د. أحمد التويجري
◄مقدمة:
الاختلاف سنة من سنّن الله في الحياة، وسرّ من أسرار الوجود العظمى. وهو بجميع درجاته، بدءاً من التناقض والتضاد إلى التشابه والتماثل، ضرورة حياتية لا يمكن أن يتصوّر وجود بدونها. ولئن كان جزء غير يسير من النصوص وجزء آخر من مأثورات الأئمة على امتداد التاريخ الإسلامي قد أفاض في ذم الاختلاف فإنّ ذلك محمول على الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتناحر والذي لم يبنِ على علم واجتهاد.. فقد جاءت نصوص ومأثورات أخرى تضع مبادىء وأصولاً للاختلاف المحمود ترتقي به في كثير من الأحيان إلى درجة الوجوب العملي، والتجربة الإسلامية على المستويين المعرفي والواقعي تؤكد أنّ الاختلاف كان دعامة من دعائم الوجود الإسلامي على مر العصور. فقد تعدّدت المدارس الإسلامية في كلّ ضرب من ضروب الحياة وفي كلّ فرع من فروع المعرفة. وكان نتيجة ذلك كلّه الرصيد المشرق للحضارة الإسلامية الذي لم تعرف البشرية له مثلاً على الإطلاق.
ومن المثير للعجب أن توجد في أوساط المسلمين بين الحين والحين تيارات تنفر من الاختلاف وتضيق به وتعدّه بكلّ صوره رجزاً من عمل الشيطان، بل تتعدى ذلك فتسعى جاهدة للقضاء عليه وإزالته من الوجود، متأثرة بأمور كثيرة أهمها، في نظري، عدم أو قلة فهم النصوص المحذرة من الاختلاف، أو وضعها في غير مواضعها، أو الخلط بين ما هو مطلق وما هو نسبي من الحقيقة، وقد كانت هذه التيارت وما تزال من أخطر ما تواجهه الأُمّة الإسلامية لما تحمله أطروحاتها من دواعي الفتنة والتناحر ولما تجسّده ممارساتها من حجر على الفكر وكبت للحرّيات. وقد أحسن الدكتور يوسف القرضاوي في وصف فئة من هذه التيارات حين قال في كتابه، (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم): "ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أُناساً لا هَمّ لهم إلّا الجدل في كلّ شيء وليس لديهم أدنى استعداد لأن يعدلوا عن أي رأي من آرائهم، وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون، فهم على حقّ دائماً، وغيرهم على باطل أبداً. منهم مَن يجادل في كلمات أعطاها اصطلاحاً خاصّاً خالفه فيه غيره، ويريد أن يلزم الآخرين برأيه مع أنّ علماءنا قالوا: لا مشاحة في اصطلاح. ومنهم مَن يذم التعصب للمذاهب، وهو يقيم مذهباً جديداً، يقاتل الآخرين عليه! ومَن يُحرّم التقليد ويطلب من الناس أن يقلّدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلد بعض المعاصرين! ومَن يقيم معركة من أجل مسائل فرعية، وجزئية، اختلف السلف فيها وفي أمثالها، ولم تعكر لعلاقاتهم صفواً".
والمتأمّل في حال هذه الفئات يجد أن تأثّرها (وهو تأثّر غير شعوري) بالأعراف والتقاليد أكثر من تأثّرها بالأحكام الشرعية. وطالما عجبت لحماس كثير منهم وتشنجه في الإنكار على مخالفيه في مسائل مثل الموسيقى وغطاء وجه المرأة في حين لا يكترث باختلاف المسلمين في أركان الصلاة وواجبات الحج وبعض الأحكام الكبرى في الدِّين. والسبب الرئيسي، في نظري، لمثل هذه المواقف هو قلة الفقه بوجه عام، وقلة الفقه بما يمكر أن يطلق عليه "فقه الاختلاف" بوجه خاص ومن المحزن أن تكون هذه حال المسلمين، وموروثهم الفقهي زاخر بالمصنفات التي أفردت لقضايا الاختلاف وشرح أسبابه ودواعيه وتاريخهم في كثير من جوانبه هو في حقيقة الأمر ثمرة من ثمرات الاختلاف.
