د. محمد علي آذرشب
لا يرتبط هذا الموضوع بعلم الاقتصاد فلستُ من المتخصصين فيه، بل يُعالج مسألة حضارية، وينظر إلى الاقتصاد من منظار حضاري، أو من منظار مذهبي حسب تعبير الشهيد الصدر الذي يقسم الدراسة الاقتصادية إلى علمية ومذهبية. الأولى ترتبط بمعادلات لا يختلف فيها العلماء، والثانية ترتبط بالأساس الذي تقوم عليه حضارة الإنسان، وهذا الأساس هو نظرة الإنسان إلى الكون والحياة. وفي هذا اللون الثاني جرى الاختلاف بين المدارس الفكرية، وأدى إلى ظهور مدارس اقتصادية مختلفة في التأريخ.
والمسألة الاقتصادية تحتل دوراً مهماً في دراسات المهتمين بقضايا العالم الإسلامي، لما يعاني منه المسلمون من تخلف اقتصادي وفشل في خطط التنمية الاقتصادية رغم وجود ثروات متراكمة في المنطقة الإسلامية.
والتطور الاقتصادي لا يعني طبعاً تجمع الثروة، لأنّ العالم الإسلامي متخلف اقتصادياً رغم تراكم ثرواته، بل المقصود به ربط الإنسان بالطبيعة ربطاً يستطيع من خلاله أن يحقق نمواً اقتصادياً، ويجعل المجتمع ذا بنية اقتصادية قوية تُغنيه عن التطفل على غيره من البلدان واستجدائها.
تناول المهتمون بقضايا العالم الإسلامي مسألة التطور الاقتصادي والتنمية الاقتصادية من وجهة النظر المذهبية، وحاولوا أن يستكشفوا الأسباب الحضارية للتخلف القائم بين المسلمين. يرى كثير من الباحثين الغربيين أنّ هذا التخلف الاقتصادي يعود إلى روح التوكل واحتقار المادة والاستسلام للقدر والاعتماد على الفُرَص، والعجز عن الخلق والإبداع الموجودة بين المسلمين.
يؤيد هذه النظرة الوضع القائم في العالم الإسلامي بكل ما يحيطه من تخلف في جميع مناحي الحياة، وما يدبّ فيه من ضعف وهوان، وما تعج به الثقافة الشعبية المعاصرة من روح كسل وبَطَر ولا مبالاة.
ويقف الباحثون المسلمون مدافعين عن الإسلام تجاه هذه الدعوى بأساليب مختلفة، أهمها:
1 ـ أسلوب الاستدلال بالنصوص الدينية.
2 ـ أسلوب استعراض التأريخ الإسلامي.
3 ـ صياغة النظرية الإسلامية.
4 ـ مهاجمة الحضارة الغربية.
5 ـ محاولة استكشاف الأسباب الحقيقية للتخلف.
1 ـ أسلوب الاستدلال بالنصوص الدينية:
لا يخفى على باحث في الإسلام أنّ المسلمين ينظرون إلى النصوص الدينية في القرآن والسنة على أنّها منهج لتنظيم أمور حياتهم في كل المجالات الخاصة والاجتماعية، والإنسان المسلم يرى نفسه مسؤولاً أمام الله في تطبيق هذه النصوص وتنفيذها بدقة. ومن هنا فإنّ لهذه النصوص دوراً مهماً في صياغة حركة الإنسان وروابطه بالمجتمع والطبيعة. ومن حق الباحث أن يعود إليها ليرى كيف وجه الإسلام أبناءه في حقل التنمية الاقتصادية.
في هذه النصوص نرى تأكيداً على أنّ ما في الأرض من نِعَم مادية إنما هي من عطاء الله للإنسان، فهي كلها إذن خيرات مصدرها الخير المطلق سبحانه، والإنسان المسلم بطبيعة تربيته يطلب الخير.
قال سبحانه: (...وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ...) (الإسراء/6).
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/12).
وقال: (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (الإسراء/66).
(...وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ...) (الحديد/25).
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ...) (الأعراف/10).
(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) (الرحمن/10).
كما نرى في نصوص الكتاب العزيز حثاً على ابتغاء فضل الله والحركة من أجل استثمار مواهب الطبيعة:
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ...) (الجمعة/10).
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ...) (الإسراء/12).
