة الـ"يوغا" لمدة نصف ساعة، تساعد على تحسين الحالة النفسية العامة، وعلى التخفيف من القلق والاكتئاب. - التمارين الذهنية: الدماغ لا يحتاج فقط إلى التمارين الرياضية البدنية كي يؤدي وظائفه بشكل جيِّد، بل يحتاج أيضاً إلى التمارين الذهنية. ويمكننا هنا، تشبيه الدماغ بعضلة تحتاج إلى التدريب والتقوية ليكون أداؤها جيِّداً. ويرى البعض، أنّ التفكير في استخدام الصور عوضاً عن الكلمات يساعدهم على التذكر، أو استخدام الحواس كلها، مثل أن نستحضر رائحة شيء إذا أردنا أن نتذكره. لذا، من المفيد أن نضع لأنفسنا اختبارات ذهنية، مثل تذكّر لائحة من الأشياء أو أخبار قرأناها في الجريدة، ونقوم بحل الكلمات المتقاطعة والـ"سودوكو" في أوقات فراغنا. ويجد الكثيرون، أن ممارسة الألعاب التي تتطلب تشغيل الذاكرة بانتظام، تساعدهم على حفظ كمية كبيرة من المعلومات. وينصح المتخصص الأميركي ريتشارد وريستاك، بتمرين يساعدنا على استعادة قدرتنا على التركيز. فيقول، إن علينا أن نركّز نظرنا على أي شيء أمامنا، مثل زهرة، أو إبريق أو منظر طبيعي، ثمّ نغلق عينينا ونحاول إعادة تركيب هذا الشيء بكل تفاصيله ذهنياً. ويُساعد تكرار هذا التمرين لمدة ربع ساعة كل يوم، على استعادة التحكّم في قدرتنا على التركيز والانتباه. - أطعمة تُحسّن أداء الدماغ: · الكبروهيدرات بطيئة الهضم: تنصح المتخصصة البريطانية في علوم التغذية هيلين بوند، بتفادي الأنظمة الغذائية الفقيرة في الكربوهيدرات. وتقول، إنّ هذه الأخيرة تُسهم في رفع مستويات الـ"سيروتونين"، الناقل العصبي الدماغي الذي يجعلنا نشعر بالارتياح والسعادة. وتُضيف، إنّ حالتنا المزاجية تتشكل بفعل الإمدادات المنتظمة من الطاقة الآتية من سكر الدم والتي تصل إلى الدماغ. لذلك، علينا أن نأكل الكربوهيدرات من النوع الكامل ذي مؤشر التحلون المنخفض، مثل الخبز والمعكرونة المحضّرة من دقيق القمح الكامل أو الحبوب الكاملة، وتفادي الكربوهيدرات المكرّرة والمصنَّعة، ذات مؤشر التحلون المرتفع مثل الخبز الأبيض. · الجبن: تبيَّن في أبحاث حديثة، أنّ الحليب ومشتقاته يمكن أن تلعبا دوراً مهماً في تحسين صحة الدماغ. ففي دراسة شملت 1000 بالغ، تبيّن أنّ أولئك الذين يتناولون الحليب، الجبن، اللبن بانتظام، يُحققون نتائج أفضل في اختبارات القُدرات الذهنية، مُقارنة بأولئك الذين لا يأكلون مشتقات الحليب إلا نادراً، أو لا يأكلونها أبداً. · الخضار والفواكه: يربط العلماء عادة بين تراجع القدرات الذهنية والأضرار التي تسبّبها الجزيئات الحرة. ومن المعروف، أن زيادة كمية ما نتناوله من مضادات الأكسدة، مثل الـ"بيتاكاروتين" وفيتاميني (E) و(C)، يُمكن أن تساعد في مكافحة هذه الجزيئات الضارة وفي الحفاظ على تَيقُّظ الذهن. وتتوافر هذه العناصر المغذية والفيتامينات في الخضار، مثل البروكولي والفلفل بألوانه كافّة، والسبانخ والبطاطا الحلوة، والحمضيات والكيوي. · الأسماك الدهنية: تُعتبر الأسماك الدهنية، أحد أهم الأطعمة المفيدة للدماغ، وذلك لغناها بأحماض "أوميغا/ 3" الدهنية. وكانت دراسة هولندية قد أظهرت، أن إمكانية تدهور القُدرات الذهنية تنخفض بنسبة 50 في