ولئن كان الفقه العام متيسراً للجميع، فإنّ فقه الاختلاف أمر دقيق يحتاج إلى عناية خاصّة، فعلى الرغم من كثرة المصنفات التي تطرقت إلى الاختلاف ومسائله فإنّ القليل القليل منها الذي قدم تأصيلاً له وبلور تصوّراً شاملاً للموقف منه، إذ اكتفت معظم المصنفات بذكر أسباب الاختلاف وسرد مسائله وبعض آدابه، دون تنظير فلسفي وتأصيل فقهي له.
إنّ فقه الاختلاف، في نظري، يتكوّن من ثلاثة جوانب رئيسة: الأوّل: جانب تصوّري عقدي يحرر الموقف الفكري والفلسفي للإسلام تجاه الاختلاف سواء من حيث تحليل الدواعي والأسباب، أم من حيث تقرير المقاصد والغايات. والثاني: جانب فقهي تشريعي يؤصل الضوابط والحدود للاختلاف ويرسي المبادىء والأصول العامّة له ويبيّن حقوق المختلفين وواجباتهم. والثالث: جانب أخلاقي يرسم المسار السلوكي للاختلاف ويحدد القيم والمثل التي يجب أن تحيط به.
وغني عن القول إنّ حاجة الأُمّة لهذا النوع من الفقه اليوم هي أعظم من أي وقت مضى، وهذه الدراسة محاولة متواضعة وجهد مقل للإسهام في هذا الجانب، وهي في حقيقة الأمر بداية تثير من القضايا أكثر مما تقدّم من الحلول، وتطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات.
الاختلاف العام:
لا يسع المتأمّل في النصوص القرآنية إلّا أن يدرك أنّ الاختلاف سنة من سنّن الوجود، وسرّ من أسرار الحياة. بل لا يسعه إلّا أن يدرك أنّه النتيجة الطبيعية لحرّية الاختيار التي منحها الله عزّوجلّ لكلّ إنسان وجعلها مرتكزاً للابتلاء في الحياة الدنيا. وقد عدَّ الله عزّوجلّ الاختلاف آية من آياته التي يُهتدى بها إليه فقال: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/ 22) وجعله في آية أخرى غاية من غايات الخلق: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (هود/ 118-119) وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله عزّوجلّ ولذلك خلقهم، فمنهم مَن ذهب إلى أنّ المقصود للاختلاف خلقهم وهو مُروى عن الحسن البصري. وقال مالك: خلقهم ليكونوا فريقين (فريق في الجنّة وفريق في السعير) وعلّق الفخر الرازي على الآية بتفصيل فقال: قال تعالى (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) وفيه ثلاثة أقوال: (القول الأوّل) قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه: الأوّل أنّ عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما. والثاني أنّه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذّبهم عليه، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقاً لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال: ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم، قلنا: إنّ تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً، فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله (رَحْمَةِ رَبِّي) (الإسراء/ 100)، وقوله (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56)، (والقول الثاني) أنّ المراد وللاختلاف خلقهم. (والقول الثالث) وهو المختار أنّه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف. روى أبو صالح عن ابن عباس أنّه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنّة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً (انتهى كلام الرازي).
والذي أراه ولم أجده عند أحد من المفسرين هو أنّ المقصود لتكون لهم حرّية الاختلاف والقدرة عليه.
ومهما تكن الحال فإنّ للإسلام تصوّراً شاملاً للاختلاف في مستواه الإنساني العام. وهو إن لم يحرر في دراسة مستقلة إلّا أنّ استجلاءه متيسر من خلال كلّيات الإسلام ومبادئه العامّة. ومن أهم الأصول التي يمكن أن يُبنى عليها التصوّر الإسلامي للاختلاف على المستوى الإنساني ما يلي:
1- أنّ الاختلاف سنة كونية من سنّن الله عزّوجلّ في الوجود، وسرّ من أسرار الحياة التي لا يمكن أن تتصوّر بدونها، كما لا يمكن تصوّر زوالها في الحياة الدنيا إلّا بمعجزة إلهية.