وثمة نصوص تربط بين (الخبز) وهو رمز الوفرة الاقتصادية والاكتفاء الذاتي في لغة هذه النصوص وبين حياة الدين واستمرار مسيرة الإنسان الروحية نحو الله. فعن النبي (ص): (اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرّق بيننا وبينه)، وعنه (ص): (فلولا الخبز ما صلينا...) ، وعنه: (فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا).
والنصوص الدينية ـ من جهة أخرى ـ تحثّ على العمل، وتجعل الحركة في طلب الرزق عبادة والإهمال والكسل مفسدة وعبثاً، قال سبحانه:
(...هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا...) (هود/19).
وعن رسول الله (ص) أنه قبّل يوماً يد عامل وقال: (طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة. ومن أكل من كَدّ يده مرّ على الصراط كالبرق الخاطف. ومن أكل من كدّ يده نظر الله إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبداً. ومن أكل من كدّ يده حلالاً فتح له أبواب الجنة يدخلها من أيها شاء)، وفي الحديث الشريف: (ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة).
وتذهب النصوص إلى إعطاء العمل الاقتصادي نفسه قيمة سامية بغض النظر عن معطياته المادية، ففي الحديث: (إن قامت الساعة وفي يد أحدكم الفسيلة فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها).
ويتحدث صادق أهل البيت جعفر بن محمد (ع) للمفضل بحديث يبين فيه أنّ سنة الحياة تقتضي الحركة من أجل الإنماء الاقتصادي وإلا فإنّ المجتمع يسقط في فراغ يتبعه عبث وفساد، فيقول: (وعلم يا مفضل... وجعل (الله)الخبز متعذراً لا يُنال إلا بالحيلة والحركة، ليكون للإنسان في ذلك شغل يكفه عما يخرجه إليه الفراغ من الأشَرِ والعبث).
وتقرنُ بعض النصوص الفقر بالكفر، وهذا يعني أنّ الأمة الفقيرة، أي الأمة التي تفتقد الحركة لاستثمار مواهب الطبيعة، هي أمة لا تصلح أن تكون مؤمنة. فالإيمان يقتضي الحركة على طريق الغني المطلق سبحانه، فعن النبي (ص): (كاد الفقر أن يكون كفراً).
وروى الصادق (ع) عن النبي (ص) أنّه نادى الصلاة جامعة. فاجتمع الناس، فصعد النبي (ص) المنبر، فنعى إليهم نفسه، فقال: (أذكّر الله الوالي من بعدي على أمتي... ولم يُفقرهم فيُكفرهم).
والنهي عن الكسل والتكاسل في طريق طلب المعيشة وردت فيه نصوص كثيرة، وكلها تدعو إلى حركة دائبة على طريق تحسين الوضع الاقتصادي الفردي والاجتماعي. من ذلك: قوم الإمام علي (ع): (إن الأشياء لما ازدوجت ازدوج الكسل والعجز فنتج بينهما الفقر). فالكسل حالة نفسية تُضعف همة الإنسان عن طلب مبتغاه، ويقترن بها العجز عن بلوغ الغايات في الواقع العملي. ونتيجة كل ذلك الفقر، الفقر في كل ما يحتاجه الفرد وتحتاجه الجماعة لمواصلة مسيرة الحياة بعزة وكرامة.
وعن الإمام الصادق (ع) قال: (لا تكسلوا في طلب معايشكم فإن آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها).
والنصوص في كل هذه المجالات كثيرة جداً. وأختتمُ هذا الاستعراض بنص رائع عن أمير المؤمنين (ع) فيما رواه الصادق، قال: (مَن وجد ماءً وتراباً ثم افتقر فابعده الله). أي إنّ من طبيعة الإنسان المسلم الذي يسير في طريق الكامل المطلق سبحانه أن يستثمر مواهب الطبيعة ويتفاعل معها. فالماء والتراب رمزان لهذه المواهب الطبيعية. ولا يمكن أن يتوفر (الماء) و (التراب) و (الإيمان) ثم يفتقر الإنسان. وإذا توفر العنصران الأولان ثم افتقر فلابد أن يكون الخلل في العنصر الثالث.
هذه النصوص أسهمت بدون شك على مر العصور في صياغة ذهن الإنسان المسلم، وجعلته يتعامل مع الطبيعة تعاملاً فاعلاً وفق معايير الإسلام، وكانت وراء ما شهدته الحضارة الإسلامية من ازدهار في عصورها الذهبية.
