وأما الامتحان بالتكليف الظاهري فقد وقع بوضوح مع النبي ابراهيم وابنه إسماعيل عندما رأى في المنام أنه مأمور بذبح ولده هذا ورؤيا النبي حق ولذلك اعتقد بأنه مأمور بذبحه بالتكليف الواقعي كالصلاة والصيام والحج ونشأ من هذا الاعتقاد إقدامه على الامتثال بالذبح فعلاً وكذلك حصل للولد اعتقاد بأنه مأمور واقعاً بتقديم نفسه قرباناً لله وتقرباً منه فأقدم على التنفيذ معبراً عن رضاه به وتسليمه لأمر ربه بقوله: ﴿يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِي إن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين﴾([1]).
ومن المعلوم أن النجاح في هذا الامتحان يكون بنفس الإقدام على العمل والامتثال ولا يتوقف على حصوله خارجاً لعدم كونه مطلوباً للمولى ومقصوداً له بهذا التكليف الظاهري.
وقد بلغ هذان النبيان العظيمان قمة النجاح في هذا الإمتحان الصعب عندما أسلما أمرهما لله سبحانه وأقدم الوالد على تقديم ولده الصغير الوحيد الذي مَنَّ الله به عليه حال الشيخوخة والكبر وأقدم الولد على تقديم نفسه النفيسة قرباناً لله تعالى.
وبعد حصول النجاح في هذا الامتحان الإلهي وتحقق ما أراد الله سبحانه تحققه بواسطته من ظهور مقام هذين النبيين الرفيع ومنزلتهما الإيمانية السامية.
أجل: بعد حصول ذلك كشف الله لهما عن واقع الرؤيا وأن المقصود منها واقعاً هو الإقدام على الذبح لا نفسُه وذلك بقوله تعالى: ﴿وَنَاديْنَاهُ أَن يَا إبراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحسِنِينَ﴾([2]).
وتكرر هذا النوع من الامتحان بالتكليف الظاهري مع النبي محمّد (صلى الله عليه وآله) وولده الروحي علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك عندما طلب منه بأمرٍ من الله سبحانه أن يَنام في فراشه ليلة هجرته ليكون ذلك مغطياً لانسحابه من بين المشركين المحيطين بالمكان بانتظار مجيء الوقت المحدد للهجوم على شخص الرسول (صلى الله عليه وآله) ليقضوا على حياته الشريفة وكانت الدلائل والأمارات الظاهرية توحي بأن القتل الذي كان سيصيب الرسول (صلى الله عليه وآله) لو بقي في فراشه ـ يفرض إصابتهُ لعلي (عليه السلام) ووقوعه عليه.
ومع هذا أقدم النبي (صلى الله عليه وآله) على أن يقدم شخص علي وهو ولده الروحي فداءً للرسول والرسالة كما أقدم عليٌ على أن يقدم نفسه المطمئنَّة فداءً لهما.
وقد نالا النجاح الباهر في هذا الامتحان الصعب وبالدرجة التي نالها النبيان المذكوران. وإن كان فداء إسماعيل وصونه من الذبح ـ بذبح عظيم فإن فداء الإمام علي (عليه السلام) وحفظه من القتل كان بتخطيط سماوي سليم وتقدير حكيم من أجل أن يقوم بدوره البارز بعد ذلك مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في ميدان الجهاد والتضحية في سبيل نصر الدين ونشره في الآفاق ليعرفه الناس على حقيقته وواقعه فيدخلوا فيه أفواجاً بعد حصول النصر العظيم والفتح المبين كما تحقق ذلك بحول الله وقوته ـ.
وحاصل الجواب على السؤال الثاني أن المصيبة مرة تحصل للإنسان بإرادته وسوء اختياره وأخرى تحصل له بسبب ظلم الآخرين له وثالثةً تحصل بقدر وقضاء من السماء أما النوع الأول فلا تصح نسبته إلى الله سبحانه لنحتاج إلى السؤال عن الوجه في حصوله لهذا الشخص بعد البناء على ما هو الصحيح من أن الإنسان مخير في أعماله وليس مجبوراً عليها.
وبذلك يندفع الإشكال ولا يبقى موضوع للسؤال ويكون هذا الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾([3]).
وبذلك يُعرف الجواب بالنسبة إلى النوع الثاني من المصيبة وهو الحاصل للشخص بسبب ظلم غيره له لأن الله سبحانه وإن اقتضت حكمته أن يخلق الإنسان حراً مختاراً في أفعاله من الناحية التكوينية ولكنه قيد حريته بالنظام التشريعي فلم يسمح له بظلم الآخرين والاعتداء عليهم فإذا التزم بذلك سَلم وسلَّم غيره من الظلم كما أراد الله تعالى وكتب له الثواب على التزامه وامتثاله هذا التكليف.
وإذا خالف حكم الله تعالى وظلم بذلك نفسه وغيره استحق العقوبة العادلة يوم الحساب وربما عُجلت له في الدنيا إذا اقتضت الحكمة الإلهية ذلك.