2- أنّ الاختلاف جزء من الابتلاء الإلهي للإنسان في الحياة الدنيا، سواء أكان ذلك من خلال ما أودعه الله في طبائع الناس من اختلاف القدرات والملكات وما منحهم من حرّية الاختيار، أم من خلال ما نتج عن ذلك من اختلاف الملل والنحل ومناهج النظر والاستدلال والمعارف والعلوم.
3- أنّ حقّ الاختلاف مكفول للناس أجمعين ما لم يصدر عنهم بغي بأي صورة من الصور. والأصل في ذلك حرّية الدِّين التي أقرها الله عزّوجلّ للناس أجمعين، والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصى في مثل هذه العجالة.
4- أنّ المعيار لاحترام الرأي المخالف هو التجرد من الأهواء وبذل الوسع في طلب الحقّ واجتناب البغي بكلّ صوره.
5- أنّ أمر من لم تبلغه الرسالة موكول إلى الله عزّوجلّ. وظنّنا أنّ الله لن يعذبه إذا كان متجرداً من الأهواء غير باغٍ وكان قد بذل وسعه في طلب الحقّ والأصل في هذا قول الله عزّوجلّ: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا) (الإسراء/ 15) وقد ذهب إلى هذا أبو محمّد ابن حزم في (الأصول والفروع) حيث قال بعد أن أورد هذه الآية وقوله تعالى: (لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (الأنعام/ 19)، قال: "فنصّ الله على أنّ النذارة إنما تلزم من بلغته وأنّه عالي لا يعذّب أحد إلّا بعد إرسال الرُّسل، فصح بهذا أنّ مَن لم تبلغه الدعوة إمّا لانقزاح مكانه، وإمّا لقصر مدته إثر مبعث النبيّ (ص)، فإنّه لا عذاب عليه ولا يلزمه شيء، وهذا قول جمهور أصحابنا.
6- أنّ كلّ رأي غير إسلامي منافٍ لما نعتقد هو ابتلاء من الله عزّوجلّ لصاحبه أوّلاً، وللناس، ونحن منهم، ثانياً وواجبنا تجاه صاحب هذا الرأي أن نبذل الوسع لتبيان الحقّ له بأحسن السُّبل التي نستطيعها.
7- أنّ نظرتنا إلى مخالفينا في أمور الدِّين هي نظرة إشفاق ورغبة صادقة في هدايتهم إلى الحقّ والخير، وهي نظرة نابعة من الشعور بالأخوة الإنسانية والمسؤولية الرسالية.
8- أنّنا مأمورون شرعاً ببذل الوسع لإبلاغ الناس ما نعتقد أنّه الحقّ، والواجب أن يكون إبلاغنا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والأصل في هذا قول الله عزّوجلّ: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وقوله عزّوجلّ: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).
هذه جملة من الأصول الفكرية العامّة التي يجب أن تحكم اختلافنا مع غيرنا من غير المسلمين، ولا شك أنّ هناك أصولاً كثيرة غيرها، ولكن القصد هنا هو تبيان الخطوط العامّة والمعالم الكبرى.
اختلاف المسلمين فيما بينهم:
اختلط على كثير من المسلمين موضوع الاختلاف فلم يفرّقوا بين الاختلاف الذي نهت عنه النصوص، والاختلاف الذي لا مندوحة عنه والذي هو ضرورة بل رحمة في هذا الوجود، وقد نشأ هذا الخلط في نظري نتيجة لخلط آخر بين الرأي الناتج عن الهوى أو الذي لا يستند إلى دليل أو برهان، والرأي الناتج عن اجتهاد منضبط بالأصول الشرعية للاجتهاد. ومعلوم أنّ الإسلام وإن كان قد نهى عن الاختلاف الأوّل وغلظ القول في الزجر عنه، بل عدّه عملاً من أعمال الكفر، فإنّه نهى عن التقليد وحذّر منه وعدّه عملاً من أعمال الكفر أيضاً في بعض الأحيان وأوجب في المقابل الاجتهاد وجعله فرضا كفائياً وعينياً حسب الأهلية والقدرة.