وإذ نحن في صدد استعراض النصوص لابد أن نشير إلى بعض الروايات التي تنظر إلى التعامل مع المادة والحياة نظرة سلبية، وتحث الإنسان المسلم على ترك حب الدنيا نظير قول الرسول (ص): (مَن أحب دنياه أضرّ بآخرته).
وعن الصادق (ع): (رأس كل خطيئة حب الدنيا).
وعن الصادق (ع) أيضاً: (أبعد ما يكون العبد من الله عزوجل إذا لم يهمه إلا بطنه وفرجه).
وعن أمير المؤمنين علي (ع): (إن من أعون الأخلاق على الدين الزهد في الدنيا).
هذه النصوص يمكن أن نفهمها في ضوء النصوص السابقة على أنّها دعوة للكف عن الشَرَه والتكالب والصراع في التعامل مع مواهب الطبيعة، ودعوة إلى التعامل مع المادة وفق أخلاقيات الإسلام الإنسانية، لا وفق ما تفرزه طبيعة هذا التعامل من استئثار وشح وحرص واكتناز. إنّها دعوة لأن يكون الإنسان ـ وهو يتعامل مع المادة ـ سيد هذا الكون، والمتحكم في المادة وفي مسير استثمارها.
2 ـ أسلوب استعراض التأريخ الإسلامي:
سجّل التأريخ الإسلامي، في قرونه الأولى ـ بشكل خاص ـ صوراً رائعة من تفاعل الإنسان المسلم مع مواهب الطبيعة، ففجر الأرض واستثمرها وساح فيها واكتشف معالمها، وتطلع إلى السماء وتعرّف على مواقع نجومها. وركّب المواد وشخّص خصائصها، وغار في داخل جسم الإنسان وفهم طبيعة فسلجة أعضائه، وتعرّف على دائه ودوائه، ومارس عمارة المدن والطرق والجسور والسدود فأبدع فيها، ولم يمض على عصر صدر الإسلام زمن طويل حتى شهد العالم الإسلامي حضارة يشهد على عظمتها علماء الغرب ويقفون أمامها وقفة احترام وإجلال.
ومن المستشرقين الذين ألّفوا في هذا المجال جورج سارطون في كتابه (الثقافة العربية في رعاية الشرق الأوسط)، وكتابه (تأريخ العلم القديم في العصر الذهبي)، وجويدي في كتابه (علم الشرق وتأريخ العمران)، والدويميلي في كتابه (العلم عند العرب)، وكارلو نلينو في كتابه (علم الفلك ـ تأريخه عند العرب في القرون الوسطى).
وممن كتب في هذا المجال أيضاً: قدري حافظ طوقان في كتبه: (العلوم عند العرب)، و(تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك) و(التفكير العلمي عند العرب)، و(أثر العرب في تقدم الفلك). وجرجي زيدان في كتابه (تأريخ التمدن الإسلامي)، ومحمد كرد علي في كتابه (الإسلام والحضارة الغربية)، وغيرهم كثير.
وهنا أودّ أن أقف عند ملاحظتين على هذا الأسلوب:
الأولى: أنّها ركزت ـ سواء من قبل المستشرقين أو من قبل أكثر العرب ـ على دور (العرب) في بناء الحضارة الإسلامية، لا (المسلمين)، وهذا التركيز لا أظنه عفوياً، كما لا أحسن الظن فيه، فأقول: إنّ المقصود بالعرب كل مَن تكلم العربية من المسلمين، فالنزعة القومية واضحة في هذه الأبحاث، وأعتقد أنّها جاءت ضمن الموجة التي خطط لها الغرب وسار ضمنها العالم الإسلامي في جعل الأطروحة القومية مكان الطرح الإسلامي، ومن ثم جعل الدويلات التي نشأت بعد اتفاقيات التقسيم تتغنى بأمجادها وتسكر على أنغام ذكريات ماضيها من دون أن تتقدم خطوة في مضمار الحضارة، ثم إنسلخ هذه الحضارة عن الإطار الإسلامي يبعد أذهان المسلمين عن الطاقة المحركة الهائلة التي أوجدت هذه الحضارة في الماضي ويمكن أن توجدها في المستقبل.
