إذا كان من المقرّر إيجاد تحوّل في بلدٍ ما، فالثقافة هي مفتاح ذلك. وإذا أرادت أمّة، على سبيل الفرض، التخلّص من المحتلّ، تبرز الثقافة، قبل الثروة والقدرات الصناعيّة والاحتياطات الباطنيّة، في العمل على التحرّر من احتلال الأجانب. تصوّروا أنّ حربًا قد نشبت، فلكي تتمكّن أمّة من إدارة الحرب، فإنّ للثقافة، قبل السلاح ووجود القيادة المجرّبة وكثرة الجنود، الدور الأوّل والفعّال في دفع الشعب نحو ساحة المعركة، وفي الحفاظ على الوجود عند القتال، وفي الحثّ على الاستبسال، وفي تحقيق النصر28/6/75.
لقد سمعت أنّه في الحرب العالميّة كان لملحمة عليوف في روسيا – وهي أغنية معروفة لم أسمعها ولا أعرف ما هي بالتحديد، السادة يعرفون – أكبر الأثر في تحريض الناس على الذهاب إلى ساحة المعركة، أي أنّ هذه الأنشودة كانت في خدمة الأهداف الشعبيّة، وهذا هو المتوقّع من الفنّان في كلّ بلد1/5/80.
إنّ الثقافة هي العنصر الأساسيّ في كلّ مرحلة. وعندما تأتي مرحلة إعادة الإعمار والتأهيل، فإنّ ما يحرّك العجلة المطلوبة هو الثقافة. فلو فرضنا أنّ ثقافة العمل والابتكار لم تكن حاكمةً في بلد ما أو في جزء من البلد، فما هي فائدة وجود ألف مدير جيّد؟ إنّ العلم والقدرات العلميّة والذخائر المادّيّة تأتي بالدرجة الثانيّة. إن ذاك العنصر الذي يحقّق نجاة الأمّة في هذه البرهة الزمانيّة هو الثقافة، لأنّها هي التي تشجّع على دخول ساحة البناء، والثقة بالنفس، والانضباط في العمل، وهي التي تقي من مضاعفات وتبعات مرحلة البناء – إذ لهذه مضاعفات من النواحي الاقتصاديّة والأخلاقيّة – وبالتالي توصل إلى مرحلة النجاة، وتوجّه مرحلة البناء في الاتّجاه الذي تقع الحاجة فيه. ثقافة الشعب هي التي تساعد في إنجاز هذه الأعمال.
وإذا تمكّن الشعب من عبور هذه المرحلة، وفرضنا أنّ بلدًا ما قد تمكّن من الوصول إلى نهاية مرحلة البناء، أي إنّه قد وصل من الناحية الصناعيّة والتقنيّة والمعيشيّة إلى مستوى من القدرة، وكان مقرّرًا الاستفادة من هذه القدرة للمضيّ قدمًا في حياة هذا الشعب، ومساعدة البشريّة، وإعانة الدول الأخرى، والتقدّم بقافلة البشريّة – حيث إنّ الكمال الإنساني لا نهاية له – نجد أنّ الثقافة هي التي تؤدّي الدور الأساس.
وإذا امتلكت أمّة ثقافةً سليمةً متطوّرة، فستكرّس هذه القوّة لأجل حياة ونموّ البشريّة وخدمتها. وإذا كانت تمتلك ثقافةً عليلةً ناقصةً وقاصرة، فستستعمل قوّتها في سبيل الانحطاط الأخلاقيّ، وانحطاط البشريّة، والظلم، حتّى إنّها ستساهم في تآكل تلك الأمّة وانهيارها؛ وهذا هو مصير القوى الحاليّة الكبرى في العالم. وأتوقّع أنّ القوّة الأهمّ التي ستنخرها هذه السوسة هي النظام الأمريكيّ، الذي سينهار عاجلًا لا آجلًا. بالطبع هذه أمور لا يمكن تعيين زمان خاصّ لها، لعلّ ذلك يكون في عشر سنوات أو عشرين سنة أخرى. لكن من المعلوم أنّ هذا الزمان قد يتغيّر لأنّ العوامل متغيّرة، لكنّ الإصابة بآفات هذا الخلل والنقص حتميّ الوقوع.
