كيف نوحّد الله في السّلوك؟

قيم هذا المقال
(2 صوت)
كيف نوحّد الله في السّلوك؟

إنّ مصطلح التوحيد جاءت صياغته على وزن "تفعيل" الذي يؤشر إلى إرادة تحصيل النتيجة من الفعل، فالتكثير يراد منه تحصيل الكثرة، والتفكير يراد منه تحصيل الفكر وهكذا، فإنّ التوحيد يراد منه تحقيق وحدانية الله تعالى.

والأساس في توحيد الله هو توحيده الاعتقادي، إلا أنّ هناك تجلّيات عملية ومسلكية لهذا الاعتقاد، لا سيّما ما يتجلّى من التوحيد في الربوبيّة والألوهيّة، فإنّ الاعتقاد بأنْ لا ربّ، ولا معبود إلا الله تعالى ينبغي أو يجب أن ينتج عنه آثارٌ تحقّق التوحيد العملي، وإلاّ فإنّ الإنسان سوف يقع في شرك عمليّ، وهو شرك لا يترتّب عليه أحكام الشرك والخروج عن الدين في الدنيا، إلا أنّه شرك أخلاقيّ معنويّ على مستوى التوجّه والمسلك أشار إليه الله تعالى بقوله: "وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ"1.

ومن هذه التجلّيات التي ينبغي أو يجب أن يؤكّدها التوحيد الاعتقادي ما يأتي:

1- التوحيد في الطاعة
إنّ الاعتقاد بالتوحيد في الربوبيّة بمعنى أن لا مدبِّر، وراعي، ومدير، ولا مشرّع، ومقنّن إلا الله ينبغي أن يتجلّى بحصر الطاعة في الله تعالى.

وإنّ الاعتقاد بأنّ الإنسان كلّه متوقف بقاؤه ووجوده على الله تعالى بحيث لا يستقلّ بشيء في عالم التكوين تدفعه في عالم اختياره أن لا يستقلّ عن الله عز وجل بأيّ شيء في عمله، بل تكون كلّ حركة أو سكنة خاضعة للربوبيّة التشريعية، بحيث يتأكّد الإنسان من مطابقتها لإرادة الله تعالى.

فإذا قام الإنسان بعمل دون إخضاعه لإرادة الله عز وجل، بل سلك به لغلبة شهوته أو غضبه أو ما شاكل ذلك، فإنّه في الحقيقة يكون على المستوى العملي عابداً لغير الله تعالى. لذا قال تعالى: " أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ "2.

ولتحقيق التوحيد العمليّ في طاعة الله تعالى يجب توخّي الدّقة في عدم اللجوء في أيّة قضية تحتاج إلى تشريع وحكم قضائي وولاية على الأمور لغير المخوَّل شرعاً بذلك، وإلاّ فإنّه يتورّط بنوع من الشرك العملي غير العقائدي في الربوبيّة التشريعيّة، وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) حينما سئل عن رجلين من أصحابه بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاء أيحلّ ذلك؟ فأجابه (عليه السلام): "من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له، فإنّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ)3. سئل (عليه السلام): فكيف يصنعان؟ قال (عليه السلام): "ينظران [إلى] من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه، فإنّما استخفّ بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله"4.

إنّ تعبير الإمام (عليه السلام) بأنَّ ذلك هو على حدّ الشرك بالله يرجع في خلفيّته إلى الشرك العمليّ لا الاعتقادي بربوبيّة الله التشريعية التي يتحقق التوحيد العمليّ فيها عبر الالتزام بأحكام الله تعالى، وإطاعة رسوله وأولي الأمر الذين تمثّل إطاعتهم تطبيقاً عملياً لطاعة الله عز وجل.

والناس بين التاريخ والحاضر كان أكثرهم بين إفراط وتفريط، فمنهم من التجأ في الأحكام والقضاء لغير الله تعالى، فوقع في الشرك العمليّ، ومنهم وبالتحديد في معركة صفين وقضية الخوارج من أضلّه شعار "لا حكم إلا لله"5، فرفض حكم وليّ الله المتمثّل بأمير المؤمنين (عليه السلام) عليّ بن أبي طالب الذي علّق على ذلك الشعار بأنّه "كلمة حق يراد بها باطل"6.