الثانية: إنّ الحديث عن أمجاد الماضي يجب أن يكون ضمن خطة شاملة تستهدف دفع المسيرة الإجتماعية نحوا لحركة، عندئذ سيكون مثل هذا الحديث قادراً على منح الفرد المتحرك ثقةً بنفسه وقدرةً على مواصلة الطريق من دون كلل أو ملل. أما إذا لم يكن ضمن هذه الخطة فإنّه يتحول إلى انتفاخ وَرَمي يبعد الأذهان عن التفكير في تخلف الواقع الراهن وعلاج هذا التخلف. وتحضرني هنا ملاحظة للمرحوم عباس محمود العقاد على الحروب الصليبية يذكر فيها أنّ الحروب الصليبية أضرت العالم الإسلامي من جهتين: الأولى: انّها أنهكت جسم العالم الإسلامي واستنزفت طاقاته وقواه المادية والبشرية، والثانية: إنّها بسبب ما حققته من انتصارات عسكرية أورثت الأمة الاسلامية إفراطاً في الثقة برجحانها وإفراطاً في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون، قامت أوروبا بعدها مقام القيادة وتخلف الشرق، وليس أخطر على الأمم من الاكتفاء بالذات، والاعتزاز بالرجحان في أمثال هذه الظروف.
والعبارة الأخيرة للعقاد صادقة في مجال التركيز على أمجاد الماضي، من دون أن ترافقه خطة نهوض وتحريك ودفع نحو الهدف المنشود.
3 ـ صياغة النظرية الإسلامية:
لكل مدرسة فكرية نظريتها الخاصة للتعامل مع الطبيعة، وهذه النظرية تشكل الأساس الذي يتحرك عليه الإنسان والمجموعة البشرية لبناء الحضارة.
وصاغ المفكرون الإسلاميون نظرية (الاستخلاف) لتعبر في جانب منها عن الإطار الإسلامي لتعامل الإنسان مع الطبيعة. (الإنسان بوجه عام مستخلف من الله في هذه الأرض لعمارتها واستثمار خيراتها، سلّطه الله عليها فأعطاه القدرة على تسخيرها وتسخير سائر الكون لمنافعه بما وهبه من الحواس والعقل وسائر الصفات الجسمية والعقلية التي تجعله أهلاً لذلك على تفاوت بين أبناء البشر).
الآيات الكريمة التي تستند إليها هذه النظرية كثيرة، منها:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...) (البقرة/30).
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ...) (الأنعام/165).
(...وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ...) (الحديد/7).
ووفق هذه النظرية يتحمل الإنسان المسلم مسؤولية القيام بأعباء الخلافة في الأرض، مسؤولية الخلق والإبداع والتصرف في قوانين الطبيعة واستخدامها بقدر ما وهبه الله من قدرة، ولا يمكن لإنسان يعيش هذا المفهوم أن يظل خاملاً متواكلاً غير متفاعل مع قوانين الكون والطبيعة، وغيرَ عامل على تسخيرها على طريق تحقيق مسؤوليات الخلافة.
يقول السيد الشهيد الصدر عن هذا المفهوم: (... ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأنّ الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يُستخلف عليه، ولا مسؤولية بدون حرية وشعور بالاختيار والتمكن من التحكم في الظروف. وإلا فأي استخلاف هذا إذا كان الإنسان مقيداً أو مسيّراً...)؟!
4 ـ مهاجمة الحضارة الغربية:
حين صحا العالم الإسلامي في العصر الحديث من سباته راح يفكر في سبيل لاستعادة وجوده، لكن تفكيره كان ممزوجاً بآثار النوم الطويل وبروح الهزيمة التي مُني بها على يد المستعمر. وما كانت هزيمة العالم الإسلامي اقتصادية وعسكرية فحسب، بل ونفسية أيضاً، ومن هنا راح ـ مدفوعاً بروح الهزيمة ـ يستجدي المناهج الغربية ليجد فيها البلسم لجراحه. وبذلك عمّق روح الهزيمة في حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وواجه الفشل الذريع في تطبيق الوصفات الغربية وخاصة في مجال التنمية الاقتصادية. وأمام هذا الانبهار بروح الغرب اتخذ بعض المفكرين الإسلاميين أسلوب مهاجمة الحضارة الغربية، وأرادوا بهجومهم هذا أن يخاطبوا الإنسان المسلم قائلين له: إنّ العالم بأجمعه يعيش اليوم حالة تخلف حضاري، لا العالم الإسلامي وحده. وهذا اللون من الخطاب يبعد عن المسلمين روح الإحساس بالهزيمة ويدفعهم نحو التأصيل الحضاري في عملية التنمية الاقتصادية.
