التوجه لله في جوف الليل

قيم هذا المقال
(0 صوت)
التوجه لله في جوف الليل

إن لخلوة الليل تأثيراً عظيماً في إقبال النفس على الله، واستقبال رحمة الله تعالى، وما يجده الانسان في نفسه في الساعات المتأخرة من الليل من الاقبال على الله، والقدرة على استقبال رحمة الله تعالى قلما يجدها في وقت آخر. وقد جعل الله تعالى في هذه الساعات المتأخرة من الليل من البركة والرحمة ما لم يجعله في الساعات الاخرى من الليل والنهار.

 

وليس من شك، لمن يتأمل النصوص الاسلامية، أن الاوقات ليست سواء، فمن الاوقات ما تنفتح فيها أبواب الرحمة على الانسان أكثر من غيرها، ومن الاوقات ما تستنزل رحمة الله تعالى أكثر من غيرها، ومن أفضل هذه الاوقات، واكثرها حظاً من رحمة الله ساعات النصف الأخير من الليل.

 

يقول تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيل﴾([1]).

 

روى المفضل بن عمرو عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: «كان فيما ناجى الله به موسي بن عمران طايفة أن قال له: يا بن عمران، كذب من زعم انه يحبني، فإذا جته الليل نام عني، أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنا يا بن عمران مطلع على إحباني، إذا جئتهم الليل حولت أبصارهم في قلوبهم ومثلت عقوبتي بين اعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور.

 

يا بن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع، وادعني في الظلمات فإنك تجدني قريباً مجيباً»([2]).

 

وفي هذا النص مواضع للتأمل لا نريد أن نقف عندها طويلا. إن الليل يجن اولياء الله، ويسترهم عن زحمة الحياة وشواغلها، وكأنما الليل ينترع الانسان انتزاعاً من وسط شواغل الدنيا التي تشغله عن الانصراف والانقطاع الى الله، وتستره، وتجنه، وهذه هي فرصة خلوة الليل، حيث يخلو للانسان وجه الله عن كل شاغل وصارف، ويتمكن من الانقطاع إلى الله في هذه الخلوة.

 

ويكذب من يزعم أنه يحب الله، فإذا جنّه الليل نام عن مناجاة من يحب والقيام بين يديه، والتضرع عنده. أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟

 

إن زحمة النهار وشواغله الكثيرة والمتعددة تشتت أبصارنا وأسماعنا، فإذا جننا الليل، وانتزعنا من زحمة الحياة تجمع شتات أبصارنا وأسماعنا (التي شتتها النهار) وتحولت من الخارج الى الداخل، ومن زحمة الحياة في النهار الى داخل القلب، مصدر البصيرة والنور في حياة الانسان، فيجتمع شتات الابصار، ويتحول من الخارج الى الداخل، ويفتح الله على قلب الانسان حينئذ أبواب البصيرة والنور (إذا جنهم الليل حولت أبصارهم في قلوبهم)، وعندئذ يرى الانسان نفسه ماثلاً بحضرة الله، ويرى غضب الله تعالى ورحمته ماثلة أمامه، فإذا خاطب الله خاطبه عن مشاهدة وحضور لا عن بعد وغياب (يخاطبوني عن المشاهدة)، وإذا كلم الله بكلمه عن حضور، وليس عن غياب (ويكلموني عن الحضور) وتتمثل عقوبة الله تعالى وعذابه وغضبه بين عينيه (ومثلت عقوبتي بين أعينهم) فيسلبهم أنس حضور الحبيب والخلوة به ومخافة العقوبة الماثلة بين أعينهم راحة النوم، وكيف ينام من يري نفسه في خلوة الليل بحضور حبيبه، يناجيه، وبخاطبه؟ وكيف يغلب عليه النعاس وهو يرى عذاب الله ماثلاً بين عينيه؟

 

وهذه الحالة نتيجة طبيعية لتحول الأبصار من الخارج الى الداخل وتركزه وتجمعه في الليل بعد تشتته في النهار.

 

يقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة المعروفة بخطبة المتقين في وصف هذه الحالة من انقلاب الأبصار من الخارج الى القلب: «أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونها ترتيلاً، يحزنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا اليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول اذانهم، فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم واكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، يطلبون إلى الله تعالي فكاك رقابهم. وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء...»([3]).

 

وفي نهج البلاغة، قال أمير المؤمنين لنوف البكالي في صفة الليل: «يا نوف، إن داود عليه السلام قام في مثل هذه الساعة من الليل، فقال: إنها ساعة لا يدعو فيها عبد إلا استجيب له»([4]).

 

وعن رسول الله صلي الله عليه واله وسلم: «إذا كان آخر الليل يقول الله عز وجل: هل من داع فأجيبه؟ وهل من سائل فأعطيه سؤاله؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟».

 

الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام) سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي

 

([1])المزمل: 1 ـ 6.

([2])المجالس للمفيد: 214، وسائل الشيعة 4: 1125، ح: 8781.

([3]) نهج البلاغة، خطبة رقم 193.

([4]) نهج البلاغة القسم الثاني ص 165.

قراءة 1126 مرة