الأمور مهمة جداً وأحببت أن أركّز عليها:
الأمر الأول ـ وهو أمر إذا حصل خطأ بالفهم؛ يعني بالمفهوم لدينا نقع في إشكالية كبيرة جداً. وهو أنَّ الدعاء ليس بديل العمل. لننتبه جيدا لأن البعض من الناس ربما يدخلون الناس بشكل خاطئ في هذا الاتجاه. الدعاء ليس بديل العمل وإنما هو مكمّل للعمل.
الدعاء قبل العمل. قبل ما تعمل العمل الذي تتجه للقيام به. بعد لحظات أتكلم بالتفاصيل: تطلب من الله أثناء العمل، تطلب من الله بعد العمل، تطلب من الله التوفيق. الدعاء يواكب العمل: قبله ومعه وبعده، ولكنه ليس بديلا من العمل.
مثلاً، موضوع طلب الرزق. الله سبحانه وتعالى ما قال إقبعوا في البيوت ودعوني حتى أرزقكم. لا يوجد نبي جاء بهذا الكلام؛ أبداً. هذا غريبٌ عن أنبياء الله عز وجل وعن رسالات الله عز وجل. بل دائماً: إطلب، إسعى، اعمل، إكدح؛ والكادح من أجل عياله كالمجاهد في سبيل الله عز وجل. لذلك نجد أن كل أنبياء الله عز وجل باشروا العمل بأيديهم: منهم من عمل بالزراعة، ومنهم من عمل بالتجارة. ومنهم من كان نجارا، ومنهم من كان راعيا يرعى الغنم. هكذا هي المهن التي كانت متوفرة في تلك الأزمنة. أحد الأنبياء كان يصنع سيوف ويصنع دروع مثل داوود (عليه السلام).
النبي داوود كان ملكا وكان يصنع دروعا من الحديد. في كل الأحوال، ليس هناك شي إسمه: إجلس في البيت وأدعو الله. أو أجلس في المسجد وأغلق الباب على نفسك: تصوم وتصلي وتقرأ القرآن ثم تدعو الله فينزل عليك الرزق في "السلة" من السماء.
هذا غريبٌ عن الإسلام وعن الأديان الإلهية. بل نحن مأمورين بطلب الرزق؛ بالسعي، بالعمل: بالزراعة، بالتجارة، بالصناعة، بالكد، بأي شيء يدرّ على الإنسان رزقاً من أجل نفسه ومن أجل عياله. وأيضاً نحن مأمورون بإدارة مالنا بطريقة موضوعية وعلمية وواقعية يعني، ما نسميه اليوم " الاقتصاد" يعني، حرمة الإسراف حرمة التبذير. ليس مسموحا لصاحب المال أن ينفق ماله في ليلة واحدة ثم يجلس ويطلب من الله أن يرزقه.
لذلك ورد في بعض الأحاديث الشريفة من المفيد أن اقرأ الحديث التالي، لان هاهنا أمر مهم يشير إلى حالة من الحالات؛ ممن لا يستجاب لهم: رجل جالسٌ في بيته يقول يا رب ارزقني، فيقول الله له:" ألم آمرك بالطلب ". ألم أقل لك إسعى واعمل كي أرزقك. الدعاء فقط لا يكفي. ورجلٌ كان له مالٌ فأفسده فيقول يا رب ارزقني فيقول له الله: ألم آمرك بالاقتصاد. فطلب الرزق يتطلب من الإنسان أن يعمل ثم يدعو الله أن يرزقه. كذلك الأمر في حالة من يكون مريضا. لا يجوز لك أصلا أن لا تعرض مرضك على الطبيب أو إذا أوصاك الطبيب بحمية ما أن تخالف وصيته أو تمتنع عن تناول الدواء الذي وصفه لك. أنا أتكلم هنا بالحلال والحرام: إذا قال لك الطبيب في شهر رمضان الصوم يضر بصحتك فلا يجوز لك أن تصوم. في بعض حالات المرض لا يجوز أن تصوم نهائيا. لا بد للمريض أن يراجع الطبيب. مع الطبيب ومع الدواء يصح الدعاء. الدعاء مكمّل للعمل. طلب العلم مثل عندما صدرت نتائج امتحانات "البروفيه" أهل الشباب الناجحين ملئوا الدنيا بالرصاص وبالمفرقعات. واقعاً كان أمرا محزنا ومزعجا جداً جداً جد هذه بين هلالين. حسنا؛ قبل امتحان البروفيه يقول لك: أدعو لنا الله أن يجعل النجاح من نصيب ولدنا. لا مانع من الدعاء من أجله، ولكن إذا هو لم يدرس ماذا ينفعه الدعاء. لا بد من أن تدرس. إذا طلبت العلم فلا بد أن تذاكر، ومن ثم ندعو. الله سبحانه وتعال ينوّر لك قلبك، ينشط حافظتك،يساعدك أن لا تنسى. لكن عليك أن تقوم بالخطوات الأولى. لا يصح أن يجلس أحدهم في المسجد ويقول: اللهم ارزقني علماً، واجعلني من العلماء ومن الفقهاء ومن العرفاء؛ مكتفيا بالدعاء فقط.