يقول الشهيد سيد قطب: (إنّ مقياس الرقي الحضاري في نظر الإسلام هو حين يقوم (الإنسان) بالخلافة عن (الله) في أرضه على وجهها الصحيح: بأن يخلصَ عبوديته لله ويخلص من العبودية لغيره، وأن يحقق منهج الله وحده، ويرفض الاعتراف بشرعية منهج غيره، وأن يحكم شريعة الله وحدها في حياته وينكر تحكيم شريعة سواها، وأن يعيش بالقيم والأخلاق التي قررها الله له ويسقط القيم والأخلاق المدعاة، ثم بأن يتعرف بعد ذلك كله إلى النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون المادي، ويستخدمها في ترقية الحياة، وفي استنباط خامات الأرض وأرزاقها وأقواتها التي أودعها الله إياها، وعجل تلك النواميس أختامها، ومنح الإنسان القدرة على فضِّ هذه الأختام بالقدر الذي يلزمه له في الخلافة... أي حين ينهض بالخلافة في الأرض على عهد الله وشروطه، ويصبح يفجر ينابيع الرزق ويصنع المادة الخامة، ويقيم الصناعات المتنوعة، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات الفنية التي حصل عليها الإنسان في تأريخه كله... حين يصبح وهو يصنع هذا (ربانياً) يقوم بالخلافة عن الله ـ على هذا النحو ـ عبادة لله... يكون هذا الإنسان كامل الحضارة ويكون هذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة).
وهذا يعني أنّ الغرب اليوم متخلف حضارياً رغم تطوره الصناعي والاقتصادي.
ومن المفكرين مَن يرى أنّ الحضارة الغربية تعاني أزمة أخلاقية، وهذه الأزمة ناتجة عن افتقادها المقاييس الإنسانية في التوجه، ولذلك فهي غير قادرة على حل مشكلة البشرية.
يقول مالك بن نبي: (لا شك أنّ الآلات الحاسبة التي استخدمها الإنسان الحديث لتكون مقياس حضارته عجيبة رائعة، شريطة أن لا تندس حبة من الرمل بين أجزاء المحرك... إذ إنّ بعض حبات الرمل التي تسبب خطأ في الحساب قد تؤدي إلى ملايين القتلى وما لا حدّ له من الهدم والتخريب.. واحتكاك طفيف بين أجزاء الماكنة الحسابية كشف عن أزمة السرطان الأخلاقي الذي يلتهم الحضارة، ودلل بشكل لا يقبل الشك أنّ النهضة الفنية وحدها عاجزة برسومها ومعادلاتها عن حلّ المشكلة الإنسانية).
ونرى في كتب الإسلاميين استدلالات كثيرة على لسان المفكرين الأوروبيين أنفسهم بشأن أزمة الحضارة الغربية، كما فعل سيد قطب في كتابه: (المستقبل لهذا الدين)، حيث نقل كثيراً عن الدكتور الكسيس كاريل في كتابه (الإنسان ذلك المجهول) وعن دالس في كتابه (حرب أم سلام).
5 ـ محاولة استكشاف أسباب التخلف:
حين يعالج الباحثون الإسلاميون أسباب مشكلة التخلف الاقتصادي في العالم الإسلامي، يرفضون أن تكون قلة الثروات أو الإمكانات البشرية من هذه الأسباب، فأندنوسيا ـ على سبيل المثال ـ تملك من هذه الثروات ما لا تمتلكه اليابان، ولكن أين أندنوسيا من اليابان في مجال التنمية الاقتصادية؟!
ويجمع الباحثون الإسلاميون على أن سبب التخلف الاقتصادي في العالم الإسلامي وفشل خطط التنمية في البلاد الإسلامية يعود إلى غياب الإسلام عن ساحة الحياة في هذه البلاد. ولا يمكن للإنسان المسلم أن يسجل نجاحاً في حقل ممارسة نشاطات التنمية الاقتصادية إلا في ظل النظام الإسلامي، وفي ظل توجه حضاري إسلامي.
يقول الشهيد الصدر: (حين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولابد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتأريخها وتعقيداتها المختلفة).
ويقصد بالحقيقة المذكورة أعلاه: (إنّ حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ليست مجرد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب... ولا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف أن تؤدي دورها المطلوب إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها شرط أساسي لإنجاح أي تنمية اقتصادية وأي معركة شاملة ضد التخلف لأنّ حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية).