وقد كان التطبيق العملي في حياة المسلمين دليلاً أبلغ على موقف الأُمّة من الاختلاف. فقد أجمعت جماهير المسلمين على مر العصور على قبول تعدّد آراء الأئمة المجتهدين، فتعدّدت مدارس المفسرين والمحدثين والأصوليين والفقهاء، بل تعدّدت مدارس النُّحاة والأدباء والمؤرخين وغيرهم. غير أنّ ذلك لم يمنع عدداً من المسلمين من الانزلاق في مزالق عدم التفريق بين الاختلاف المذموم والاختلاف المحمود، فأنكروا على مخالفيهم وتمادى بعضهم في ذلك ففسق قوماً وكفر آخرين ومن المؤسف أنّ عدداً من كبار الأئمة الذين أبدعوا في التنظير للاختلاف وتأصيله، وقعوا هم أنفسهم، عند التطبيق، فيما يخالف أصولهم. فهذا ابن حزم على الرغم من تأصيله الرائع لمسائل الاجتهاد في كتابه (الأحكام في أصول الأحكام)، وتأكيده المتكرر على وجوب الاجتهاد وذم التقليد وعلى عذر المجتهد المخطىء وكونه مأجوراً، بإذن الله، بنص الحديث، فإنّه قلماً التزم بهذا الأصل مع من خالفه الرأي من المجتهدين، بل كثيراً ما شنع عليهم وقسا في نقدهم وتجريحهم. وإذا كان هذا حال الأئمة الكبار فمن باب أولى أن يقع في هذه المزالق مَن هم دونهم، على أنّ هذه الحقيقة المُرة يجب أن لا تكون مبرراً للخطأ وإنما حافزاً للعمل على تجنّبه.
وإذا التزمنا بما ذكرناه في بداية هذا البحث من مكونات فقه الاختلاف، فإنّ أوّل ما تجب العناية به في فقه الاختلاف على المستوى الإسلامي، هو بلورة تصوّر فكري لاختلاف المسلمين فيما بينهم. وأهم الأصول العامّة التي يجب أن تُراعى في ذلك هي ما يلي:
1- أنّ الاختلاف كما كان سنة ماضية في الخلق وناموساً من نواميس الوجود، فهو كذلك ماضٍ في المسلمين في معظم شؤون حياتهم.
2- أنّ الاختلاف نوعان: نوع مذموم وهو ما كان نتيجة للهوى والقول بغير علم، أو ما كان متضمناً بغياً بأي صورة من الصور. ونوع محمود وهو ما كان نتيجة للاجتهاد المنضبط بجميع مستوياته.
3- أنّ من القضايا ما لا يجوز الاختلاف فيه، ومنها غير ذلك. وما لا يجوز الاختلاف فيه هو جملة الأمور القطيعة الثبوت القطيعة الدلالة وكلّ معلوم من الدِّين بالضرورة مما لا يحتمل إلّا رأياً واحداً. أمّا ما سوى ذلك فهو محل اجتهاد ونظر واختلاف، واختلاف الآراء فيه سائغ. وقد أوسع الشافعي هذه المسألة بحثاً في الرسالة. ومما قاله في ذلك: قال: "فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم، فهل يسعهم ذلك؟ قال قلت: فقلت له الاختلاف من وجهين: أحدهما محرم، ولا أقول ذلك في الآخر. قال: فما الاختلاف المحرم؟ قلت: كلّ ما أقام الله به الحُجة في كتابه أو على لسان نبيّه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه. وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويُدرك قياساً، فذهب المتأول أو القياس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالف غيره لم أقل إنّه يضيق عليه ضيق الخلاف في المنصوص. قال فهل في هذا حُجة تبيّن فرقك بين الاختلافين؟ قلت: قال الله في ذم التفرّق: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (البينة/ 4)، وقال جلّ ثناؤه: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (البقرة/ 213)، فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات. فأمّا ما كلّفوا فيه الاجتهاد فقد مثلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها. قال فمثّل لي بعض ما افترق عليه مَن روى قوله من السلف، مما لله فيه نص حكم يحتمل التأويل، فهل يوجد على الصواب فيه دلالة؟ قلت: قل ما اختلفوا فيه إلّا وجدنا فيه عندنا دلالة من كتاب الله وسنة رسوله، أو قياساً عليهما، أو على واحد منهما".