مثل آخر؛ النصر. أرضنا محتلة ها هم العرب لا يزالون يدعون على إسرائيل منذ أكثر من 65 سنة؛ خير إن شاء الله. هذا إذا دعوا ! في هذه الأيام لا أحد يدعو على إسرائيل. صار دعاؤهم في اتجاه الآخر حسنا؛ أرضك محتلة وعدوك يهددك ويريد أن ينهب مياهك والخيرات التي أعطاك إياها الله، ونفطك وغازك. إذاً، أنت ماذا فعلت: اللهم ادفع عنا هذا العدو؟ اللهم انصرنا على هذا العدو؟ اللهم أعد لنا أرضنا؟ اللهم أعد لنا أسرانا؟ حسنا؛ هناك تهديد قادم لاجتياح المنطقة، كلاَّ. اللهم ادفع عنا هذا التهديد. هذا لا يستجاب، لأن الله أمرك بالإعداد والله أمرك بالجهاد والله أمرك بالدفاع والله أمرك بالتضحية والله أمرك بالحضور في الميادين. تعد العدة وتجاهد وتدافع وتحضر في الميادين وتضحّي، فينزّل الله النصر عليك.
كذلك في حوائج الآخرة: يا رب أدخلنا الجنة، أعتق رقابنا من النار وأنت ترتكب المعاصي. هذا لا ينفع: لا تصلي، لا تصوم، لا تحج، لا تدفع زكاة أموالك؛ لا تقوم بالأعمال التي تدخلك الجنة بل بالعكس، تقوم بالأعمال التي تدخلك النار ثم تدعو الله وتقول يا رب أدخلني الجنة واعتق رقبتي من النار. هذا الدعاء لا ينفع.
فإذاً، لا في شأنٍ من شؤون الدنيا الدعاء يغني عن العمل ولا في شأنٍ من شؤون الآخرة الدعاء يغني عن العمل.
العمل مطلوبٌ على كل حال والدعاء متممٌ ومكمّل. بل ورد في بعض الأحاديث تعبير شعبي ولكن يقرب الفكرة "كالملح في الطعام". هل يوجد وجبة طعام فقط من الملح؟ هل إذا استضفت أحدا إلى الطعام تقدم له صحن ملح ؟ لا أحد يأكل ملح فقط. ولكن إذا قدمت له طعاما غير مملح فإنه سيطلب منك " رشة ملح". بالمثل يجب أن نعمل كي نرفعه بالدعاء؛ ندعمه بالدعاء.
فإذاً، النقطة الأولى بهذا العنوان هو أهمية العمل.