ثم يتحدث السيد الصدر عن الأخلاقية الماثلة في وجدان الأمة الإسلامية، ويرى أنّ هذه الأخلاقية (يمكن الاستفادة منها في المنهج الاقتصادي داخل العالم الإسلامي، ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية لكي تصبح قوة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينها من انسجام).
فسلبيات التنمية الاقتصادية تعود ـ إذن ـ إلى انفصال المناهج الاقتصادية المطبقة حديثاً في العالم الإسلامي عن المزيج الحضاري بكل ما فيه من عقيدة وتأريخ للأمة. وهذه الظواهر المشهودة من الزهد أو القناعة أو الكسل تعود إلى انفصال الأرض عن السماء. (أما إذا أُلبست الأرض إطار السماء، وأُعطي العملُ مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي).
ومن المفكرين مَن يرى أنّ (مسألة المسائل) التي تحول دون التقدم والتنمية في العالم الإسلامي هي السلطة السياسية. ويرى أنّ هذه السلطة السياسية تفرز سلوكيات خاصة تحول دون تحرك المجتمع نحو الهدف المنشود ونحو التضحية من أجل هذا الهدف.
وإنما تشكل السلطة السياسية عقبة في طريق حركة المجتمع بسبب الغربة بين السلطة والمجتمع، وهذه الغربة (تدفع النُخَب المسيطرة إلى السلوك إزاء المجتمع سلوك الخائف الباطش. إنها ترشو بعض الفئات التي تعتقد تأثيرها في مسألة بقائها في السلطة، وتستعين بها على المجتمع، وتعمل على نهب ثروات مجتمعاتها شأن مَن (يموت) أو (يرحل غداً). وبسبب هذه الغربة أيضاً (فإنّ الحاكمين في دار الإسلام يرتكبون أخطاء كثيرة في مجال فهم تأريخ مجتمعهم ورغباته وتطلعاته المستقبلية).
هذه السلطة تشكل ـ إذن ـ عقبة حضارية في المجتمع الإسلامي ولولاها لتحرك المجتمع الإسلامي نحو أهدافه المنشودة مدافعاً عن شخصيته وكرامته وعزته. يذكر رضوان السيد مثالين شاهدهما بنفسه عن موقفين من مواقف الشعب المصري تجاه التحديات الاقتصادية اتخذ منهما الشعب المصري المسلم نهجين متباينين: (الأول: عام 1965م ـ 1966م عندما شاع في الشارع المصري أنّ الولايات المتحدة قطعت هبات القمح عن البلاد. والثاني: عام 1977م عندما حدثت الاضطرابات الاجتماعية التي عُرفت بثورة الخبز. تلقت جماهير الشارع المصري مخاوف وإشاعات نقص الخبز والمجاعة في المناسب الأولى بغضب وحماس واستعداد للتضحية، وثارت وخربت في المناسبة الثانية لرفع غير كبير لأسعار المواد الغذائية).
ثم يعلل الكاتب سبب التمايز بين هذين الموقفين، فيقول: (كانت الجماهير في المناسبة الأولى مقتنعة (بحق أو بغير حق) أنّ الاجراءات الأمريكية موجهة ضدها هي، وضد جهود التنمية والمستقبل في البلاد. بينما اعتقدت في المناسبة الثانية أنّه ليس هناك مسوغ للتضحية مهما صغرت. (إنّ مجتمعاتنا التي لم تعتد الرفاه أو الدلال، مستعدة للتضحية بكل مرتخص وغال إذا اقتنعت أنّ ذلك يدفع العدو الخارجي، أو يؤمن المستقبل لأطفالها وأجيالها القادمة. لكن كيف نطلب إلى هذه الفئات الاجتماعية أن تضحي بالقليل والكثير من أجل لا شيء أو من أجل استقرار الحاكمين واستمرارهم فقط))؟!
ويرى الكاتب أنّ السلطة السياسية في العالم الإسلامي تحول دون اندماج الأمة باطارها الحضاري، ومن ثم تحول دون التحرك نحو المستقبل: (إنّ مجتمعاتنا الإسلامية هي مجتمعات تأريخية من الطراز الأول، فما تزال أمجاد الماضي ومسؤولياته العالمية تتنزى في أعماقها وتهبها قوة على البقاء وآمالاً عراضاً في المستقبل، وهذا إن اقتنعت أنّ السلطة سلطتها هي والمستقبل مستقبلها هي).