4- أنّ الاجتهاد في طلب الحقّ فرض على جميع المسلمين كلّ حسب استطاعته وهو بالنسبة لأصحاب الأهلية الفقهية إمّا أن يكون اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً ترجيحياً أو اجتهاداً جزئياً. وبالنسبة لغير أصحاب الأهلية الفقهية يكون اجتهاداً في اختيار الفقيه المقلد. ولابدّ هنا من التفريق بين مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد فليست كلّ مسائل الخلاف من مسائل الاجتهاد، بل كثير من مسائل الاختلاف إنما نشأت على غير دليل إمّا لهوى أو لقلة علم.
5- أنّ المجتهد إذا تجرّد وبذل وسعه في طلب الحقّ فإنّه مبرىء لذمته مأجور على اجتهاده، له أجران إن أصاب وله أجر إن أخطأ. والأصل في ذلك قول الرسول (ص): "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وقد علّق ابن حجر (رحمه الله) على هذا الحديث في فتح الباري فقال: "قوله (أي البخاري) (باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ) يشير إلى أنّه لا يلزم من رد فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر فإن أصاب ضوعف أجره. وهذا هو ما ذهبت إليه جماهير الفقهاء على مر العصور" ولابدّ من التنبيه هنا إلى أنّ الخطأ المشار إليه هنا هو الخطأ في الوصول إلى الحقّ. أمّا من حيث الاجتهاد فإنّ المجتهد مصيب باجتهاده في الحالين سواء وفق إلى الحقّ أم لم يوفق.
6- أنّ التجرّد وبذل الوسع في طلب الحقّ لا يؤديان بالضرورة إلى معرفة الحقّ دائماً، فقد يتجرّد الإنسان ويبذل وسعه ولا يوفقه الله إلى الحقّ لحكمة يراها.
7- أنّ الحقيقة المطلقة هي من علم الله عزّوجلّ وحده. وما نقطع به منها هو ما جاء به الوحي القطعي الثبوت القطعي الدلالة. وما سوى ذلك فليس مبنياً إلّا على غلبة الظن ورجحان الدليل.
8- أنّ اختلاف المسلمين فيما يسوغ الاختلاف فيه هو في جانب ابتلاء لهم، وفي جانب آخر رحمة لهم، وهو ابتلاء لما يشكله من تحدٍّ معرفي ومعاشي، وهو رحمة من حيث عدم المؤاخذة على الخطأ فيه ولما فيه من توسيع عليهم.
9- أنّ أهلية الاجتهاد قد تكون مطلقة، وقد تكون للترجيح بين المذاهب، وقد تكون في المذهب الواحد أو المسألة الواحدة. ومن المؤسف أنّ التصوّر الإسلامي للاجتهاد لدى كثير من المسلمين المتأخرين قد تشوّه حتى أصبح لا يرى من الاجتهاد إلّا الاجتهاد المطلق، وأصبح لذلك كلّ اجتهاد صادر عن غير مجتهد مطلق اجتهاداً مرفوضاً غير معترف به، بل انحرافاً يجب محاربته.
هذا في الجانب الفكري التصوّري، أمّا في الجانب الفقهي التشريعي وهو المتعلّق بما يجب على المسلم تجاه أخيه المسلم في مسائل الاختلاف، فإنّ أهم ما يجب أن يُراعى هو المسائل التالية:
1- أنّ الاجتهاد في طلب الحقّ فرض عين على كلّ مسلم حسب الاستطاعة وفي نطاق الأهلية الاجتهادية بمعناها الواسع.
2- أنّ المجتهد ملزم بما أداه إليه اجتهاده وإن كان مخالفاً لكثيرين غيره. فإن كان مجتهداً مطلقاً فلا يجوز له التقليد بأي حال من الأحوال وإلزامه بمقتضى اجتهاده أشد من غيره. وإن كان مرجحاً فهو ملزم بترجيحه، وإن كان مقلداً فهو ملزم بفتوى مَن يقلد. قال الشاطبي في الموافقات: "فأمّا المجتهد الناظر لنفسه فما أداه إليه اجتهاده فهو الحكم في حقّه" وقال ابن حزن في الإحكام: "فإذا قام البرهان عند المرء على صحّة قول ما - قياماً - فحقّه التدين به، والفتوى به، والعمل به، والدعاء إليه، والقطع أنّه الحقّ عند الله عزّوجلّ" ولا يُستثنى من ذلك إلّا الحالات التي يرى الحاكم المسلم فيها حمل الأُمّة على أحد الآراء في مسألة من المسائل لمصلحة عامّة. فعندئذ يسقط عنه الإلزام خاصّة إذا كان الأمر متعلقاً بعبادة جماعية أو معاملة عامّة.
