لما كان أهل البيت (عليهم السلام) ، يمثّلون الفطرة السليمة في أنقى حالاتها ، و الفضيلة في أجلى معانيه ، وقد اجتمعت فيهم الكمالات البشرية المختلفة ، و أحاطتهم العناية الإلهية في جميع أحوالهم و شؤونهم ، و تقرّر أن الإنسان بطبعه عاشق للكمال و الفضيلة ، فمن الطبيعي جدّاً أن تهفو القلوب نحوهم ، و تميل النفوس إليهم ، من دون سائر البشر.
وقد ورد في الروايات أن ذلك دعوة إبراهيم (عليه السلام)، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم) ، (1)، أنّ المراد هم أهل البيت (عليهم السلام) قال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك دعوة إبراهيم (عليه السلام) ، (2). وقال الإمام الباقر (عليه السلام): فنحن والله دعوة إبراهيم (عليه السلام) التي من هوانا قلبه قبلت حجّته، وإلا فلا ، (3).
نعم قد تتلوّث بعض النفوس ويتكدّر صفاؤها نتيجة لعوامل متعدّدة فتضلّ الطريق ، ولكن تبقى في أعماقها ميّالة إليهم راغبة فيهم ، وإن كانت في ظاهر الأمر ضدّهم، وهذا ما قد كشف عنه الفرزدق الشاعر المشهور ، حين لقيه الحسين (عليه السلام) و هو في طريقه إلى كربلاء، وسأله عن الناس خلفه، فقال له: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك ، (4).
و أما أولئك الذين انحرفت ذواتهم وخبثت أصولهم فهم في طريق آخر، و لذلك وردت عدة روايات تؤكد هذه الحقيقة، منها : ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : من فارق عليّاً فقد فارقني، ومن فارقني فقد فارق الله عزّ وجلّ ، (5). وقال (صلّى الله عليه وآله): يا علي لو لولاك لما عرف المؤمنون بعدي ، (6). وقال (صلّى الله عليه وآله) يخاطب علياً: ما سلكت طريقاً ولا فجاً إلا سلك الشيطان غير طريقك وفجّك ، (7).
وجاء في التفسير عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: إنّ أبانا إبراهيم (صلوات الله عليه) كان فيما اشترط على ربّه أن قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ، (8). أما إنه لم يعن الناس كلّهم، أنتم أولئك ونظراؤكم، وإنّما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو مثل الشعرة السوداء في الثور الأبيض، (9). و غيرها من الشواهد الكثيرة. وقد تقدّم في الحديث المروي عن السيدة فاطمة (عليها السلام) أن حبّ علي (عليه السلام) عنوان طيب الولادة.
والحقيقة الثابتة أن أهل البيت (عليهم السلام) حيث جمعوا الفضائل و المناقب والكمالات كانت لهم السيادة على النفوس. و المحبة في القلوب ، و احتلّوا موقع الصدارة بين الناس من دون فرق بين رجالهم و نسائهم، فكان رجالهم خير الرجال، و نساؤهم خير النساء، وعلى هذا فلا شك أن تكون للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) منزلتها الخاصّة، ومكانتها العالية، ولذا كان لها عند الله شأن من الشأن فضلاً عن شانها عن الناس.
وقد كان لها (عليها السلام) بأخيها الإمام الرضا (عليه السلام) صلة خاصّة قلّ نظيرها كما كشفت عنها الروايات والأحداث وسيأتي منها ما يدلّ على ذلك.
وإنّ من أهمّ أسباب بلوغها هذا المقام الشامخ علمها ومعرفتها بمقام الإمامة والإمام، وقد كان إمام زمانها شقيقها الإمام الرضا (عليه السلام) الذي تولّى تربيتها فعلى يديه نشأت، وعنه أخذت، وتحت إشرافه ونظره ترعرعت، وبأخلاقه وآدابه سمعت وتكاملت.
ولذا تميّزت الصّلة بينهما بحيث أصبحت تعرّف نفسها بأنّها أخت الرضا (عليه السلام) كما سيأتي.و هما وإن كانا ينحدران من أب واحد وأمّ واحدة وذلك أحد أسباب شدّة الصّلة بينهما إلا أن السّبب الأقوى والأتم هو علمها بمقام أخيها وإمامته، إذ أن الرّابطة النسبية تصبح ـ حينئذ ـ عاملاً ثانويّاً بالقياس إلى العلم والمعرفة.هذا، وقد نوّه الأئمة (عليهم السلام) بمكانتها ومنزلتها قبل ولادتها، وبعد أن ولدت وتوفيت.
روي عن عدّة من أهل الرّي أنّهم دخلوا على أبي عبد الله (عليه السلام)، وقالوا: نحن من أهل الرّي، فقال (عليه السلام): مرحباً بإخواننا من أهل قم، فقالوا: نحن من أهل الري، فأعاد الكلام، قالوا ذلك مراراً وأجابهم بمثل ما أجاب به أولاً، فقال (عليه السلام): إن لله حرماً وهو مكّة، وإن لرسول الله حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة.
قال الراوي: وكان هذا الكلام منه (عليه السلام) قبل أن يولد الكاظم ، (10).
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): ألا إن لله حرماً وهو مكّة ألا أن لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا إنّ لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إنّ حرمي وحرم ولدي بعدي قم، إلا إنّ قم الكوفة الصغيرة، ألا إن للجنة ثمانية أبواب، ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنّة بأجمعهم ، (11) .
وفي رواية أن الإمام الرضا (عليه السلام) قال لسعد الأشعري القمي: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت له: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى (عليه السلام)، قال: نعم، من زاره عارفاً بحقّها فله الجنّة ، (12) .
وروى الصدوق في العيون بسنده عن سعد بن سعد قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن زيارة فاطمة بنت موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فقال: من زاره فله الجنّة ، (13) .
وغيرها من الروايات حتى قال المحدث القمي: والروايات بهذا المضمون كثيرة ،(14) .
وسيأتي الحديث عن زيارتها، وإنّما ذكرنا هذه الروايات في المقام لبيان ما لها من منزلة عند الأئمة (عليهم السلام) حيث أشاد ثلاثة من المعصومين (عليهم السلام) بذلك.
------------------------------------------------------
الهوامش
1 - سورة إبراهيم: 37.
2 - تفسير نور الثقلين: ج2، ص551.
3 - الروضة من الكافي، الحديث 485، ص311-312.
4 - الإرشاد: ج2، ص67.
5 - بحار الأنوار: ج40، ص26.
6 - بحار الأنوار: ج40، ص26.
7 - بحار الأنوار: ج40، ص27.
8 - سورة إبراهيم: 37.
9 - تفسير نور الثقلين: ج2، ص551.
10 - تاريخ قم (فارسي)، ص215، وبحار الأنوار: ج60، ص216-217.
11 - بحار الأنوار: ج60، ص228.
12 - بحار الأنوار: ج102، ص265.
13 - عيون أخبار الرضا: ج2، ص367.
14 - منتهى الآمال: ج2، ص380.