وجه قائد الثورة الاسلامية سماحة آية الله الإمام السید علي الخامنئي، نداءاً إلى حجاج بيت الله الحرام لعام1440 ه استعرض فيه ما يجب أن تنهل منه الأمة الإسلامية من حكم وتعاليم الحج وما تواجهه من تحديات لاسيما على صعيد الغاء القضية الفلسطينية وكيفية التعاطي معها مشددا على ان صفقة القرن محكوم عليها بالفشل بفضل عزم وايمان جبهة المقاومة.
وفيما يلي النص الکامل لهذا النداء الهام:
بسم اللّه الرّحمن الرّحیم
والحمدللّه ربّ العالمین وصلّی اللّه علی رسوله الکریم الأمین، محمّد خاتم النّبیّین، وعلی آله المطهّرین سیّما بقیّة اللّه في الارضین، وعلی اصحابه المنتجبین ومن تبعهم باحسان إلی یوم الدّین.
إن موسم الحج في کل عام، میعاد الرحمة الإلهية علی أمتنا الإسلامیة. فإن الدعوة القرآنیة «وأذّن في الناس بالحج»(1) هي دعوة للناس کافة علی مرّ التأریخ إلی مائدة الرحمة هذه، لیتمتعوا من برکاتها بقلوبهم وأرواحهم التواقة إلی الرب تعالی کما برؤاهم وأفکارهم المتعقلة، ولتبلغ في کل عام دروس الحج وتعاليمه بواسطة جموع من الناس إلی کل أرجاء العالم الإسلامي.
إن إکسیر الذکر والعبودیة الذي یشکل العنصر الرئیس في تربیة الفرد والمجتمع وإعلاء شأنهما، یأتي في الحج إلی جانب عنصر الاجتماع والاتحاد الذي یمثل رمز الأمة الواحدة، مقترناً بالالتفاف حول مرکز واحد وباتجاه هدف مشترك ـ ما یمثل رمز حرکة الأمة ومسعاها علی رکیزة مبدأ التوحید ـ وذلك إلی جانب المساواة بین آحاد الحجیج دون أي تمایز بینهم ـ ما یدل علی إزالة أنواع التمییز وتعمیم الفرص ـ کل ذلك يعرض مجموعة من الرکائز الأساسية للمجتمع الإسلامي معروضة في لقطات سريعة. وکل عمل من أعمال الحج ـ من إحرام وطواف وسعي ووقوف ورمي وحرکة وسکون ـ یمثل إشارة رمزیة إلی جزء من هیکل الصورة التي قدمها الإسلام عن مجتمعه المثالي المنشود.
کما أن تبادل المعلومات والمعطیات بین الشعوب التي تنتمي إلی دول ومناطق متباعدة جغرافیاً، ونشر الوعي والتجارب والاطلاع علی ظروف بعضهم البعض وأحوالهم، وإزالة حالات سوء الفهم، وتقریب القلوب، واختزان القدرات المتاحة لمواجهة الأعداء المشترکین، کله یشکل إنجازاً حیویاً هائلاً جداً تحققه فریضة الحج، الأمر الذي لا یمکن تحقیقه عبر مئات من المؤتمرات المعتادة الرائجة.
إن إحدی البرکات العظیمة للحج والتي توفر فرصة مؤاتیة للشعوب المسلمة المظلومة، هي مراسم البراءة التي تعني التبري من کل ما یتصف به طواغیت کل عصر من قساوة وظلم وجور وبشاعة وفساد، کما تعني الوقوف بوجه ما یمارسه مستکبرو العصور من قهر وابتزاز. إن البراءة من جبهة الشرك والکفر التي یمثلها المستکبرون وعلی رأسهم أمریکا؛ تعني الیوم البراءة من قتل المظلومین ومن تأجیج الحروب، کما تعني إدانة بؤر الإرهاب من قبیل داعش وبلاك ووتر الأمریکیة؛ تعني صرخة الأمة الإسلامیة بوجه الکیان الصهیوني قاتل الأطفال ومن یقفون وراءه ویدعمونه، تعني إدانة ما تقوم به أمریکا وأعوانها من تأجیج حروب في منطقة غرب آسیا وشمال أفریقیا الحساسة، حروب أوصلت الشعوب إلی أقصی حدود معاناتها ومحنتها وأخذت تكبدّها کل یوم بمصائب کبری؛ تعني البراءة من التمييز العنصري علی أساس الجغرافیا والعرق ولون البشرة؛ تعني البراءة من السلوك الاستکباري الخبیث الذي تنتهجه القوی المعتدیة والمثیرة للفتن إزاء السلوك الشریف النبیل العادل الذي یدعو إلیه الإسلام کل الناس.
هذا غیض من فیض برکات الحج الإبراهیمي الذي دعانا إلیه الإسلام الأصیل. وهو رمز متجسد لجزء مهمّ من تطلعات المجتمع الإسلامي، حیث یجري عرض سنوي عظیم مفعم بالمضامين من إخراج الحج، ویشارك فیه أبناء الأمة الإسلامیة لیدعوَ الجمیع ـ بلغة معبرة ـ إلی بذل الجهد لتحقیق مجتمع کهذا.
إن نخب العالم الإسلامي ـ الذین توافد بعضهم حالیا من مختلف البلدان لأداء مناسك الحج ـ یتحملون رسالة کبیرة وخطیرة. وبفضل همم هؤلاء ومبادراتهم الفاعلة ينبغي أن تُنْقَل هذه الدروس إلی جميع الشعوب وإلى الرأي العام، لتتحقق علی أیدیهم عملیة التبادل المعنوي للأفکار والدوافع والتجارب والمعلومات.
تُعَدُّ قضية فلسطين اليوم من أهم قضایا العالم الإسلامي وهي تأتي في مقدمة کل القضایا السیاسیة المتعلقة بالمسلمین من أي مذهب أو عرق أو لغة کانوا. فقد وقع في فلسطین أکبر ظلم شهدته القرون الأخیرة. حیث صودِر في هذا الحدث المؤلم کل ما یملکه شعب، بما فیه أرضه وداره ومزرعته وأمواله وحرمته وهویته. وبتوفیق من الله تعالی لم یرضخ هذا الشعب للهزیمة ولم ینثنِ عن الجهد، فهو متواجد الیوم في الساحة باندفاع وشجاعة أکثر مما کان علیه بالأمس. إلا أن تحقیق النتیجة بحاجة إلی دعم کل المسلمین. إن الخدعة المتمثلة في "صفقة القرن"، والتي یجري التمهید لها من قبل أمریکا الظالمة وأعوانها الخونة، تشکل جریمة لیس بحق الشعب الفلسطیني فحسب وإنما بحق المجتمع البشري قاطبة. إننا ندعو الجمیع إلی مشارکة فعالة لإفشال هذا الكيد والمكر المدبَّر من قبل العدو، ونری بحول الله وقوته أن هذه المؤامرة وغیرها من أحابیل جبهة الاستکبار کلها مکتوب علیها الفشل والهزیمة أمام عزیمة جبهة المقاومة وإيمانها.
قال الله العزیز: «أم یریدون کیداً فالذین کفروا هم المکیدون»(2). صدق الله العلي العظیم. أسأل الباري تعالی لجمیع الحجیج الکرام التوفیق والرحمة والعافیة وقبول الطاعة.
السيد علي الخامنئي
3 ذي الحجة 1440