المثل الأعلى والتنمية الاقتصادية:
لاحظنا فيما سبق تأكيداً على ضرورة (الحركة)، حركة الأمة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية. وهذه الحركة هي أساس الحضارة. ويمكننا أن نقول من دون أن نخشى زللاً: إنّ الأمة المتحضرة هي الأمة المتحركة. وكل الحضارات نشأت على أثر حركة الأمم، ولذلك نشأت الحضارات الكبرى عقب الهجرات البشرية. وشاءت سنة الكون أن تكون اللبنة الأولى لإقامة الحضارة الإسلامية أرض المدينة المنورة، أرض الهجرة.
والإسلام إنما شيد حضارته الكبرى حينما حرر المجموعة المسلمة مما يكبلها ويقيدها ويصدها عن الحركة. وقال لها: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ...) (الحج/78)، (...فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) (النساء/71)، (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى...) (سبأ/46)، (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ...) (الأنعام/11)، (فَسِيحُوا فِي الأرْضِ...) (التوبة/2)، (...فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...) (البقرة/148)، (...قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...) (النساء/97)، (...وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ...) (البقرة/251).
هذا الدفع العظيم للحركة نحو (مثل أعلى) وضعه الإسلام نُصب أعين الجماعة المسلمة هو الذي خلق الحضارة الجديدة.
وهنا أرى من اللازم أن أستعرض بايجاز نظرية القرآن الكريم في حركة المجتمع ـ كما استنبطها الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) ـ وهي نظرية نشوء الحضارات بتعبير آخر، لنرى أنّ الأمة المسلمة هي الأمة المتحركة على طريق لا نهائي للتطور التكاملي، يكون فيها مجال التطور والإبداع والنمو قائماً أبداً ودائماً.
وفق هذه النظرية تنقسم المجتمعات البشرية إلى ثلاثة أصناف:
1 ـ صنف فقد الرؤية المستقبلية وأصبحت حياته تكرارية لا تقدم فيها ولا تطور ولا إبداع.
2 ـ مجتمع وضع نصب عينيه طموحاً مستقبلياً محدوداً.
3 ـ مجتمع اتجه على طريق تكاملي لا نهائي.
والاختلاف بين هذه المجتمعات يعود إلى (المثل الأعلى) الذي تتبناه، أو إلى (الإله) الذي تعبده بالتعبير القرآني.
المجتمع الأول: مثله الأعلى مستمد من واقع ما تعيشه الجماعة البشرية من ظروف وملابسات، ويتحول هذا الواقع من أمر محدود إلى هدف مطلق لا تتصور الجماعة شيئاً وراءه. وفي هذه الحالة تكون حركة التأريخ حركة تكرارية، ولا يكون المستقبل إلا تكراراً للواقع والماضي.
وتعود هذه الحالة في المجتمع إلى سببين:
الأول: سبب نفسي، هو الألفة والعادة والخمول والضياع. والقرآن الكريم يعرض صوراً كثيرة من وقوف هذه المجتمعات بوجه دعوات الأنبياء بسبب هذه الألفة والعادة والجمود على الواقع: (...قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ...) (البقرة/170)، (...أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (هود/62).
والسبب الثاني: يعود إلى التسلط الفرعوني. والفراعنة يجدون في كل تطلع مستقبلي زعزعة لوجودهم ومراكزهم، ولذلك يريدون أن يوجهوا كل الناس نحو عبادتهم، ويحصروا رؤية الناس في رؤيتهم. يقول سبحانه: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي...) (القصص/38)، (...قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر/29).
والنوع الثاني من المجتمعات: مثله الأعلى، أو إلهه مشتق من طموح الأمة ومن تطلعها نحو المستقبل وإلى الإبداع والتطوير، لكنه مثل أعلى محدود يحوله الإنسان إلى مطلق. ويستطيع هذا المثل الأعلى أن يحقق للمجتمع من النمو بقدر إمكاناته المستقبلية، لكنه سرعان ما يصل إلى حدوده القصوى ويستنفد أغراضه ويتحول إلى عائق للمسيرة.
ولقد رأينا في عمرنا القصير فشل كثير من هذه المثل العليا في الاستمرار بمسيرة المجتمع نحو كماله المنشود، بعد أن استطاعت تحقيق حركة اجتماعية محدودة على هذه المسيرة. فالحرية في العالم الغربي بعد أن حققت شوطاً في مضمار الإبداع والتطوير تحولت إلى مأساة بشرية تهدد العالم اليوم بخطر السحق والإبادة والدمار. والاشتراكية التي رفع الشرق شعارها استطاعت أنت حرك طموحات المستضعفين زمناً، لكنها كانت كبيت العنكبوت انهار بنفخة البيريسترويكا (...وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/41). ويعبر القرآن عن هذه المثل العليا بأنّها (...كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (النور/39).