لقد تمكّن الشعب الأمريكيّ من بلوغ أعلى المستويات العلميّة، وذلك ببركة بعض الخصال الثقافيّة والخصوصيّات الجغرافيّة والتاريخيّة، وتقدّم بلحاظ العلم والثروة وأمثالها. ولكن بما أنّ الثقافة الحاكمة ليست ثقافةً صحيحةً وسالمةً وكاملة، فما زال حتّى الآن يتّجه نحو الانحطاط، ومن الآن فصاعدًا سيكتب هذا الشعب نهايته وتلاشيه الداخليّ بيده، والأمارات ظاهرة منذ الآن، وهكذا سيكون المستقبل.
هذا هو دور الثقافة، فتصوّروا أنّنا شجّعنا شابًّا على ممارسة الرياضة وتقوية جسمه وامتلاك قدرات بدنيّة كبيرة وقوام قويّ سالم وجميل وحائز على الكثير من الاستعدادات، ولكنّنا في الوقت عينه لم نعطه القدرة على التفكير. هكذا فرد، مع ما يمتلك من قوّة وقدرة بدنيّة وجمال جسمانيّ، سيقع، نتيجة ضعف ثقافته، فريسةً لمؤامرات شخص آخر يمتلك تفكيرًا أفضل وتربيةً أعلى، وسيكون عمليًّا كلّ ما يمتلكه من خيرات في جسمه مسخّرًا للآخرين، ولن يشكّل له أيّ نفع.
وإنّ الأمّة التي تهتمّ بجوانب حياتها المتنوّعة كالعلم – العلم بالطبع جزء من الثقافة لكن من الآن استعمل كلمة الثقافة بمعناها الخاصّ – والتكنولوجية، والصحّة، والثروة، والتقدّم المادّيّ، والسلطة والهيمنة السياسيّة، وتؤمّن كلّ هذه الأمور، لكنّها تفتقد في داخلها للثقافة والنموّ والتطوّر، فهي أشبه ما تكون بذاك الشخص28/6/75.
إنّ مقولة الثقافة في بلدنا، كما يعرف الحريصون والمتحرّقون، هي مقولة مظلومة. لقد كانت ثورتنا ثورةً مبنيّةً على منحًى ورؤية ثقافيّة، وكلّ حركة قيميّة تمتلك هذه الخصوصيّة. ونحن كان ينبغي علينا، قبل وأكثر من أيّ سعي آخر، أن نبذل الجهد في المسعى الثقافيّ الإسلاميّ5/5/71. فلو كان هذا الأمر المستحيل، الذي أريد عرضه الآن، في طور التحقّق بداية الثورة، لكان وضعنا اليوم حتمًا جيّدًا جدًّا.
ذاك المستحيل هو أن يكون القيّمون على إدارة البلد في بداية ثورةٍ ما ممتلكين للاستعداد اللازم والتخطيط الكافي والاستشراف الصائب. هذا الأمر ليس ممكنًا في الثورة، لم يكن ممكنًا ولم يتحقّق. لكن لو كان هذا متحقّقًا لدينا في ذلك الوقت، لكان أوّل عمل قمنا به هو النهل من تلك الحماسة والغليان الثوريّ، ولكنّا قدّمنا المعارف الإسلاميّة في فضاء صحيح وعلى شكل ترجمة معنويّة وليس ترجمةً لسانيّةً. ولتمكّن المرء حينها من التنفّس السليم في هذا الفضاء، ولتمكّن الفنّان من استمداد فنّه من الإسلام، ولم يبقَ هناك ضرورة لتقولوا اصنع كذا، وقل كذا، أو احذف كذا، حيث كان سيصبح الجوّ جوًّا إسلاميًا؛ إلّا أنّ هذا لم يحصل12/7/72، أي لم يتمّ توضيح وتبيين ثقافة الإسلام بما لمفهوم الثقافة ومعناها من سعة، بعيدًا عن الانحراف، وعن الخرافة وضيق النظر والجمود والخوف من هذا وذاك، كما هو الحال في العالم الآن.
الهواجس الثقافيّة، شرح مَزجيّ لإحدى الخطب المحوريّة التي تفضّل بها الإمام الخامنئي حفظه الله