وبالتالي فإنّ هؤلاء أسقطوا - عملياً- الله تعالى عن مرتبة الربوبيّة في الحكم، ليحكّموا بعدها الرجال مقدّمين حكمهم على حكم الله عزّ وجل، فوقعوا في الشرك العملي أيضاً.

2- التوحيد في الاستعانة
إنّ من يعتقد بأنّ الله هو وحده الفاعل الربُّ، فإنّ ذلك يدفعه نحو حصر الاستعانة به؛ لأنّ كون الله تعالى هو فاعل كلّ شيء، ومدبّر أمر كلّ شيء، فإنّ العون الذي يسعى إليه من غيره هو خروج اختياريّ عن التدبير الإلهي، ووقوع في مصيدة الشرك العلميّ.

يُحكى أنّ رجلاً كانت له حاجة لا يقضيها بحسب اعتقاده إلا الملِك، فعَبَرَ السهول والوديان والجبال حتى وصل إلى قصر ذلك الملك، وطلب موعداً للقائه، وانتظر طويلاً طويلاً إلى أن سُمح له باللقاء، فأُدخل إلى ردهة القصر، وطُلب منه الجلوس، لكنَّ مقامه طال في ذلك المكان، فسأل عن سبب التأخير، فقال له الحاجب: إنّ الملك يصلّي، وسيستقبلك عندما ينتهي من الصلاة.

حينها التفت إلى نفسه، وترك الردهة وعاد إلى قريته.

سأله أحدهم: عبرت السهول والوديان والجبال، وانتظرت كثيراً لتلاقي الملك، ليقضي حاجتك، فلمّا قرب اللقاء تركته؟!

فأجاب: ظننت أنَّ حاجتي لا يقضيها إلا الملك، فذهبت إليه، فقيل لي: إنّه يصلي لله، يعني هو يطلب حاجته من الله، فتأمَّلت، وقرّرت أنْ أترك الملِكَ، وأطلب حاجتي من ربي.

الاستعانة بين الاستقلال والوسيلة:
إنّ المُراد من الاستعانة بغير الله الاستعانة المستقلّة التي يرى فيها الإنسان أنّ الذي يستعين به هو سبب مستقلّ لإعانته، أمّا الاستعانة بمعنى الوسيلة غير المستقلة عن الله تعالى، والتي من خلالها يسير الإنسان في حياته، ويسلك في طريق كماله، فهي أمر لا يتنافى مع التوحيد.

وهذا من قبيل الذهاب إلى الطبيب للعلاج، فإنّ الاستعانة به كوسيلة لشفاء الله له، على قاعدة أنّ الطبيب وسيلة، والدواء وسيلة، لكن الشافي الحقيقي هو الله " وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ "7.

وهذا أيضاً من قبل التوسُّل بالأنبياء (عليه السلام) على أنّهم الوسيلة غير المستقلّة لسلوك الإنسان طريق الله تعالى، فهذا أمرٌ طبيعي أيضاً لا يتنافى مع التوحيد.

الاستعانة والشرك الخفيّ:
لا بدّ من التأكيد مجدّداً أنّ هناك فرقاً كبيراً بين الشرك العقائدي الذي يحكم على المتلبّس فيه بالكفر وبين الشرك العمليّ الذي لا تترتب عليه آثار الكفر، وإنّما يترتّب على تجنّبه كمالات معنوية كبيرة.

وقد أشار الإمام الصادق (عليه السلام) إلى خطورة عدم التفريق بين الشِّركين مفيداً أنّ الشرك الذي له آثاره العملية الشرعية منحصر في أمور خاصة في دائرة السلوك، فعنه (عليه السلام): "إنّ هؤلاء العوام يزعمون أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء على المسح الأسود، فقال (عليه السلام): لا يكون العبد مشركاً حتى يصلّي لغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يدعو لغير الله عز وجل"8.

