لو سألت عن السبب الحقيقي وراء كون عرفات مظهراً وتجلياً كاملاً للرحمة الالهية، لأجبتك وبكل صراحة: بأنني عاجز عن فلسفة ذلك، ولا يسعني سوى القول بأنّ الله سبحانه وتعالى، الذي جعل الشمس محوراً ومركزاً لمنظومتنا الشمسية ولهذا النور العظيم، هو الذي جعل رحمته العظمى هنا في عرفات، وفي لحظات معينة من السنة برمّتها.
ومن تجليات الرحمة الالهية أن ربّ العزة يخاطب عبيده التائبين من دون واسطة: عبدي؛ " قد غفر لك، وطهُرت من الدنس فاستقبل واستأنف العمل". وهو نفسه الذي يأمر الملائكة بالترحيب بوفده. هذه الرحمة التي لو عرف الانسان قيمة أبعادها، لتأكّد له بأن لو أعطي كل شيء لكان بذاك حريّاً.
فما أحلى هذه العشية، وما أروع الاجتماع تحت ظل الرحمة الالهية.
خلاصة العمر:
العمر كلّه فرصة كما هو معلوم، وخلاصة العمر كله تتجسد في لحظات عرفات القصيرة. فعرفات يقف خلقها التقدير الالهي للإنسان، والتقدير هذا لا يكون إلاّ بعد أن يقرر الانسان مصيره. اذاً فالتقدير الالهي ما هو إلا انعكاس لقرار الإنسان، وما أروع أن يكون القرار قراراً تتجلى فيه صور التوبة والعودة الى خط الاسلام الصحيح، لاسيّما وأن الحاج في عرفات يجهل مدى استمرار العمر به، حيث لا يدري كم سوف يعيش، وهل سيكون من نصيبه أن يحجّ في السنة القابلة. فما أحراه أن يغلق على نفسه كتاب الذنوب والعصيان، ويفتح في مقابل ذلك كتاب اليمين والاحسان والاستغفار.
فلحظات عرفات هي لحظات الدعاء والمسألة الى الله سبحانه وتعالى، ففي خلالها يكون كلام العبد مسموعـاً من قبل الرب العظيم، وذلك بعد أن يثبت العبد حسن نيّته وصفاء سريرته وسلامة قلبه.
وحينما نوفق ان نكون ضيوفاً على الرحمن في عرفات، فلنتأكد بأن اللـه هو الارحم وهو الاكرم، وفي مقابل ذلك لنختزل في أذهاننا اسوداد وجوهنا وفراغ ايدينا، وأننا لم نأت بعمل صالح، واننا لا نفتخر بمجيتنا الى هنا أو بأداء مناسكنا، وانما المسألة اننا دعينا من قبل الرب العظيم ووفقنا الى التلبية والحضور، والله السميع العليم الذي يشهد على وقوفنا في هذا الوادي المقدس أهل للمنّ، وأهل لأن ينظر إلينا نظرة واحدة تحول حالنا الى أحسن الحال. فالله هو القائل لعباده: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾(غافر/60). وهو القائل أيضاً: ﴿ وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة/186)
وقد روي ان.. أحد الاعراب سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: يا رسول الله اقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟. فالله قريب الى عباده. ولقد جاء في المأثور من الدعاء: "يا من يسمع أنين الواهنين" بمعنى أن الخالق العظيم ذا الكبرياء والجبروت أقرب الى ذلك الإنسان الواهن الذي يغفل عنه الجميع. فالله هو الأقرب الى الانسان من حبل الوريد، وهو صاحب الضيافة الكبرى على مر العمر والتاريخ.
فلندعو الله تبارك وتعالى بالأدعية الصالحة والمناسبة لمقام الحج - وعرفات على وجه الخصوص- لاسيّما دعاء عرفة للامام الحسين سيد الشهداء عليه السلام، ولتتذكر وقوفه وباقي أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه الارض ودموعهم تجري تضرعاً الى الله تعالى. نستذكر تلكم اللحظات متأكدين بأنهم يؤمنون على دعوات شيعتهم، وهذا بحق هو النعمة الكبرى والفوز العظيم.