المئة، لدى الأشخاص الذي يأكلون كمية وافرة من الأسماك، مُقارنةً بأولئك الذين يأكلون السمك أحياناً فقط. ويمكن لمن لا يأكل كمية من السمك، أن يُعوّض عنها بتناول قرص مُكمّل يومي من أحماض "أوميغا/ 3". · الأطعمة الغنية بالفيتامين (B): يقول البحاثة في "جامعة أوكسفورد"، إنّ الجرعات العالية من مجموعة فيتامين (B)، يُمكن أن تُسهم في التخفيف من النسيان بشكل ملحوظ. فهذا الفيتامين يُحلّل الـ"هوموسيستين"، وهي مادة يتم إنتاجها بشكل طبيعي في الجسم، والتي إذا بلغت مستويات عالية، يُمكن أن تلعب دوراً في ظاهرة فقدان الذاكرة والإصابة بمرض "ألزهايمر". ومن جهتهم، وجد البحاثة الأستراليون، أنّ الأشخاص المتقدمين في السن، الذين تناولوا أقراصاً مُكمّلة من فيتامين (B12) وحمض الفوليك، لَمَسُوا تحسّناً في الذاكرة القصيرة وبعيدة الأمد. وأبرز مصادر الفيتامين (B12) هي اللحوم، وسمك السالمون والخميرة. بينما يتوافر الفولات في البقوليات مثل الحمّص. - النوم: صحيح أنّ التعب الناتج عن الافتقار إلى النوم، يؤدي إلى تراجُع في القدرة على التركيز، وإلى انخفاض في درجة التيقُّظ والانتباه، إلا أنّ هناك سبباً آخر يدعونا إلى أخذ قسط كاف من النوم كل ليلة. فالنوم يُساعد على تحسين الذاكرة. وكان العلماء في "جامعة لييج" البلجيكية، قد اكتشفوا أنّ المعلومات التي نتعلمها خلال النهار، تتم مُعالجتها وتخزينها في الذاكرة طويلة الأمد أثناء النوم. وعندما نفتقر إلى النوم الجيِّد، فإنّ قدرتنا على تذكّر أحداث النهار تتأثر سلباً إلى حد كبير. - مكافحة التوتر: التعرض للتوتر والضغط النفسي يؤثر مباشرة في قدرتنا على التفكير بوضوح، وفي تذكر الأمور المهمة. كذلك، فإنّه يُزيد من إنتاج هُرمون الـ"كورتيزول" الذي تُفرزه الغدد الكظريّة، والذي يؤثر سلباً في الذاكرة قصيرة الأمد. وإذا كان التوتر مَرْحَليّاً، فإنّ الضرر الذي يلحق بقرن آمون، المنطقة الدماغية المسؤولة عن الذاكرة، يتم تفاديه. أما إذا استمر التوتر على مدى فترات طويلة (أشهر أو سنوات)، فإنّ الخلايا العصبية المتضررة تموت ولا تنمو من جديد، ما يؤدي إلى ضعف دائم في الذاكرة. لذلك، من الضروري العمل على تخفيف التوتر، وذلك عن طريق ممارسة الـ"يوغا" والتأمُّل وتمارين التنفُّس العميق. - الهوايات اليدوية والموسيقى: يقول العلماء، إنّ نحو ربع القشرة الدماغية المحرّكة، أي ذلك الجزء من الدماغ الذي يتحكّم في حركة الجسم، مُكرّس لليدين. لذلك فإن أية هواية، مثل الحياكة والخياطة والرسم، التي تتطلب التحكم في الأصابع، تُسهم كما يؤكد ريستاك، في الحفاظ على تيقّظ الذهن ورفع درجة نشاطه. وفي دراسة نشرتها مجلة "علم النفس العصبي" في العام 2011، تبيّن أن التدرُّب على عزف آلة موسيقية، يُسهم في تنشيط الوظائف الدماغية وتعزيز الأداء الذهني. وتقول المتخصصة الأميركية البروفيسورة بريندا بلادي، إنّ بناء الاحتياطي الذهني يُشبه بناء النسيج العظمي، فكلما أبكرنا في ذلك، زدنا فرص تمتعنا بقُدرات ذهنية جيِّدة أطول مدّة مُمكنة. لذلك، لا يجب أن نتردد في تعلُّم العزف، أو تَبنِّي هوايات يدوية مُفيدة في أيّ مرحلة من مراحل حياتنا.