والنوع الثالث: مثله الأعلى هو (الله) سبحانه وتعالى. والكائن المحدود في مثل هذا المجتمع يتحرك على طريق لا ينتهي. ومجال الإبداع والتطور التكاملي أمام الإنسان في مثل هذا المجتمع لا نهائي. والتغيير الذي يحدث في هذه الحركة كمي وكيفي لا مجال لذكره في هذا الاستعراض العاجل. والحركة الضخمة التي شهدتها فترة صدر الإسلام كانت بفضل انفجار الطاقات الخلاقة على طريق هذا المثل الأعلى. وكل ما شهده التأريخ الإسلامي من حضارة وازدهار علمي واقتصادي وتفاعل بين الإنسان المسلم والطبيعة إنما كان من آثار تلك الدفعة الهائلة التي تحرك بها المجتمع الإسلامي في عصوره الأولى. وهذا العطاء مستمر حتى يومنا هذا رغم ما أحاط بالأمة المسلمة من هزيمة نفسية وخمول وخمود وسيطرة فرعونية.
إنّ ظاهرة الثورة الإسلامية في ايران أحيطت بأحقاد المتفرعنين وإعلامهم. وهذه الأحقاد فوتت على العلماء والباحثين فرصة دراسة الجوانب الإيجابية من هذه الظاهرة الفريدة العجيبة. القضاء على طاغوت إيران المدعوم من كل القوى المتعملقة في العالم، والدفاع الطويل المرير عن الدولة الإسلامية أمام أحقاد عالمية متراكمة مجهزة بأحدث ألوان الإبادة أمر شاهدته عيون كل الباحثين والعلماء. ولكن قل أن وقف أحد منهم للتعمق في دراسة هذا الحادث العظيم. ما أداه الإسلام في إيران الثورة في حقل الهدم والبناء يشكل أنصع وثيقة على قدرة هذا الدين في دفع مسيرة التأريخ حينما يضع أمام المسيرة البشرية المثل الأعلى المطلق الحق سبحانه وتعالى.
وأنا واثق لو أنّ الله سبحانه قدر لهذه المسيرة أن تبقى مصونة من الانحراف الداخلي والغزو الخارجي فإنّها تستطيع أن تخلق بين الإنسان والطبيعة علاقات جديدة يكون فيها الإبداع والإنماء مقروناً بالخير والسعادة والسلام.
ـ تلخيص واستنتاج:
1 ـ إنّ مشكلة العالم الإسلامي في مجال التنمية الاقتصادية لا تعود إلى قلة الامكانات المادية والبشرية، بل تعود إلى عدم وجود الطاقة الحركية بين المسلمين.
2 ـ إن المسلمين يمتلكون بين ظهرانيهم طاقة كامنة تتمثل في الدين المبين، ويشهد التأريخ أنّ هذه الطاقة الكامنة لو تفجرت لخلقت أفضل وأروع ألوان التفاعل بين الإنسان والطبيعة.
3 ـ الإنماء الاقتصادي لا يتحقق إلا ضمن حركة حضارية تشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية.
4 ـ هذه الحركة الحضارية لا يمكن أن تتحقق إلا بشد الفرد والجماعة إلى مثل أعلى. وإذا انشدت المسيرة إلى المثل الأعلى الحق المطلق سبحانه، فإنّ مسيرتها ستكون مصونة من أي تلكؤ أو توقف أو عدوان.
5 ـ كل العوائق التي تحول دون اندماج الأمة بعقيدتها وإيمانها وعواطفها وتأريخها إنما تعمل على ابتعاد الأمة عن شخصيتها وذاتها وحركتها الحضارية، وبالتالي عن تحقيق الإنماء الاقتصادي في بلدانها.
6 ـ إنّ الصحوة التي تعم العالم الإسلامي اليوم تبشر بولادة حضارية إنسانية جديدة تحمل كل مقومات الإبداع والتطوير والتعامل الفاعل مع الطبيعة وتبتعد عما بليت به الحضارة المادية من صراع دموي وتكالب محموم وإبادة ودمار.
المصدر: مجلة الفكر الإسلامي/العددالخامس/1415 هجري