إلاّ أنّ هذا الكلام لا يعني عدم تسمية بعض الأمور المسلكية التي هي خارج السياق الاعتقادي بالشرك، تنبيهاً للإنسان كي يحصِّل أعلى مراتب الكمال، ومن أمثلة هذا الشرك المعنويّ هو أنْ يعتمد الإنسان على أمر خاص ليتذكر حاجة معينة،كأنْ يكتب في مفكّرة، أو أن يلبس الخاتم في إصبع آخر لم يعتدْ أن يلبسه فيه؛ ليتذكر حاجته، فإنّ هذا الفعل طبيعي لا يتنافى مع التوحيد، إلا أنّ من يفعل ذلك تارة يبقى ملتفتاً إلى أنّ الله تعالى هو المنبّه والمذكّر الحقيقي، وأن المفكِّرة والخاتم ما هما إلا وسيلة، فلا بأس في ذلك، وتارة أخرى لا يلتفت إلى أنّ الله تعالى هو المذكِّر الحقيقي، فحينئذٍ يكون قد وقع في نوع من الشرك المعنوي. وإلى هذا ألفت الإمام الصادق (عليه السلام) في حديثه الوارد بقوله: "إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل، وقال: منه تحويل الخاتم؛ ليذكر الحاجة، وشبه هذا"9.

3- التوحيد في الحبّ
إنّ أرقى أنواع التوحيد العمليّ هو أن لا يتعلّق قلب الإنسان بشكل مستقل بغير الله تعالى، فلا يحبّ إلا الله وفي الله، بحيث يكون الله تعالى هو محور حبّه. ومن حبّ الله تعالى حبّ الكمَّل من أوليائه الذين يكون حبّهم في الله مدخلاً جاذباً لحبّ الله تعالى.
إنّ هذا التوحيد في الحبّ هو سرّ الحج الإبراهيمي، ولعلّه سرّ تسمية النبيّ إبراهيم (عليه السلام) بالخليل من الخلّة التي تعني الحبّ الخاص، وقد ورد "أنّ الخلة بالضم- مودة متناهية في الإخلاص، وصداقة قد تخلّلت القلب وصارت خلاله أي باطنه"10.
من الواضح من سيرة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) أنّه كان صاحب قلب كبير قد امتلأ عاطفة وحناناً، حتى وصل فيه الأمر أنّه حينما علم بأنّ ملائكة الله قد أُرسلوا لإنزال العذاب على قوم النبيّ لوط (عليه السلام)، فإذا به يناقشهم في ذلك، يقول الله تعالى: " فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ"11.

لقد ابتلى الله تعالى هذا النبيّ العاطفيّ، وهو في عمر المئة والعشرين بأن رزقه الله ولداً فيه الكمالات الراقية التي جذبت قلب أبيه إليه أشدّ انجذاب، فأراد الله تعالى أن يفرّغ إبراهيم (عليه السلام) قلبه لله بحيث لا يسكنه أحد إلا الله. فكان ابتلاؤه بولده اسماعيل.

- أمره الله تعالى واسماعيل طفل صغير: خذه وأمّه إلى وادٍ غير ذي زرع، واتركهما فيه.

- ثم أمره عزّ وجل واسماعيل في مطلع شبابه: اصعد معه وأمّه إلى جبل حيث تمتلئ عقولكم بمعرفة الله تعالى، ثم ازدلفوا إلى المشعر الحرام حيث تمتلئ قلوبكم بالشعور بالله.
وهناك جاء الوحي في المنام: أن اذبح ولدك.
وذهب (عليه السلام) باسماعيل (عليه السلام) إلى المذبح، دون أن توقفه عقبات الشيطان.
وتلّه للجبين.
ووضع السكين على رقبته.
وحرّك السكين ذابحاً.
لكن أوقفه جبرئيل (عليه السلام) تكويناً بقلب السكين.

لماذا؟
لأنّه نجح في عملية الذبح، لا بذبح ولده، بل بذبح ما عدا الله في قلبه، لذا كان إبراهيم (عليه السلام) خليل الله، ونبيّ التوحيد؛ لأنّه وفى لله تعالى في حبّه وعشقه، فنال مرتبة الإمامة.

الشيخ د. أكرم بركات

1- سورة يوسف، الآية 106.
2- سورة الفرقان، الآية 43.
3- سورة النساء، الآية 60.
4- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج2، ص221.
5- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج32، ص544.
6- المصدر السابق، ج32، ص532.
7- سورة الشعراء، الآية 80.
8- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج69، ص96.
9- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج69، ص96.
10- الطريحي، مجمع البحرين، ج1، ص696.
11- سورة هود، الآيتان 74-75.

قراءة 1468 مرة