3- لا يجوز الإنكار ولا التشنيع على المخالف فيما يجوز الاختلاف فيه مهما كان واضحاً للآخرين خطأ المخالف، ذلك أنّ الخطأ في الاجتهاد لا يستدعي المفارقة ولا التفسيق ولا التكفير مهما كان ذلك الخطأ، لعموم النصوص الواردة في ذلك، ومنها قول الله عزّوجلّ: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (الأحزاب/ 5)، وقول الرسول (ص): "رفعَ عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". قال ابن حزم: "فمَن حكم بقول ولم يعرف أنّه خطأ، وهو عند الله تعالى خطأ، فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنّه خطأ، فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى. وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون، فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به، مما هم مخطؤون فيه، وصح أنّ الجناح إنما هو على مَن تعمد بقلبه الفتوى أو التدين أو الحكم أو العمل بما يدري أنّه ليس حقّاً، أو بما لم يقده إليه دليل أصلاً".
4- أنّ الحكم على المسلمين هو على ظواهرهم فقط، أمّا النيات فعلمها عند الله عزّوجلّ وهو الوحيد المطلع عليها. وليس من واجب المسلم ولا من حقّه أن يسعى لاستكشافها.
5- الاختلاف المعتبر له أسباب كثيرة ذكرها عدد من الأئمة في مصنفات مستقلة أو ضمن مصنفاتهم الأصولية. ومن جوهر فقه الاختلاف الدراية بهذه الأسباب.
6- من أخطر وأهم ما واجهه المسلمون على امتداد تاريخهم الطويل ظاهرة التكفير الذي هو آخر مرحلة من مراحل الاختلاف بين المسلمين. وقد انزلق كثير من المسلمين في هذا المنزلق الخطير على الرغم من تعظيم الرسول (ص) لأمره وتحذيرهم منه في حقّ المسلم، وعلى الرغم من تأكيدات العلماء على خطورته وحثّهم على عدم التسرع فيه. ولا يزال الفقه الإسلامي في نظري مقصراً في تحرير هذه المسألة سواء من حيث تحديد ما يكفر به المسلم، أم من حيث تحديد ضوابط التكفير ومعاييره، ولئن كان كثير من العلماء قد فرّقوا بين إطلاق الكفر على القول أو الفعل وبين تكفير صاحبه، وذهبوا إلى أنّ الجزم بالأوّل لا يؤدي بالضرورة إلى الجزم بالثاني، فإنّ المسألة لا تزال في كثير من الأحيان عائمة غير منضبطة.
والذي يهمنا في هذا المجال تبيان أمرين: الأوّل: أنّ المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أمر كفري وهو لا يعلم أنّه كفر، فإنّه لا يكفر بذلك، وإنما يعد من الخطأ الذي لا يؤاخذ عليه بنص الشرع. والثاني: أنّ جماهير العلماء متفقة على عدم تكفير أحد من أهل القبلة بذنب أو خطأ.
أخيراً إنّ من فقه الاختلاف معرفة الآداب الإسلامية الواجبة في الحوار والجدل بين المسلمين فيما بينهم وبين المسلمين وغيرهم. فهي من مكارم الأخلاق التي بعث النبيّ (ص) ليتممها. وليس من المبالغة القول إنّ جزءاً كبيراً من اختلاف المسلمين وفرقتهم إنما نشأ بسبب عدم أو قلة التزامهم بأدب الحوار والجدل. وإنّ مستقبل المسلمين، في نظري، مرهون إلى درجة كبيرة بمدى قدرتهم على إدارة خلافاتهم بالأسلوب الذي يرتضيه ويقرره الإسلام وعلى الأُسس الشرعية المعتبرة. ولن يتحقق ذلك بنشر فقه الاختلاف فقط في أوساطهم والتواصي فيما بينهم بالالتزام به.►
المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 60 يوليو لسنة 1991م