سَرَت شائعة في عام 2012 مفادها: أن مراهقاً تايوانياً توفي بعد أن جلس يلهو بألعاب الفيديو لمدة 40 ساعة متتالية. قد لا يكون ممكناً التأكد من صحة هذه القصة. لكن المؤكد أنّ ساعات الجلوس الطويلة تُلحق أضراراً فعلية بالصحة.
التداعيات الخطيرة، التي يخلفها نمط الحياة الخامل في صحة الملايين، دفعت العلماء إلى إنشاء فرع جديد من الدراسات الطبية أطلق عليه اسم "فيزيولوجيا الخمول" يعنى بالكشف عن تأثيرات الكسل والجلوس الطويل في الجسم والذهن، والعمل على تلافيها ومكافحتها. وقد ذهب بعض الأطباء لإطلاق اسم "مرض الجلوس" على ما يُصيب الناس اليوم من أعراض واضطرابات بسبب طريقة عيشهم، التي يغلب عليها الكسل والجلوس الطويل وغياب الحركة البدنية. ويقول البروفيسور جايمس ليفين من "مايو كلينك": "إنّ التطور التكنولوجي، الذي شهدناه مؤخراً، زاد من خُمولنا. فقد أصبحنا نتسوق، وندفع فواتيرنا، ونقابل أصدقاءنا على شبكة الإنترنت، ما أدّى إلى تراجع كبير في النشاط البدني الأساسي الذي كنّا نقوم به في حياتنا اليومية".
والواقع، أنّ الكثيرين منّا لا ينتبهون إلى طول ساعات جلوسهم، ويندهشون عندما يحصونها. فنحن نجلس طويلاً في المكتب، الصف، المنزل، وأمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر، من دون أن ننسى الوقت الذي نقضيه جالسين في السيارة أو في وسائل النقل الأخرى. وقد تبيّن أننا كنا نجلس ما معدله 8 ساعات في اليوم في السنوات الماضية. أما اليوم، فتشير بعض الدراسات الإحصائية إلى أن نسبة كبيرة منا تجلس ما معدله 15 ساعة في اليوم. وبما أننا ننام نحو 8 ساعات ليلاً، فهذا يترك لنا ساعة واحدة فقط للوقوف والمشي والتحرك.
ويؤكد المتخصصون في الصحة العامة أنّ الجلوس المتواصل لأكثر من ساعتين متواصلتين في اليوم يؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بالكثير من الأمراض. وهم ينصحون الجميع بالوقوف والمشي بضع دقائق بعد كلّ ساعة، أو نصف ساعة من الجلوس.
أما أبرز مخاطر الجلوس الطويل، فهي:
1- التشنجات والآلام:
يُسبب الجلوس الطويل ووضعيّة الجسم غير السليمة، التي نتخذها أثناء الجلوس، ألم الرأس، أو الكتفين، أو الرقبة، من دون أن ننسى بالطبع آلام الظهر. والجلوس الطويل لا يؤدي فقط إلى تشنّج العضلات وألمها، بل يمكن أن يزيد أيضاً من خطر فقدان العمود الفقري مرونته، وحدوث فتق في واحد أو أكثر من الأقراص الموجودة بين فقراته، إضافة إلى تحدّب الظهر.
ويقول المتخصص الأميركي في اللياقة البدنية دوغلاس لينتز: "إننا عندما نجلس لساعات طويلة، فإنّ عضلات الوركين وأوتار باطن الركبة تقصر وتتشنج وتصبح مشدودة، بينما تضعف العضلات التي تدعم العمود الفقري وتتيبّس". ويضيف: "إنّه لا يستغرب ما أظهرته الدراسات الإحصائية بشأن تزايد انتشار آلام أسفل الظهر المزمن بأكثر من 3 أضعاف منذ أواخر 1990 مع بداية انتشار استخدام الإنترنت". وهو ينصح بتقصير مدة الجلوس إلى أقصى حد ممكن، والحرص على اتخاذ وضعيّة سليمة أثناء الجلوس، بحيث يكون الظهر مستقيماً، ووزن الجسم موزعاً بالتساوي على أجزائه، مع تفادي الانحناء إلى الأمام.