النقطة الثانية، أن لا ندعو الله سبحانه وتعالى فيما يكرهه. المعاصي مثلا. هذا الآن موجود حتى على ألسنة الناس العاديين. تسمع أحدهم يقول للآخر: لا بأس لو مزحنا؛ غدا نريد أن نسرق " مصرفا"؛ لو تدعو الله الليلة عسى الله أن يوفقنا. أو يقول لك مثلاً: إذا أردنا أن نسرق "مصرفا" فهل يجوز أن ندعو الله للتوفيق ؟ أو: نريد أن نقتل فلان بغير حق فادعو لنا الله أن يوفقنا فنقضي علية بضربة واحدة. ومثل ذلك من يريد أن يفتن بين الرجل وزوجته، وهكذا. هذا لا يجوز. التقرب إلى الله والتوجه إليه لا يكون بما هو مبغوض إليه أو مكروه لديه. ثالثا: لا تدعو بما لا يكون أو يخالف الحكمة الإلهية أو السنن الطبيعية إذا قلت: الله سبحانه وتعالى يطلب من عباده أن يدعوه: " أدعوني استجب لكم "فربما أحدهم يقول لك: أنا دعوته بالأمر الفلاني فما استجاب لي. ماذا دعوته؟ يا رب بحق ليلة القدر التي تقضي فيها وتقدّر اجعل السماوات السبعة ثمانية ؟! هذا تضييع وقت.
النظام الكوني قام على سبع سماوات. الله خلق سبع سماوات؛ هذه هي حكمته. أو مثلاً: يا رب أقم الساعة الآن. الآن أقمم القيامة على البشرية. الحكاية على مزاجك أنت ؟!. أو مثلاً: يا رب ابعثني نبياً فأنا عبدك الذي يحبك ويطيعك؛ ابعثني نبياً في هذا الزمن. الله بمشيئته ختم النبوة، وأنت تطلب منه أن يتخذك نبيا ؟ّ!
طبعاً. في هذا الزمن هناك ناس من يدعي لنفسه النبوة، وهناك من يدعي الإمامة ! على كلٍ؛ أن لا يدعو بما لا يكون أو بما يخالف الحكمة الإلهية والسنن الكونية. البند الرابع مهم جداً أيضاً، وهو عدم الاستعجال: أنه ليس بمجرد أن طلبنا من الله يعني أن الاستجابة ستقع غدا أو بعد غد. وهذا لا يتنافى مع الإلحاح بالطلب. الإلحاح شيء وعدم الاستعجال شيء آخر. الإلحاح مطلوب. الله سبحانه وتعالى يحب أن يسمع صوت عبدهُ؛ يحب أنَّ يلح عبده عليه في الطلب. ولكن عدم الاستعجال، بمعنى أن لا أشعر باليأس أو أمتنع عن الدعاء مجددا،إذا لم يحصل غدا ما طلبت. لأنَّ عدم الاستجابة قد يكون لها ظروف ومعطيات مختلفة: من أهمها أن الله سبحانه وتعالى كريم وجواد، لكن هو أيضاً لطيف رحيمٌ بعباده وخبيرٌ بعباده، يعرف ما يصلحهم؛ ما يصلح لهم في الدنيا وما يَصلح لهم ليكونوا من أهل الآخرة.
مثلاً، أنا قد أطلب مالا، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه لو أعطاني هذا المال لفسدت وفسدت عائلتي ولأنفقت هذا المال في المعاصي وليس في عمل الخيرات فيحجب عني هذا المال، لأنه يريد صلاحي في الدنيا وفي الآخرة. الله سبحانه وتعالى قد أطلب منه الرئاسة فيحجب عني هذه الرئاسة لإنه يعرف أن قلبي ضعيف وإذا صرت رئيسا سأغتر بالدنيا؛ بجاهها وزخارفها. وقد أظلم وأطغى وأكون من أهل جهنم. لذ ورأفةً بي الله سبحانه وتعالى لا يعطيني الرئاسة.
الله سبحانه وتعالى يعرف ما يَصلُح لعبده؛ لدنياه ولآخرته. قد أكون الآن مريضا فأطلب من الله شفاء. الله يعلم أن مصلحتي خلال السنتين أو الثلاثة، في أن أبقى مريضا. وأنني لو عوفيت سأقوم بأعمال سيئة: أقتل فأدخل السجن، وفي ألآخرة سيكون مصيري إلى جهنم. الله يعلم، فلذلك يجب أن لا أعجل على الله، والله لا يعجل لعجلة العباد. وإنما أطلب من الله سبحانه وتعالى ما هو حلالٌ، ما هو مطلوبٌ وما هو مرغوبٌ وألحّ بالطلب وأسلّم لله عز وجل؛ أسلّم له وهو الذي يختار ما فيه صلاحي في الزمان والمكان المناسب.
* سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله