حقيقة المبعث في فكر الإمام الخامنئي (6)

قيم هذا المقال
(0 صوت)

حقيقة المبعث ورسالته في فكر الإمام الخامنئي (6)

من كلمة الإمام الخامنئي بمناسبة عيد المبعث النبوي السعيد 13/11/1370ش (2/2/1992م) ظروف الفترة الجاهلية وخصائصها: بعثة النبي الأكرم كانت بداية طريق جديد للإنسانية. العالم الذي أحاط بتلك الرسالة والبيئة التي ظهرت فيها تلك الرسالة، كان عالماً سيئاً جداً لا يمكن أن يطاق.. عالم الميول للماديات.. عالم الطباع الحيوانية.. عالم انفلات الأقوياء والجبابرة والمتغطرسين.. عالم التمييز والفساد والظلم والشهوات الجامحة. لم يكن هذا الواقع مقتصراً على منطقة الحجاز.

فالدولتان الكبريان المحيطتان بالجزيرة العربية _ إيران الساسانية والامبراطورية الرومانية _ كانتا تعانيان من مثل هذه المشكلات. الجاهلية التي أثقلت كاهل الحياة الإنسانية عند ظهور الإسلام كانت جاهلية شاملة. كانت هناك فتن مضنية للإنسان في كافة المناطق المحيطة بشبه الجزيرة العربية. كانت هناك علوم، وكانت هناك حضارة بمستوى ذلك العصر، وكان ثمة نظام تتمتع به الحكومات الملكية، وكانت لها تشريفاتها وانضباطها الناجم عن الاقتدار المطلق في تلك البلدان. لكن الشيء الذي لم يكن موجوداً هو نور الإنسانية والفضيلة، وهو بالضبط ذلك الشيء الذي تحتاجه الإنسانية مسيس الحاجة.. إنه مناخ الفضيلة الإنسانية والرحمة والمروّة والعدالة. ما كان يفتقر إليه الناس يومذاك هو العدالة، هو أن لا ينسحق الضعيف تحت أقدام القوي، هو أن لا تتجمع خيرات الأرض لتحتكر من قبل عدد محدود من الأقوياء ويحرم الآخرون منها.

هذه كانت المحن الكبرى للبشرية حتى في ظل الحكم الساساني وحكم الامبراطورية الرومانية، لكن لكل حالة شكلها الخاص. وقد كان للحياة البدوية في الحجاز آنذاك شكلها الخاص. البعثة الإسلامية ظهرت وبزغت مقابل كل هذه السلبيات. لم تكن البعثة خاصةً بتلك البيئة، إنما هي للبشر كافة ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ (ص:87). إستطاع النبي الوقوف مقابل ذلك الواقع المرير وتعييره. إستطاع النبي إحداث صدوع عميقة في جدران الإجحاف والإرباك الإنسانية، واستطاع هدم بعضها وإعداد بعضها الآخر للهدم. كان الرسول يواجه أصعب الظروف وأعتاها.

حينما يتسلّح القبح والفساد بالقوة والسيف والإرادة والسياسة فسيغدو خطراً عظيماً على الإنسانية. البشرية في القرن الحادي والعشرين رغم كل ادعاءاتها ونتيجة بعض نقاط الضعف التي بدرت منها، تتجه اليوم صوب أن تكون هناك قوة أو منظومة من القوى المنفلتة تعتمد القوة والحديد وما لديها من السلاح لتخلق لنفسها حقاً. وهي لا تعترف بأي حق. هذا هو الواقع الذي ساد يومذاك عند انطلاق البعثة. وقف النبي.. لم يقل: هذا هو الواقع، وما الذي يمكن فعله إزاء هذا الواقع؟ البعض يبررون ضعفهم وخور همهم بهذه الطريقة.. إنه واقع فما نفعل له؟ ليس هذا هو الواقع الذي ينبغي الاستسلام حياله.