2- ضمور العضلات:
عندما يكون الوقت الذي نمضيه جالسين أطول من الوقت الذي نخصصه للقيام بأنشطة بدنية، فإنّ عضلاتنا ستضعف بالتأكيد. ويقول الخبراء إنّ نمط الحياة المديني يُسبب للعضلات ما يسمّى "ضُمور عدم الاستخدام". فعندما لا نستخدم عضلاتنا تفقد أليافها مرونتها، وتصبح متيبّسة، ويتقلص حجمها وقوامها، ويزداد تخزينها للدهون عوضاً عن حرقها. إضافةً إلى ذلك، فالجلوس الطويل يُدرّب عضلاتنا ويعوّدها على ما يتناسب مع وضعية الجلوس. ويؤدي ذلك إلى مشكلات في التوازن وآلام مختلفة عند الحركة. كما أنّه يُضعف العضلات التي نستخدمها في وضعية الوقوف، إضافةً إلى مجموعة عضلات البطن، الحوض والظهر.
3- ضعف العظام:
تُشير الدراسات الإحصائية إلى ارتفاع كبير في نسبة الأشخاص الذين يعانون تراجعاً في كثافة العظام وزيادة في خطر الإصابة بمرض هشاشة العظام. ويؤكد الأطباء أن أسهل وأفضل طريقة لتقوية العظام هي الوقوف. فعظامنا تحتاج بانتظام إلى أن تتحمل وزن الجسم، أو أي وزن آخر، كي تبقى قوية، وإلا فإنّها ستفقد كثافتها وتضعف وتصبح عرضة للانكسار.
وتساعد ممارسة المشي يومياً على الوقاية من مرض هشاشة العظام. كذلك فإن تمارين رفع الأوزان ومقاومة وزن الجسم تُعرّضان العظام لضغوط تحول دون هشاشتها وضعفها، كما أنّهما تقوّيان العضلات وتحافظان على مرونتها.
4- تباطؤ الأيض:
يقول البروفيسور مارك هاملتون من "جامعة ميسوري" الأميركية: "إنّ الجلوس ولو لفترة قصيرة يدفع الجسم إلى خفض وإبطاء نشاط عملية الأيض التي يتم فيها تحويل الطعام إلى طاقة وتنظيم العمليات البيولوجية المختلفة". فخلال ساعة واحدة من الجلوس يتراجع نشاط الأيض بشكل ملحوظ، وإذا لم يترافق تكرار هذا الجلوس مع تخفيف تناول الوحدات الحرارية، ومع زيادة التمارين الرياضية، فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى زيادة في الوزن. وتجدر الإشارة إلى أن جسم شخص وزنه 70 كليوغراماً يحرق خلال نصف ساعة من الجلوس أمام شاشة التلفزيون نحو 30 وحدة حرارية، أي ثلث ما يمكن أن يحرقه لو كان يمشي خلال هذه المدة.
وأظهرت الدراسات أيضاً، أننا عندما نجلس يقوم الجسم بإبطاء عملية إنتاج أنزيم اللِّيباز، الذي يحرق الدهون بنسبة 90%. والأسوأ من ذلك، هو أنّ الجلوس الطويل يؤدي إلى خسارة الجسم نسبة من الكوليسترول الجيد الذي يضبط مستويات الكوليسترول الضار ويخفضها، ما يزيد من خطر الإصابة بمرض القلب والأوعية الدموية.
5- زيادة خطر الإصابة بالسكري والسرطان:
كلما طالت فترة جلوسنا، تراجعت نسبة السكر التي يستخدمها الجسم لتأمين الطاقة التي يحتاج إليها للقيام بالأنشطة البدنية. ويربط العلماء بين الخمول وعدم استخدام العضلات وبين تراجع حساسية الجسم للأنسولين الذي يفرزه البنكرياس، ما يزيد من خطر الإصابة بأمراض مزمنة، مثل المتلازمة الأيضية المرتبطة بحالة ما قبل السكري، وسكري الفئة الثانية بنحو 7%. وقد وجد البحاثة أنّ الجلوس الطويل يؤثر في النساء أكثر من الرجال في ما يتعلق باستجابة الجسم للأنسولين.
وكانت دراسة أميركية قد أظهرت أنّه مع كلّ ساعتين متواصلتين نقضيهما جلوساً، فإن إمكانية الإصابة بالسكري ترتفع بنسبة 7%.
من جهة ثانية، فإنّ ارتفاع مستويات الأنسولين في الدم، إضافةً إلى ارتفاع مستويات مؤشرات الالتهابات المزمنة المختلفة في الجسم الخامل، يرتبطان بازدياد خطر الإصابة ببعض أشكال السرطان، مثل سرطان الثدي والقولون بنحو 10%. فالأنسولين الزائد يحفز نمو الخلايا السرطانية. كذلك يعتقد الخبراء أن ساعات الجلوس الطويلة تخفّف من إنتاج مضادات الأكسدة، السلاح الطبيعي الذي يستخدمه الجسم لوقاية نفسه من الجزئيات الحرة، التي تُلحق الأضرار بالخلايا وتزيد من خطر الإصابة بالسرطان.
6- زيادة إمكانية الإصابة بمرض القلب:
تَبيّن أن إمكانية مُعاناة أعراض مرض القلب والأوعية الدموية، مثل الخناق أو صعوبة التنفس، وإمكانية الإصابة بنوبات قلبية تزداد بنسبة 125% لدى الأشخاص الذين يمضون أكثر من 4 ساعات متتالية جالسين بشكل خامل أمام شاشة التلفزيون أو الكمبيوتر، مقارنةً بالآخرين الذين يمضون ساعتين فقط جالسين.
والجلوس الطويل يُغيّر بشكل سلبي الطريقة التي يتعامل بها الجسم مع الدهون في الدم. فهو يخفف من إنتاج الكوليسترول الجيِّد، الذي ينظّف الدم من الكوليسترول الضار الذي يتراكم على جدران الشرايين، ويسبب تصلبها وانسدادها. ويؤدي تراجع مستويات الكوليسترول الجيد إلى ارتفاع مستويات الدهون الضارة والـ"تريغليسيريدز" وتراكمها في الدم، ما يزيد من خطر الإصابة بمرض القلب والأوعية الدموية. كذلك فإنّ الجلوس الطويل يؤدي إلى كبح نشاط الأنزيمات المسؤولة عن تفكيك الـ"تريغليسيريدز" تمهيداً لحرقها واستخدامها مصدراً للطاقة.
7- خمول الدورة الدموية:
عندما نجلس لمدة ساعة متواصلة تزداد ظاهرة احتباس الماء في الجسم، فتتجمّع السوائل في أنسجة الأطراف السفلية ويتراجع نشاط الدورة الدموية، ما يزيد من إمكانية الإصابة بالدوالي، أو يفاقم أعراضها إذا كانت موجودة، كما يزيد من إمكانية الإصابة بالجلطات الدموية، خاصة في أوردة الساقين. وضعف الدورة الدموية لا يؤثر سلباً فقط في الأطراف السفلية، بل يلحق الضرر ببقية أعضاء الجسم، كما أنّه قد يسبب لنا الدوخة، الخدر، والضبابية الذهنية.