ولادة جديدة:
ثمة امور وتوجهات ينبغي أن نوليها الأهمية الكبيرة، لننتهي الى النتيجة المطلوبة من اداء مناسك الحج وبالذات الوقوف في عرفات؛ ومنها:
أولاً: أن نؤصّل ونرسخ الاعتقاد بأنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل هذا اليوم وهذه الساعات المحور الزمني لحركة الانسان في المستقبل القريب والبعيد، والى ذلك يشير حديث الامام الصادق عليه السلام الذي قال فيـه: " أعظــم النــاس ذنبـاً من طـاف بهذا البيت ووقف هذا الموقف - عرفات- ثم ظنّ أنّ الله لـم يغفر له ". أوَ ترى - يا أخي الحاج والطائف بالبيت والواقف في عرفات - أن اليأس من روح الله عنوان الكفر به؟ فلا ينبغي لأحد منّا أن يكون في قلبه شيء من الشكّ برحمة الله وغفرانه وتوبته على عباده ، ولو جزء من المليون، فالوقوف في عرفات إنما هو ولادة جديدة للانسان في تقدير الاله الجبار، ولاشك في ذلك بمثابة الاعتراض على إرادة الله جل جلاله.
ثانياً: أن نتوجه الى محتويات ومفاهيم الأدعية التي نقرؤها في هذه الايام توجهاً واعياً يتناسب ومستوى المضامين التي تحتوي عليها، ويتناسب مع ما هو مطلوب من طموح وهدف، وهو الرحمة والغفران الذي ينتهي بالمرء الى تحقق ولادته الجديدة.
ثالثاً: أن نفكر ونطمح الى إحراز الباقيات الصالحات، وأعظمها الذرية الصالحة. فأن ينشئ الانسان مدرسة أو مسجداً أو مطبّاً أو معملاً يوقفه لخدمة المسلمين، فذاك أمر عظيم. ولكن الأعظم منه أن يربي الوالد والوالدة أطفالهما وفق النهج الديني، ويحضوهم ضد الوساوس الشيطانية والانحراف الفكرية والعملية.. فما هذه البرامج الفاسدة والمفسدة والتربية غير الاخلاقية التي تبثعبر أجهزة التلفاز والقنوات القضائية.. ليس إلاّ ذئاب تحاصر براعمنا وشبابنا من كل صوب وجهة. واذا لم تتمّ برمجة التربية بشكل واعٍ وعلمي تفوق ما يقابلها من برامج الانحراف، فان الجيل الجديد سيظل تحت مطرقة الشيطان حتى آخر رمق لديه.
ولقد سعدت الى حدّ التعجب.. حينما رأيت في هذا الموسم مجاميع الشباب والاشبال وهم يؤدون مناسك الحجّ بكل براءة ونزاهة ووعي. وحينما سألتهم فيما سيحجّون في السنة المقبلة، فأعربوا عن رغبتهم الأكيدة في الوفود الى بيت الله الحرام. ولعل تعميق هذه الروح المؤمنة لدى جيلنا الجديد هو ما يجسد بحقٍّ الحصن الحصين ضد الانحراف والتيه في صحاري الجاهلية القاحلة.
ولكن حينما تقع الفرقة بين الوالدين وبين أولادهم سيكون المجتمع برمته في معرض الانحلال، وسيدفع الجميع الثمن غالياً. وهذا ما يدعونا الى التعامل مع هذه القضية تعاملاً واعياً.
ولقد أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلقين شابٍ من الانصار كان يحتضر، فأحصر الشاب ولم يسعه التفوه بالشهادتين، حتـى سأل الرسول الأكرم أصحابه عما إذا كان لهذا الشاب أمّاً أو أباً، فلما جاءت والدته، سألها: أأنتِ راضية عن ولدك؟ فقالت: لا يا رسول الله، مؤكدة أنها لن ترضى عنه أبداً رغم عجزه المطلق عن أداء الشهادتين، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلاّ أن أمر بجمع الحطب واضرام النار، فتعجبت لذلك المرأة متسائلة عما سيلحق ذلك، فقال النبي: اريد حرق الشابّ فقالت المرأة: وكيف تحرقه وهو ابني؟ فأجاب الرسول الاكرم: أحرقه لأنك غير راضية عنه... فأعلنت الام رضاها عن ابنها، وعند ذلك قال لها الرسول الاكرم - موصياً جميع الأباء والامهات على مرّ العصور وفي مختلف الظروف-: يا أمة الله: إنّ نار الآخرة أشدّ من نار الدنيا، ثم انطلق لسان الشاب المحتضر باعلان الشهادتين، ثم مات مغفوراً له.
