الشيخ محمّد مهدي الآصفي
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ...) (النساء/ 34).
من أهم ما يواجهنا في هذا من البحث مسألة (القوامة).. وقد جعل القرآن الكريم الرجل قيماً على الأسرة عامة، يتولى شؤونها ويرعاها:
(الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)
وقد أثير حول هذه المسألة كثير من الجدل والتشكيك.
والمسألة كما اعتقد أبسط مما يتصور وليست بهذه المثابة من التعقيد الذي يتعرض لها الباحثون ويتلقاها الناس.
فالأسرة كأي وحدة اجتماعية أخرى مؤسسة اجتماعية لابدّ لها ممن يقوم بشؤونها ويتولى مهام الرئاسة فيها، فما لم تتوفر في محيط الأسرة الإدارة الحازمة لا تنتظم شؤون الأسرة والقوامة لا تتم بدون عنصر الحزم والقوة.
وتكوين المرأة النفسي والفسلجي لا يهيئها لمثل هذه المهمة داخل إطار الأسرة.
والقوامة لا تعني إدارة البيت. فالإدارة شركة بين الرجل والمرأة في محيط الأسرة وربما بين الزوجين والأبناء.. يتحمل كلّ فرد منهم جزءاً من أعبائها والأمر شورى بينهم، وتتدخل الرغبات المعقولة لكلِّ أولئك في تدبير البيت، ولكن شيئاً من ذلك لا يغني عن كلمة الفصل في الإدارة عند الاختلاف داخل البيت.. والكلمة هذه للرجل وحده بعد التشاور والمفاهمة والمطاوعة.
وتكوين الرجل وطبيعة حياته تؤهله لهذه المكانة، فلابدّ أن يتوفر لهذه الكلمة في البيت عند الاختلاف شيء كثير من التدبير يضمن سلامة الأسرة، وشيء كثير من القوة يضمن تنفيذ الكلمة، ولا تملك المرأة ما يملك الرجل في مثل هذه الموقف من حزم وتدبير، والخلاصة انّ الإسلام لكي يكون أمر البيت شورى بين الزوجين، بل يدعو الرجل إلى أن يعطي للمرأة حقوقها في إدارة البيت، وأن يحترم شعورها مطالبها وآراءها.
وفي هذا الجزء من نظام الأسرة يجعل الإسلام إدارة البيت شركة بين الرجل والمرأة.
أما حينما ينشب الخلاف داخل الأسرة فلمن تعود الكلمة الأخيرة؟ هل تعود للمرأة أو الرجل، أو لكليهما معاً؟
ولا يخرج الأمر من فروض ثلاثة:
فأما أن تعود القوامة إلى المرأة وحدها، أو إلى الرجل والمرأة معاً، أو إلى الرجل وحده؟
ولا أعتقد انّ هناك من يؤمن بسلامة الفرض الأوّل فلا تصلح المرأة أن تستقل بشؤون القوامة داخل البيت وما تستلزم من قوة وحزم وتدبير.
وفي الفرض الثاني ينقلب البيت إلى جحيم لا يطاق من الخلافات المحمومة التي لا تنتهي إلى حد بين الرجل والمرأة.
والفرض الثالث هو الفرض المعقول الذي يصح أن يبنى عليه أساس الحياة العائلية الذي يعتمده القرآن أساساً للحياة الزوجية.
2- اشتغال المرأة:
متى أثيرت هذه المسألة:
أثيرت هذه المسألة في أوربا حينما ترك الرجل الأوربي بداية عصر النهضة الصناعية البيت، وهجر الحقل إلى مراكز الصناعة المزدحمة بالعمال، وألقى بنفسه من محيط الريف الهادئ إلى هذا المحيط الجديد الصاخب والمزدحم، وترك من ورائه بيته وزوجه، وانصهر الرجل الأوربي في هذه الحياة الجديدة الصاخبة، ونسي علاقاته في القرية بالأرض وبالبيت وبالزوجة وبكلِّ شيء وأخذ يتقلب في وجوه الحياة الجديدة في المدينة.
لم يكن هذا التطور الجديد من الحياة في أوربا انتقالاً من دور إلى دور، وتحوّلاً من إطار إلى إطار حضاري آخر فحسب وإنما كان انقلاباً اجتماعياً عامّاً شمل مختلف وجوه الحياة الجديدة في المدينة.
لم يكن هذا التطور الجديد من الحياة في أوربا انتقالاً من دور إلى دور وتحوّلاً من إطار حضاري إلى إطار حضاري آخر فحسب، وإنما كان انقلاباً اجتماعياً عاماً شمل مختلف وجوه الحياة، واكتسح الرجال من الأرياف والقرى ومن تلك الحياة الهادئة التي كانوا يمارسونها في الريف إلى زحمة هذه الحياة الجديدة.
ولا يقتصر أثر التقلبات الحضارية عادة على جزء من أجزاء الحياة الاجتماعية من دون أن يصحبها تغير كلي في وجوه الحياة المختلفة واضطراب في القيم والتعاريف الاجتماعية، وتبلبل في الذهنية، وفوضى في التفكير والسلوك.
وقد حصل في أوربا فعلاً ما يشبه هذه الفوضى والاضطراب في الحياة الاجتماعية عامة. فوجدت المرأة الأوربية نفسها وحيدة في محيط الريف ليس هناك من يعولها ويهتم بها، فقد اكتسحت الماكنة شباب الريف ولم يبق هناك غير الشيوخ والكبار من الرجال الذين منعهم الهرم والعجز عن الالتحاق بركب الشباب فوجدت المرأة نفسها مضطرة وهي تعاني الوحدة والفقر أن تهجر القرية بدورها وتحشر نفسها في هذا المحيط الجديد الذي كان يسحر الشباب.. وأن تقتحم على الرجال أبواب المعامل وتزاحمهم على العمل وتشق لنفسها طريقاً إلى الخبز في زحمة هذه الكتل البشرية التي اكتسحت المدن من كلّ جانب، وانجرفت المرأة بقوة مع التيار، واكتسحتها الموجة، وراقها أول الأمر أن تجد نفسها حرة طليقة لا يقيدها بيت ولا يحدها زوج، ولكن سرعان ما أدركت انها لم تخلق لهذا اللون من الحياة وأن تكوينها النفسي والعضلي لا يتلائم مع هذا المحيط الجديد الذي حشرت فيه نفسها حشرا، ولكن الموجة كانت أقوى منها، فلم تعد تستطيع أن تعود إلى البيت مرة أخرى.
وبمن تعود إلى البيت؟ تلك إجمالاً صورة عن قصة المرأة في الغرب.
إنّ المرأة لم تدخل معترك الحياة في الغرب ولم تهجر البيت وما كانت تنعم به فيها من الراحة والاطمئنان باختيار منها، وانما اضطرت إلى ذلك وانجرفت إلى هذا المحيط الجديد ولا تكاد تطاوعها قدماها، ولم تمر المرأة عندنا على مثل هذا الدور ولم تعان شيئاً من المأساة الاجتماعية التي عانت منها المرأة في الغرب، ولم يهجر الرجل البيت ولم يتخل عن زوجته وأطفاله ولم تجد المرأة نفسها وحيدة في البيت قد تخلى عنها زوجها، فلا تجد المرأة عندنا المبررات التي وجدتها المرأة في الغرب للتخلي عن أداءها واجبات الأمومة والزوجية في البيت.
المصدر: مجلة الرياحين/ العدد 70 لسنة 1433هـ