الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في زمن الحكومة العلوية

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في زمن الحكومة العلوية

فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام) يمكن ملاحظته في اتجاهين:

 

أولاً ـ إلغاء مظاهر الاستئثار:

وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) موقفاً حاسماً تجاه القطائع التي جعلها عثمان ملكاً لأوليائه وأعوانه وولاته الاُمويين، فبنوا القصور، واتخذوا الدور، وانصرفوا إلى الترف والدعة واللهو، فاشتروا الجواري والقيان، وارتكبوا المحرمات، وتحوّلت أموال المسلمين إلى طعمة لقلّه قليلة من المتنفّذين الذين أطلق عثمان العنان لهم في الاستئثار بحقوق الناس، ولقد حذّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عثمان من هذا الواقع قبل مقتله.

 

روى الواقدي في كتاب (الشورى) عن ابن عباس أنه (عليه السلام) قال لعثمان: «وانظر هل بقي من عمرك إلّا كظمء الحمار، فحتى متى وإلى متى! ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم! والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك.

 

قال ابن عباس: فقال عثمان: لك العتبى، وافعل واعزل من عمالي كلّ من تكرهه ويكرهه المسلمون، ثمّ افترقا، فصدّه مروان بن الحكم عن ذلك، وقال: يجترئ عليك الناس، فلا تعزل أحداً منهم!»([1]).

 

وقد أعلن أمير المؤمنين (عليه السلام) سياسته المالية القائمة على عدم الأثرة قبل البيعة، وشدّد على أن يكون ذلك شرطاً أساسياً فيها، وكأنه يعلم أن تلك السياسة ستكون سبباً من أسباب نكث البيعة من قبل الطبقة المتنفّذة من قريش.

 

قال (عليه السلام): «إنكم قد اختلفتم إلي، وأتيتم وإني قائل لكم قولاً إن قبلتموه قبلت أمركم، وإلّا فلا حاجة لي فيه. قالوا: ما قلت من شيء قبلناه إن شاء الله، فجاء فصعد المنبر، فاجتمع الناس إليه، فقال: اني قد كنت كارهاً لأمركم فأبيتم إلّا أن أكون عليكم، ألا وأنه ليس لي أمر دونكم إلّا أن مفاتيح مالكم معي، ألا وإنه ليس لي أن آخذ منه درهماً دونكم، رضيتم؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد عليهم، ثم بايعهم على ذلك»([2]).

 

والأمر الآخر في هذا السياق هو قراره بردّ قطائع عثمان إلى المسلمين في اليوم الثاني من البيعة.

 

روى الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح، عن ابن عباس (رضي الله عنه): «أن علياً (عليه السلام) خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شيء، ولو وجدته وقد تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق»([3]).

 

قال الكلبي: «فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها»([4]).

 

وخلال حكومته (عليه السلام) لم يكن يستأثر بشيء من الفيء، ولا يخصّ به حميماً ولا قريباً([5])، وكان يقول (عليه السلام): «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، وأجرّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام. وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها؟!

 

والله لقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من برّكم صاعاً، ورأيت صبيانه شعث الشعور، غبر الألوان من فقرهم، كأنما سوّدت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكّداً، وكرّر عليّ القول مردداً، فأصغيت إليه سمعي، فظنّ أني أبيعه ديني، وأتبع قياده مفارقاً طريقي، فأحميت له حديدةً، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضجّ ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها. فقلت له: ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه، أتئنّ من الأذى، ولا أئنّ من لظى؟!»([6]).

 

وكان (عليه السلام) شديداً في مراقبة عمّاله ومحاسبتهم إذا بدر منهم أيّ مظهر من مظاهر الاستئثار بحقوق المسلمين، وحريصاً على تطبيق هذه السياسة إلى آخر المدى. فمن كتاب له (عليه السلام) إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني ـ وهو عامله على أردشير خرّه ـ: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك، وأغضبت إمامك ؛ أنك تقسم فيء المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، وأريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من أعراب قومك. فوالذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدنّ بك علي هواناً، ولتخفنّ عندي ميزاناً. فلا تستهن بحقّ ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الأخسرين أعمالاً. ألا وإن حقّ من قبلك وقبلنا من المسلمين في قسمة هذا الفيء سواء، يردون عندي عليه ويصدرون عنه»([7]).

 

ثانياً ـ المساواة:

كان علي (عليه السلام) رائد العدالة ومثلها الأعلى، وقد حرص على تطبيقها بكلّ ما أُوتي من قوّة، باعتباره قاعدة أساسية تضمن التكافل بين أبناء الدين الواحد، وتقضي على أسباب الفقر. قال (عليه السلام): «إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلّا بما متّع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك»([8]).

 

من هنا انتصف للمستضعفين من أصحاب الثراء والسلطان، وكان ديدنه توزيع ما يرد بيت المال على المسلمين في حينه، بحيث لا يختزن فيه شيئاً حتى الرغيف والخيط والإبرة، وكان يرشّه بعد أن يفرغه ويصلي فيه ركعتين، ومضى في هذا السبيل إلى آخر الشوط.

