إفشاء السرّ

قيم هذا المقال
(0 صوت)
إفشاء السرّ

قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيل1.

تنتقد هذه الآية أناساً كانوا يفشون ويذيعون ما يسمعونه من أخبار السلم والحرب من دون الرجوع إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البصائر والدراية ممن يعتمد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك للأثر السلبي الذي ينتج عن إفشاء هذه المعلومات والضرر اللاحق بالمسلمين من خلال ذلك.
من هذه الآية أنطلق للحديث عن آفَّة من الآفات التي لها انعكاسات خطرة على الناس أو ما عُبِّر عنه في بعض الأحاديث بــ "الإذاعة".
معنى إفشاء السرّ
إنّ الإفشاء والإذاعة يأتيان بالمعنى المقابل للكتمان، ويدوران حول السرّ الذي لا يرضى صاحبه بكشفه وإظهاره، سواء كان قولاً أو فعلاً أو حالةً.
الإفشاء بين السلب والإيجاب
دعا الإسلام في خطوطه العريضة إلى إفشاء الخير والصلاح والسلام، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "أفشوا السلام، وأطيبوا الكلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام"2.
كما نهى في خطوطه العريضة عن إفشاء أسرار الناس وإذاعتها، فعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: "إيّاك والإذاعة وطلب الرئاسة، فإنّهما يدعوان إلى الهلكة"3.
أسباب إذاعة السرّ
إنّ دوافع الإنسان لإذاعة أسرار الآخرين عديدة، فقد تكون للانتقام منه لما يُسبِّبه إفشاء سرّه من تعريضه للإهانة له والتنكيل به وما شابه، وقد تكون بسبب عقدة نقص لدى المذيع، فيريد من إذاعة الأسرار إعلام الآخرين بأنّ لديه معلومات ومعرفة وإطلاع أكثر من غيره، وقد يكون بسبب جهله وعدم إدراكه بالمفاسد المترتِّبة على ذلك الإفشاء، وقد يكون بدواعٍ أخرى تنطلق من عدم كمال العقل أو نقصان في الإيمان، ولعلّه لذلك أكّدت الأحاديث على أنّ الكتمان من صفات أهل العقل والإيمان.
الكتمان صفة العاقل المؤمن
أشارت الأحاديث الشريفة إلى إنّ من المواصفات الأساسية للإنسان العاقل فضلاً عن المؤمن هو أن يكون حافظاً للسرّ، فعن الإمام علي عليه السلام: "صدر العاقل صندوق سرِّه"4.
لذا ورد أنّه قيل لأحد العقلاء: كيف حِفْظُك للسرِّ؟ فأجاب: أنا قبره. ومن لطيف ما قيل: صدور الأبرار قبور الأسرار5.
وقد أشار الإمام علي عليه السلام إلى ارتباط صفة الكتمان بسعادة الإنسان، فعنه عليه السلام: "الكتمان طرف من السعادة"6.
وفي نفس الإطار أشار في حديث آخر إلى علاقة الكتمان بنجاح الإنسان في حياته، فعنه عليه السلام: "أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان"7.
وفي السياق ذاته ورد أنّه عليه السلام قال: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار"8.
ولأهميّة صفة كتمان السرّ ربط الإمام الرضا عليه السلام بينها وبين الإيمان، فعنه عليه السلام: "لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه، وسنّة من نبيّه، وسنّة من وليّه، فالسُّنّة من ربّه كتمان سرِّه..."9.
أنواع الكتمان المطلوب
1- كتمان سرّ نفسه
دعت الأحاديث الشريفة الإنسانَ أن يكون حافظاً لسرِّه في موردين:
الأول: حينما يتعلّق نجاح عمله بالكتمان، وهذا له مصاديق كثيرة في أعمال الإنسان التي قد لا تحقّق أهدافه بسبب تدخّلات الناس الذين يعلمون بالأمر، لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: "أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان"10.
وسبب ذلك أنَّ علم الآخرين بسرِّ عمله يُكثر من المؤثّرين به، وبالتالي لا يعود مسلَّطًا على تحقيق النجاح، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من كتم سرّه كانت الخيرة بيده"11.
الثاني: حينما يكون إفشاؤه لسرِّ نفسه يؤثِّر سلبيًّا على كرامته وسمعته ونظرة الآخرين إليه، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله عزّ وجلّ فوّض للمؤمن أموره كلّها، ولم يفوِّض إليه أن يذلّ نفسه..."12.
من هنا ينبغي على المؤمنين عدم التحدُّث عن ماضيهم السيِّء، حتى ولو أرادوا أن يبيّنوا بذلك أنّهم قد اهتدوا إلى الإيمان بعد الضلال.
إضافةً إلى أنّ حفظ الإنسان لسرِّ نفسه يعزِّز فيه منقبة كتمان السرِّ بالنسبة للآخرين ففي الحديث: "من ضعف عن سرِّه لم يقوَ لسرِّ غيره"13.
قال الشاعر:
إذا المرء أفشى سرّه بلسانه***ولامه عليه غيره فهو أحمقُ
إذا ضاق صدر المرء عن سرِّ نفسه***فصدر الذي استودعه السرّ أضيق
2- كتمان الأسرار العائلية
كثيراً من الأحيان يصدر من الإنسان في محيط عائلته الخاصّ تصرّفات وأقوال لا يفعلها خارج العائلة، ولا يرضى بمعرفة الآخرين عنها، كما أنه قد يُدلي ويُفضي بأمور خاصّة تعدّ من الأسرار العائليّة، وهذا ما يجب الالتفات إليه من جميع أفراد الأسرة.
وقد حذَّرت الأحاديث الشريفة من هذا الأمر، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي، إليه ثم ينشر أحدهما سرَّ صاحبه"14.
ولا بدّ من التأكيد عن هذا الأمر حين حصول خصومة بين الزوج والزوجة، أو طلاق، فمن القبيح والمعيب على الإنسان حينما يخرج من حالة الوئام مع الآخر، وتحصل خصومة بينهما أو طلاق أن يتناوله بفضح عيوبه وأسراره. قال الشاعر:
وترى الكريم إذا تصرَّم وصله*** يُخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضّى وصله*** يخفي الجميل ويظهر البهتانا15
3- كتمان أسرار الآخرين
عن الإمام الصادق عليه السلام: "المجالس بالأمانة، وليس لأحدٍ أن يحدِّث بحديث يكتمه صاحبه إلاّ بإذنه، إلا أن يكون ثقة أو ذكرًا له بخير"16.
فعلى الطبيب أن لا يفشي سرَّ مرض من يُعانيه، وعلى العامل في المختبر أن لا يُعلم الآخرين عن نتائج فحوصات من خضع لها، وعلى الموظّف في المصرف (البنك) أن لا يعلن كم يملك المودِع من مال، وعلى المحقِّق والقاضي أن يحتفظ بأسرار من يحقِّق معه أو يقاضيه، وعلى العالِم أن يكتم ما أسرَّ إليه المؤمنون الواثقون به، وهكذا.
4- كتمان الأسرار الخطيرة
من أهمّ الموارد التي تشدَّدت فيها الشريعة في ضرورة الكتمان وحرمة الإفشاء هي الأمور ذات الطابع الخطير كالأسرار الأمنيّة والعكسريّة، والتي قد تؤدّي معرفة العدوّ بها إلى الإضرار بالمؤمنين والتنكيل بهم وإضعاف شوكتهم، وفي هذا الإطار ورد عن الإمام الصادق عليه السلام تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ17، هو: "والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها، فأُخذوا عليها فقتلوا، فصار قتلاً واعتداءً ومعصيةً"18.
وحول خطورة الإفشاء عن المعلومات الأمنيّة التي تسبِّب خطراً على مسيرة أهل الإيمان وردت أحاديث عديدة عن الإمام الصادق عليه السلام الذي كانت السلطات في عصره تبحث عن معلومات أمنيّة عن الإمام عليه السلام وأنصاره، ليكون لها ذريعة في التنكيل بهم، ومن هذه الأحاديث:
- "كتمان سرّنا جهاد في سبيل الله"19.
- "من أذاع علينا حديثنا، فهو بمنزلة من جحدنا حقّنا"20.
- "من استفتح نهاره بإذاعة سرّنا سلّط الله عليه حرّ الحديد، وضيق المحابس"21.
- "والله، إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا"22.
فمن الواضح أنّ المراد من إذاعة حديثهم هو إذاعة المعلومات الأمنيّة التي تضرّ بهم وشيعتهم، ولا يُراد منها الأسرار المعرفيّة الباطنيّة كما قد يُتوهَّم، فهم عليهم السلام لم يكونوا باطنيين، ولم تكن أحاديثهم باطنيّة، بل معارفهم واضحة منشورة وضوح الشمس في رابعة النهار.
وأخيرًا
إنّ خطورة إفشاء السرّ تزداد في عصرنا في ظلّ تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ، ممّا يدعو للتنبّه والحذر الشديدين تجنّبًا لعواقب قد لا تكون محسوبة، ولتبقَ وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاضرة قبل اي قول أو خطوة: "إذا أنت هممت بأمرٍ فتدبَّر عاقبته"23.