وأما المظلوم فسوف لا تذهب مظلوميته هدراً بل لابد أن ينظر إليها بعين العدل التشريعي معجلاً وذلك بإعطاء وليه الحق في القصاص إذا كانت الجناية على حياته أو أخذ الدية إذا تنازل الولي عن الأخذ بحق القصاص ووافق على أخذ الدية وكذلك إذا كان الاعتداء على أحد أعضائه عمداً فالشرع يعطي هذا المظلوم المعتدَى عليه الحق بالقصاص أو الدية إذا تنازل عن الأول ورضي بها.
وإذا لم يكن الاعتداء جنايةً على النفس أو على أحد الأعضاء على وجه يوجب القصاص أو الدية بل كان مسبباً ما هو أقل من ذلك فقد أعطاه الشرع المقدس حق الرد بالمثل لقوله تعالى: ﴿فَمَنِ أعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيه بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾([4]).
وإذا كان الاعتداء سبباً لإتلاف المال فالشرع يوجب على هذا المعتدي ضمان ما أتلفه لصاحبه بمثله أو بقيمته وهكذا فالله العادل بقضائه وشرعه لا يظلم أحداً ولا يسمح لغيره بظلمه ـ وإذا اعتُدي عليه وقف إلى جانبه في هذه الحياة بالتشريع العادل كما يأخذ له بحقه في الآخرة بالقضاء والفصل العادل أيضاً حتى لا يذهب حق المظلوم هدراً وربما أدت مظلومية بعض الأشخاص لأن يدخل بها الجنة إذا سببت له استحقاق مقدار من حسنات الظالم مقابل حقه المادي أو المعنوي الذي غُصب منه في الدنيا ـ وأدت نقيصة حسنات الظالم لأن يدخل بها النار حيث تغلب سيئاتُه حسناته بسبب هذه النقيصة على تفصيل وتوضيح مذكور في محله.
وبذلك يظهر أن ظلم شخص لآخر يكون رحمة للمظلوم في الآخرة على ضوء النتيجة المذكورة ويكون ظلماً حقيقياً لنفس هذا الظالم قال سبحانه: ﴿مَّنْ عَمِلَ صَلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾([5]).
ويبقى النوع الثالث من المصيبة هو الذي يحتاج إلى الإجابة الواضحة المبينة لحقيقة العدل الإلهي فأقول:
إن كل الحوادث التي تجري في الحياة خارج نطاق اختيار الإنسان وإرادته إنما تحدث لأسباب تكوينية أودعها الله سبحانه في الكون لمصلحة نوعية تخدم نوع البشر وأكثر أفراده فأصل وجود الريح وهبوبها قوية أو ضعيفة لمصلحة عامة وخلق الماء سائلاً بطبعه لحكمة كما أن خلق النار محرقة لمصلحة وهكذا ـ وقد يتفق في بعض الأحيان أن تحمل الريح النار إلى زرع شخص فتحرقه كما قد يتفق أن يكون هبوب الريح بدرجة قوية ولمصلحة نوعية لا يعلمها تفصيلاً إلا الله تعالى ـ مؤدياً إلى غرق السفينة وهلاك من فيها ففي هذه الموارد التي تتصادم فيها مصالح نوع المجتمع مع مصلحة بعض الأشخاص قد تقتضي المصلحة النوعية والحكمة الإلهية. أن تبقي القانون الطبيعي جارياً على مجراه التكويني ليؤدي الخدمة النوعية الكبرى ولو أدى ذلك إلى حدوث الضرر لبعض الأفراد من باب تقديم الأهم على المهم في عالم المصالح عندما تتزاحم وتتصادم ولا يتنافى ذلك مع العدل الإلهي لأن الأضرار الطارئة على الانسان في هذه الحياة بالقدر والقضاء إذا رضي بقدر الله وقضائه وصبر عليه ـ تُعوض عليه في الآخرة بما يُعطيه سبحانه للمؤمن من الثواب العظيم والأجر الجسيم.
وإبطالُ القانون الطبيعي بجعل النار برداً وسلاماً مثلاً كما حصل مع النبي ابراهيم ـ لا يكون إلا على وجه المعجزة ومع النبي أو الإمام والقريب منهما من الأولياء الصالحين كما هو واضح ـ.
وأما الحوادث الطبيعية التي يقدرها الله سبحانه في بعض الأحيان لتكون عقوبةً للمجرمين المتمردين على إرادته تعالى فهذه أيضاً لا تنافي العدل الإلهي بالنسبة إلى مستحقي العقوبة أولاً لاستحقاقهم لها ـ وثانياً لأن العقوبة المعجلة تخفف من المؤجلة ليوم الحشر الموعود.
وأما بالنسبة إلى المؤمنين الصابرين فالأضرار الطارئة عليهم في هذه الحياة تعوض عليهم بالنعيم الخالد والسعادة الأبدية جزاءً عادلاً ومكافأةً لهم على تسليمهم لقضاء الله وصبرهم عليه حيث يدخلون الجنة بغير حساب لقوله تعالى: ﴿إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ﴾([6]).
فلسفة الحج في الإسلام، سماحة الشيخ حسن طراد
([1]) سورة الصافات، الآية: 102.
([2]) سورة الصادفات، الآيتان: 104 و105.
([3]) سورة النحل، الآية: 118.
([4]) سورة البقرة، الآية: 194.
([5]) سورة فصلت، الآية: 46.
([6]) سورة الزمر، الآية: 10.