ايها الاخوة والاخوات في الله؛ نحن وإياكم محكومون بالموت والفناء، ولكن الذي يبقى لنا ونبقى له هو ما نبذله من جهود في إطار بث الوعي وتكريس الأخلاق الحميدة على صعيد الحركة الاجتماعية والتاريخية. وما أروع أن تكون هذه الجهود منصبة في اطار توعيه الجيل القادم، الذي ينبغي أن يكون الحامل للواء الصلاح والمعروف والنهضة.
ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن والدة الشيخ مرتضى الأنصاري حينما أخبرت بتصدي ولدها لأمور المرجعية العليا، لم تظهر أي تعجب لذلك. وحينما سألت عن عدم تعجبها، قالت: أنـني ما أرضعت ابني إلاّ
وكنت على طهارة...
فيا أيتها الاخت المؤمنة ؛ ليكن تفكيرك منصباً على أنك ستقدمين جيلاً الى المجتمع، وليكن كل اهتمامك مختصاً بتعلم اصول التربية الصحيحة المقامة على الاسس الاخلاقية الواعية، دون ما نرى من بعض الأمهات اللاتي تقتصر حياتهن على تهيئة الطعام وما أشبه ذلك من الأعمال التي لا تسدّ الى جانباً صغيراً من شؤون الأطفال والعائلة. ففي ذلك إهانة كبرى توجهها الأم لنفسها من حيث تعلم أو لا تعلم، فضلاً عن الخطر الكبير الذي يحيق بالاولاد إذا ما اقتصرت الأم على ذلك.
ولقد نرى أو نسمع عن أمهات تشاغل أولادها الصغار بعرض أفلام الصور المتحركة أو أشرطة الأغاني والموسيقى، فيما هي تنجز طهي الطعام.. وهذا هو عين الموبقة، لانه يقود الاولاد الى طريق الانحراف عبر مشاهدة الكثير من المفاسد التي تحويها الافلام الاجنبية.
نحن هنا في عرفات يجب أن نرسم صورة واضحة وطريقاً مستقيماً لحياتنا في الدنيا والآخرة، والى ذلك يقول رب العزة: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (البقرة/197). واعداد الجيل وفق الاصول القرآنية لهو عين التقوى، وتبرئة الذمة، وأداء الواجب السماوي.
رابعاً: أن نلحّ على الله تعالى في دعواتنا على ما ألحّ عليه الامام الحسين عليه السلام ، وهو عتق رقابنا من النار. ولنقــرأ الدعاء الذي ورد استحباب قراءتـه في المشعر الحرام وهو: " ربّنا آتنـا في الدنيا حسنة - الرغبة في الحياة الطيبة من جميع الجهات - وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
ويصف الامام عليه السلام العتق من النار بقوله الشريف: "حاجتي التي إن أعطيتنيها لم يضرّني إن منعت غيرها، وإن منعتنيها لا ينفعني ما أعطيتني غيرها... أن تعتق رقبتي من النار".
فهذه آيات الله تبارك وتعالى تحيط بنا من كل جانب، ومن ينساها أو يتناساها سوف يتعرض الى إعراض الله عنه نسيانه له. وهذه عرفات المقدسة امامنا لنتخذها موقع تذكر لآيات الله، وهذه السماء مفتّحة الأبواب، وهذه ملائكة الله تبشر المؤمنين الصادقين بالتوبة والرحمة والغفران.
فلا تفوتنا لحظة التغيير هذه، فانها فرصة قد لا تعود ابـداً1.
فرصة التغيير
نشرت في
معرفة و أخلاق