لا شكّ في أنّ النظم والانضباط يُعدَّان من أهمّ استراتيجيّات التدبير في المعيشة. وهذه الاستراتيجيّة تعني: "ترتيب مناهج الحياة وتنظيمها"، بحيث يُؤدَّى كلُّ عملٍ في الزمان والمكان المناسبين، على أن لا يمنع هذا الأداء عملاً آخر أو يزاحمه.
فالمدير والمدبّر الكفء: هو الذي يراعي النظم والانضباط في عمله، ولا يُوكِل عمل اليوم إلى غدٍ، لأنّ الإنسان المتديّن يؤمن بأنّ كلّ يومٍ يتطلّب عملاً خاصّاً به. وأكّد الإمام عليّ عليه السلام على هذا الأمر بقوله: "فِي كُلِّ وَقْتٍ عَمَلٌ"[1]، فالإنسان - بالتالي - هو مسؤولٌ عن كلّ لحظةٍ في حياته.
وفي رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ينقل فيها موعظةً للقمان الحكيم في هذا الصدد، يقول فيها: "إِعْلَم أَنَّكَ سَتُسأَلُ غَدَاً إَذا وَقَفتَ بَينَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَن أربعٍ: شبابِكَ في ما أَبلَيتَهُ، وَعُمرِكَ في ما أَفنيتَهُ، وَمالِكَ مِمّا اكتَسبتَهُ وَفي ما أَنفَقتَهُ، فَتَأَهَّبْ لِذلِكَ، وَأَعِدَّ لَهُ جَوابَاً"[2].
إذن، يعتبر - وفق هذه التعاليم السامية - التماهل في أداء عمل اليوم، وإيكاله إلى وقتٍ لاحقٍ، من الأخطاء التي لا يمكن تداركها. وبالطبع، فإنّ رواج هذه الظاهرة في المجتمع، سيؤدّي إلى انحطاطه وانهياره، لأنّ يوم غدٍ لا يأتي إلا في الغد.
وفي الواقع: إنّ مَن يتوهّم قطعيّة بقائه على قيد الحياة في الغد، وأنّه سيتمكّن فيه من تحقيق رغباته، فهو غافلٌ عن الحقيقة.
ولا شكّ في أنّ نظمَ المدير وانضباطه يوجبان عليه أن يدبّر الأمور بطريقةٍ صحيحةٍ يمكنه معها الوفاء بالتزاماته في أوقاتها المحدّدة، من دون أن يخلف وعداً في أيّ عملٍ من أعماله. وبالتالي فهو سيحظى بمكانةٍ اجتماعيّةٍ مرموقةٍ، وسيحفظ مكانة المؤسّسة التي يديرها، ويبقى عزيزاً بين النّاس ومحترماً.
وكذلك، فإنّ النشاطات التي يمارسها الإنسان لتوفير معيشته، والخدمات التي يقدّمها للمجتمع، وتوزيع الأعمال بين أفراد الأسرة الواحدة، كلّها أمورٌ تنطوي تحت مبدأي النظم والانضباط، كما كان يفعل أئمّتنا المعصومون عليهم السلام، حيث روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: "كانَ أميرُ المؤمنينَ عليه السلام يَحتطِبُ ويَستقِي ويَكنِسُ، وكانتْ فاطمةُ عليها السلام تَطحَنُ وتَعجِنُ وتَخبُزُ"[3].
فاتّصاف الإنسان بالنّظم والانضباط في تكاليفه المُلقاة على عاتقه، يحفّزه على السعي لأدائها، ويجنّبه اللامبالاة، كما يمكّنه من الوفاء بالتزاماته ووعوده في أوقاتها المحدّدة، فلا يخالف قول الله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُول﴾[4]. إنّ اجتناب الإفراط والتفريط في أداء الوظائف على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ، والتقيّد بمنهجٍ منظّمٍ في الحياة، وإنجاز الأعمال والمشاريع في جميع جوانب الحياة، هي أوامر نابعةٌ من روح تعاليم ديننا الحنيف. فديننا يدعونا إلى تنظيم أوقاتنا، لكي نستثمرها خير استثمارٍ، خدمةً لأنفسنا ومجتمعنا، حيث أشار الإمام موسى الكاظم عليه السلام إلى هذه الحقيقة بقوله: "اجْتَهِدُوا فِي أَنْ يَكُونَ زَمانُكُمْ أَرْبَعَ ساعاتٍ: ساعَةً لِمُناجاةِ اللهِ، وساعَةً لأَمْرِ الْمَعاشِ، وساعَةً لِمُعاشَرَةِ الإِخْوَانِ والثِّقَاتِ الَّذِينَ يُعَرِّفُونَكُمْ عُيُوبَكُمْ ويُخْلِصُونَ لَكُمْ فِي الْباطِنِ، وسَاعَةً تَخْلُونَ فِيها لِلَذّاتِكُمْ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وبِهذِهِ السّاعَة تَقْدِرُونَ عَلَى الثَّلاثِ ساعاتٍ. لا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقرٍ، ولا بِطُولِ عُمُرٍ، فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقرِ بَخِلَ، ومَنْ حَدَّثَهَا بِطُولِ الْعُمُرِ يَحْرِصُ. اجْعَلُوا لأَنفُسِكُمْ حَظّاً مِن الدُّنْيا، بِإِعْطائِها ما تَشْتَهِي مِن الْحَلالِ، وما لا يَثْلِمُ الْمُرُوَّةَ وما لا سَرَفَ فِيهِ، واسْتَعِينُوا بذلِكَ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: لَيْسَ مِنّا مَنْ تَرَكَ دُنْياهُ لِدِينهِ، أَو تَرَكَ دِينَهُ لِدُنْياهُ"[5].
فن التدبير في المعيشة - رؤية قرآنية روائية - ، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] الواسطي، عيون الحِكم والمواعظ، م.س، ص354.
[2] الكليني، الكافي، م.س، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب ذم الدنيا...، ح20، ص135.
[3] الكليني، الكافي، م.س، كتاب المعيشة، باب عمل الرجل...، ح1، ص86.
[4] الإسراء: 34.
[5] الحراني، تحف العقول، م.س، ص409.
المصدر:شبکه العارف الاسلامیه