 

كان نظام العطاء في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) يقوم على أساس التسوية بين المسلمين كافة، ولا فرق فيه بين المولى والسيد ولا الأسود والأبيض، ولما ولي عمر بن الخطاب ألغى نظام التسوية في توزيع العطاء، وحدّد معايير فضّل فيها بعض الناس على بعض، منها: السابقة والهجرة والنسب وغيرها، ففضّل السابقين على غيرهم، وفضّل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضّل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضّل العرب على العجم، وفضّل الصريح على المولى([9]). وبقي نظام العطاء على هذا المنوال في زمان عثمان لكنه فضّل بني أمية على غيرهم، وكان ولاته يأخذون لأنفسهم ما يشاؤون بلا حساب ودون رقيب، فصار النظام الطبقي نظاماً بشعاً أدّى إلى تداعيات وخيمة، منها نشوء طبقة مترفة تستأثر برؤوس الأموال على حساب الأكثرية المسحوقة، فوصلت ثروات بعض كبار المسلمين بالملايين في الوقت الذي يعيش الغالبية الحرمان والكفاف. وكان ذلك أحد الأسباب الأساسية التي جعل الناس يثورون على عثمان.

 

وحينما ولي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أعلن قراره القاضي بالمساواة التامة بين الناس في العطاء، من أجل إشاعة العدل في توزيع الثروة وإلغاء كافة أسباب التمايز بين الناس، فكان قرار انتزاع قطائع بني اُمية وقرار التسوية من أول القرارات التي اتخذها علي (عليه السلام) في اليوم التالي من البيعة وطبّقه عملياً في اليوم الثالث، وتحمل مزيداً من العناء في هذا السبيل.

 

قال (عليه السلام) في خطبته في اليوم التالي للبيعة: «ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!

 

ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النير غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدّق ملّتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده.

 

فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار. وإذا كان غداً ـ إن شاء الله ـ فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفنّ أحد منكم، عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن، إلّا حضر، إذا كان مسلماً حراً. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

قال ابن أبي الحديد: قال شيخنا أبو جعفر: وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه (عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه، وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية.

 

فلما كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، وأعطِ كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثم ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.

فقال سهل بن حنيف: ياأمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم. فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضّل أحداً على أحد، وتخلّف عن هذا القسم يومئذٍ طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، ورجال من قريش وغيرها»([10]).

 

وكان من نتائج هذا الإجراء أن أخذ بعض من بايعه يتسلل من المدينة ليلتحق بمعاوية هرباً من العدل، وطفق طلحة والزبير وغيرهما يعلنون الاحتجاج ويظهرون الخلاف على سياسة علي (عليه السلام) القاضية بتطبيق نظام التسوية، فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم، فدخلوا على علي (عليه السلام)، فقالوا: يا أمير المؤمنين، انظر في أمرك، وعاتب قومك، هذا الحي من قريش، فإنهم قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، وقد دعونا في السرّ إلى رفضك، هداك الله لرشدك! وذاك لأنهم كرهوا الاُسوة، وفقدوا الأثرة، ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا واستشاروا عدوّك وعظّموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة وتألفاً لأهل الضلالة. فرأيك!

 

فخرج علي (عليه السلام) فدخل المسجد، وصعد المنبر مرتدياً بطاق، مؤتزراً ببرد قطري، متقلداً سيفاً، متوكئاً على قوس، فقال: أنا أبو الحسن ـ وكان يقولها إذا غضب ـ ثم قال: ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خُلقتم له، فلا تغرنّكم فقد حذرتموها، واستتموا نعم الله عليكم بالصبر لأنفسكم على طاعة الله، والذلّ لحكمه جلّ ثناؤه، فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا، وله أسلمنا، وعهد نبينا (صلى الله عليه وآله) بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولّ كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه»([11]).

 

وهكذا يريد علي (عليه السلام) أن يغرس في نفوسهم التطلّع إلى أجر الآخرة، وينزع عنها حبّ الدنيا وزخرفها، ولكن النفوس أبت العدل لما طال بها المقام على نظام الاستئثار على حساب الملايين الجائعة.

 

ولم يثنِ علي (عليه السلام) أي شيء عن تطبيق برنامجه الإصلاحي الثوري، لقد كان موقفاً أصيلاً تمسّك به إلى آخر الشوط، مما جعل بعض الأطراف تتصدّى لمحاربته، لأنها رأت أنه يهدّد مكانتها الاجتماعية، ويلغي امتيازاتها الطبقية، فنقضوا بيعته، وفارقوا طاعته، وشهروا السيوف في وجه الحق والعدل والمساواة التي ينشدها علي (عليه السلام)، أعلنوا الحرب تحت ستار الطلب بدم عثمان في حين كانوا أول الناس تأليباً عليه، وشمّر علي (عليه السلام) عن ساعد الحرب، فكان قتال الناكثين والقاسطين والمارقين في الجمل وصفين والنهروان، كما أخبره سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله).

 

المصدر: معالم الإصلاح عند أهل البيت عليهم السلام - بتصرّف

 

([1]) شرح ابن أبي الحديد 9: 15.

([2]) تاريخ الطبري 4: 428 ـ حوادث سنة 35.

([3]) شرح ابن أبي الحديد 1: 269.

([4]) شرح ابن أبي الحديد 1: 270.

([5]) الاستيعاب 3: 48.

([6]) نهج البلاغة: 346 الخطبة 224.

([7]) نهج البلاغة: 415 الكتاب 43.

([8]) نهج البلاغة: 533 ـ الحكمة 328.

([9]) راجع: شرح ابن أبي الحديد 8: 111.

([10]) شرح ابن أبي الحديد 7: 37.

([11]) شرح ابن أبي الحديد 7: 40.

 

 

13-10-2020

قراءة 840 مرة