8- انقطاع التنفس أثناء النوم:
يُعاني الملايين في العالم انقطاع التنفس أثناء النوم. وتزداد إمكانية الإصابة بهذا الاضطراب لدى الرجال من أصحاب الوزن الزائد الذين تخطوا الأربعين. ويُسهم الجلوس الطويل في تفاقم الحالة بسبب ضعف الدورة الدموية واحتباس السوائل. فخلال النهار تتجمع السوائل في الأطراف السفلية أثناء الجلوس الطويل بمساعدة الجاذبية. وعندما نستلقي ليلاً للنوم، تتمكن هذه السوائل من التحرك بحرّية في أنحاء الجسم، وتصل إلى الرقبة ومجاري التنفس العلوية وتضيّقها، ما يسبب انقطاع التنفس أثناء النوم.
9- تعكّر المزاج:
عندما لا يتحرك الجسم بشكل فاعل ينشط الدورة الدموية، تتراجع كمية الدم، والهرمونات المهمة والمواد الكيميائية الطبيعية تصل إلى الدماغ، ما يؤدي إلى الخمول الذهني وتعكر المزاج.
وفي عام 2011 قام المركز الأميركي للتحكم في الأمراض، بدراسة تَبيّن فيها أنّ الموظفين الذين كانوا يتمكنون من الوقوف أثناء العمل، كانوا أفضل مزاجاً وأكثر ثقة بالنفس من أولئك الذين كانوا يجلسون طوال النهار. كذلك قال 87% من الموظفين، الذين كانوا يقفون ويتحركون أثناء دوام العمل، إنّهم يشعرون بقدر أكبر من الطاقة. وقال 71% منهم إنّ الحركة تجعلهم أكثر قدرةً على التركيز. كذلك، فإنّ الشكاوى المتعلقة بالتعب والاكتئاب والتوتر كانت أقل في صفوف الموظفين الذين يتمكنون من الوقوف والحركة أثناء الدوام.
10- الإعاقة البدنية:
مع التقدم في السن يصبح الجلوس أمراً أكثر خطورة. فقد تبيّن أنّ الأشخاص الذين تَعدّوا الستين يقضون ما مُعدّله 9 ساعات في اليوم جالسين من دون حراك. وكانت دراسة أميركية أجريت على هذه الفئة من الناس، قد أظهرت أنّه مع كلّ ساعة إضافية من الجلوس، تزداد إمكانية معاناة هؤلاء المتقدمين في السن من إعاقة في القيام بأنشطة الحياة اليومية بنحو 50%. وإعاقة الأنشطة اليومية تعني فقدان القدرة على إنجاز أمور نقوم بها عادةً من دون تفكير أو حساب، مثل ارتداء ملابسنا بأنفسنا، الاستحمام، المشي. وتبين في الدراسة، أن ازدياد إمكانية الإصابة بهذه الإعاقة وارد، حتى لو كان هؤلاء الأشخاص يقومون بنشاط بدني إلى جانب كلّ ساعات الجلوس الطويلة المذكورة.
من جهة ثانية تبيّن أنّه، حتى الأشخاص الذين يمارسون الرياضة، ليسوا مُحصَّنين ضد التأثيرات السلبية للجلوس الطويل. وتُعلّق المتخصصة الأسترالية البروفيسورة جينفييف هيلي، فتقول إنّ نمط حياتنا خامل جدّاً، لدرجة أن نصف ساعة نمضيها يومياً في النادي الرياضي، لن تكون كافية لإبطال التأثير السلبي للجلوس لمدة 9 أو 10 ساعات. وكانت دراسة أشرفت عليها هيلي، أظهرت أنّه مهما كانت مدة وقوة التمارين الرياضية التي كان المشاركون يقومون بها، فإن أولئك الذين كانوا يقطعون فترات جلوسهم اليومية خلال النهار في الوقوف والمشي والحركة، كانوا يتمتعون بوزن ومُحيط خصر أفضل، وكانت ومستويات الدهون والسكر في دمائهم أقل من أولئك الذين كانوا يجلسون لساعات طويلة من دون حِراك، حتى ولو قاموا بالتمارين الرياضية نفسها.