الواقع الطبيعي، والواقع الذي لا حلَّ له، والواقع الذي لا يُفرض على الإنسان، هو الذي ينبغي على الإنسان التكيّف معه. أما الواقع الذي يفرضه البعض على البعض بقوة الحراب فينبغي هدمه. ليس من المنطق أن نقول إن قوة الاستكبار اليوم واقع فما نفعل حياله. إنه واقع مفروض. الشخصيات الكبرى والأديان الإلهية وأصحاب الأفكار الكبرى يقفون بوجه هذا الواقع ويجابهونه ليغيّروه وسوف يتغيّر.

هذه كانت حقيقة البعثة. يوم دوّت هذه الرسالة في أجواء مكة »قولوا لا إله إلا الله تفلحوا« لم يكن الشخص المنصف ليجرأ يومها أن يحتمل انتصار هذه الفكرة في يوم من الأيام لأنها لم تحظ حينها بأية أرضية مساعدة أساساً.. كل تلك الأصنام المعلقة بكل عظمة على جدران الكعبة، ودعامة الأصنام، والعصبيات الجاهلية الراسخة؛ أشراف مكة والعوائل المقتدرة المتنفّذة التي سوف تغيّر »لا إله إلا الله« وضعهم برمّته؛ ومن ورائهم الحكومة الساسانية المقتدرة والإمبرطورية الرومانية. فهل كان يجرأ أحد للوهلة الأولى على قبول أن هذه الرسالة ممكنة الطرح والمتابعة؟! الشخصيات الضعيفة تتراجع وتنسحب منذ تلك اللحظة. لكن الواجب والرسالة والبعثة تقدمت بالرسول إلى الأمام. البعثة تعني الإحياء، وقد جاءت هذه البعثة وغيّرت المناخ في ظرف أكثر من عشرين سنة في بيئة الحجاز أولاً، ثم في كل العالم المتحضّر يومذاك. لم يكن قد مضى على ظهور الإسلام وأصل البعثة نصف قرن وإذا بأكثر من نصف العالم المتحضّر يقع تحت تأثير الإسلام. لا تتصوروا أن حكومات من قبيل الإمبرطوريات الكبرى لم تكن تتمتع بالعلم والعقل والتشكيلات والقوات العسكرية والادعاءات والغرور والغطرسة. بلى؛ لكن الإيمان الصريح والناصع والمستند للمنطق القوي حين يستقر في قلوب الناس ذوي الهمم والإخلاص والتضحية فسوف ترتفع كل هذه العقبات.

وكذا الحال اليوم أيضاً. الإيمان الإسلامي إيمان يعتمد المنطق والاستدلال وينطوي على خير البشرية وسعادتها... مدرسة الإسلام هي مدرسة حماية البشرية والقيم الإنسانية؛ مدرسة إشاعة الرحمة والمروءة، مدرسة نشر الإخوة بين الناس؛ مدرسة هذا هو معيارها في الحقوق الاجتماعية: »لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع« (بحار الأنوار، ج74، ص259). يجب أن يأخذ الشخص المفتقر للمال والقوة حقه من القوي ذي المال والقوة بدون أية مشاكل، هذه هي رسالة الإسلام. هذا هو المجتمع الإسلامي السليم. هذه هي الرسالة التي تجتذب الشعوب اليوم. أي مكان في العالم اليوم يُدار بهذه الطريقة؟ أية ديمقراطية، أم أية ليبرالية، أم أية حقوق إنسان مزعومة تستطيع اليوم إطلاق مثل هذا الشيء ومتابعته؟ ما يجري حالياً هو الضد من هذا.لا يزال للإسلام اليوم ذات الرسالة الحية والنافذة والمرتكزة إلى المنطق القوي. لقد أثبت الإسلام قدرته في إيران الإسلامية وفي مختلف تجارب هذه المنطقة.

قراءة 2572 مرة