* لا تقربوا، سماحة الشيخ أكرم بركات، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- سورة النساء، الآية ٨٣.
2-
الكلينيّ، محمّد، الكافي، ج٢، ص ٦٤٥.
3-
المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج٥٠، ص ٢٩٧.
4-
ابن أبي طالب، الإمام علي، نهج البلاغة، ج٤، ص ٤.
5-
الطهراني، علي، مقتنيات الدرر، (لا،ط)، طهران، محمد الآخوندي، ١٣٣٧هـ.ش، ج٣، ص ١٤٤.
6-
المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج٧٥، ص ٦٣.
7-
الواسطي، علي، عيون الحكم والمواعظ، ص ١٢٣.
8-
المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج ٧١، ص ١٧٨.
9-
الصدوق، محمد، الخصال، ص ٨٢.
10-
الواسطي، علي، عيون الحكم والمواعظ، ص ١٢٣.
11-
الصدوق، محمد، الأمالي، ص ٣٨٠.
12-
الكليني، محمد، الكافي، ج٥، ص ٦٣.
13-
الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، ج٢، ص ١٢٨٢.
14-
الشعراني، عبد الوهاب، العهود المحمدية، ط٢، مصر، مصطفى البابي، ١٣٩٣هـ، ص ٧٦١. العجلوني، اسماعيل، كشف الخفاء، ط٣، بيروت، دار الكتب العلمية، ١٤٠٨هـ، ج٢، ص ١٩٨.
15-
الفيض الكاشاني، محمد، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، ط٢، قم، مهر، (لا،ت)، ج٣، ص ٣٢٩.
16-
الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٦٦٠.
17-
سورة آل عمران، الآية ٢١.
18-
الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٣٧١.
19-
المجلسيّ، محمد باقر، بحار الأنوار، ج٧٢، ص ٧٠.
20-
الكليني، محمد، الكافي، ج٢، ص ٣٧٠.
21-
المصدر السابق، ص ٣٧٢.
22-
المصدر السابق، ص ٢٢٣.
23-
الكليني، محمد، الكافي، ج٨، ص ١٥٠.

قراءة 2958 مرة