إن هداية الناس إلى طريق الحق، وإيصالهم إلى الهدف والغاية، التي خلقهم الله لأجلها، متوقف على إرسال الأنبياء لهم، وبدون ذلك يبقى الإنسان قاصرا عن بلوغ الغاية، وهذا لا كلام فيه ولا إشكال.
إنما وقع الخلاف بين المسلمين في وجوب بعثة الأنبياء وعدمه، فاختار العدلية وجوبه، بينما ذهب الأشاعرة إلى حسنه وعدم وجوبه عليه تعالى، دون أن يتمكنوا من إنكار حسنه، لقولهم بأن الحسن والقبح ليسا عقليين، وجوزوا، تبعا لذلك، أن يترك الله تعالى عباده بدون هداية.
واستدل العدلية على وجوب البعثة بقاعدة اللطف، وعرفه القوشجي، بقوله: (اللطف ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدي إلى الإلجاء)[1].
وحاصل الدليل أن الغرض من خلق الإنسان ثابت، إذ أن فعله تعالى منزه عن العبث واللغو، وقد بين هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين، لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين﴾[2].
وقوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾[3].
وفـي مـا يتعلق بخلق الإنسان، وإنه تعالى خلقه لهدف، ولم يخلقه عبثا، قال تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾[4].
إلا أن تحقق الغرض ونفي العبث عنه تعالى، متوقف على اللطف بعباده وهدايتهم.
فاللطف واجب عليه تعالى، وإلا نقض غرضه.
ولما كان اللطف بالعباد، إنما يحصل بواسطة إرسال الأنبياء، الذين يدلّون الناس على الطريق الصحيح، في نظم حياتهم الاجتماعية، والسياسية، والتربوية، والاقتصادية، وتوجيههم نحو العبادة الحقة له تعالى، ليقربهم منه، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: ﴿وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عزيز حكيم﴾[5].
وقد بين الإمام الصادق (عليه السلام) الحكمة من بعثة الرسل، وقد سأله رجل فقال: (لأي شيء بعث الله الأنبياء والرسل إلى الناس؟ فقال (عليه السلام): لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، ولتكون حجة الله عليهم)[6].
ولولا ذلك لأدى إلى نقض الغرض، الذي خلق الإنسان لأجله، كان إرسال الأنبياء واجبا عقلا، ومما يدل على وجوب اللطف عليه تعالى، وأنه عقلي خلافا لما زعمه الأشاعرة، وأنه لا بد من أن يقطع الحجة على الناس، قوله تعالى: ﴿ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى﴾[7].
وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه سأله زنديق فقال له: (من أين أثبت أنبياء ورسلا؟) فقال (عليه السلام): إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما، لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، ولا يباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، فثبت أن له سفراء في خلقه يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم، وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن له معبرين وهم الأنبياء)[8].
وعن الإمام الرضا (عليه السلام)، مبينا الحكمة في وجوب معرفة النبي وطاعته، فإن قال: فلم وجب عليهم معرفة الرسل، والإقرار بهم، والإذعان لهم بالطاعة؟ قيل: لأنه لما لم يكن في خلقتهم وقواهم ما يكملوا لمصالحهم، وكان الصانع متعاليا عن أن يرى، وكان ضعفهم وعجزهم عن إدراكه ظاهرا، لم يكن بد من رسول بينه وبينهم، معصوم، يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم، ودفع مضارهم، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه، منافعهم ومضارهم، فلو لم يجب عليهم معرفته وطاعته، لم يكن لهم في مجيء الرسول منفعة ولا سد حاجة، ولكان يكون إتيانه عبثا لغير منفعة وصلاح، وليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شيء)[9].
أدلة منكري الوجوب:
وقد استدل منكرو وجوب بعثة الأنبياء على مدعاهم بعدة أدلة، أهمها دليلان:
الدليل الأول:
إن ما يأتي به النبي لا يخلو أمره من أن يكون موافقا لأحكام العقل أو مخالفا لها.
والأول لا فائدة فيه، لأن المفروض أن العقل مدرك له، فهو في غنى عن إرسال النبي.
وأما الثاني فيجب رفضه وعدم القبول به، لأن قبول ما كان مخالفا لأحكام العقل خروج عن حد الإنسانية.
وجوابه: قد ظهر مما تقدم أن العقل قاصر عن إدراك جميع الحقائق الإنسانية والتكوينية، سواء منها ما يرتبط بمصالحه ومفاسده، أو ما يرتبط بسعادته وكمال إنسانيته.
فالاعتماد على العقل وحده في إدراك جميع ما يرتبط بالإنسان لا يؤدي إلى نتيجة، ما لم يتأيد ذلك بالوحي، وبيان التفاصيل المرتبطة بمعاشه ومعاده.
وهذا يعني أن ما ورد في الدليل غير حاصر، فجواز عدم البعثة نقض للغرض، والحكيم منزه عنه.
الدليل الثاني:
إن الالتزام بلزوم البعثة يعني إلزام الناس بإتباع شخص منهم والرجوع إليه، وهو أمر قبيح لدى العقلاء، خصوصا إذا أوصلت هذه التبعية إلى التسليم بكل ما يقوله النبي ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليم﴾[10].
ومما يدل على استقباحه لدى العقلاء، ما ورد في كثير من الآيات القرآنية الشريفة الناهية، على لسان المشركين، عن إتباع شخص مثلهم، وهو كاشف عن عدم مقبولية هذا المعنى لدى عقلاء الناس، من قبيل قوله تعالى: ﴿وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشرا إنكم إذا لخاسرون﴾[11]، وأمثالها كثير.
وجوابه ظاهر، فإن بين منطق الكفار من حيث هم كفار، لا يجب أن يكون متوافقا مع أحكامهم بما هم عقلاء، إن لم نقل بمنافاته له، فالزعم المتقدم ليس ناشئا عن عقلائيتهم، بل من كفرهم، ولهذا جاء جواب الرسل في مختلف الآيات التي ذكرت قولهم، مفندا لزعمهم، ومبينا لخصوصية النبوة، التي لا بد منها، في تصحيح مسار الإنسانية، بحيث لو رجعوا إلى أنفسهم لأدركوا خطأهم في زعمهم هذا.
قال تعالى: ﴿قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي﴾[12].
وقال تعالى: ﴿قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله﴾[13].
وفي مقام تفنيد زعمهم بأن كون الرسول بشرا مخالف لمنطق العقلاء، قال تعالى: ﴿وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون﴾[14].
وحاصله أن الرسول لا بد وأن يكون من صنف البشر، ليتمكن من التعامل معهم من هذه الجهة، وليكون قدوة وأسوة لهم، يمكنهم من أن يعملوا مثل ما يعمل، ولو كان من سنخ موجودات أخرى لكانت حجتهم قوية في مقابله، حيث يمكنهم الزعم بأن ما يقوم به خارج عن قدرتهم من حيث هم بشر، وأن منشأ قدرته على فعله هو طبيعته الخاصة التي لم تتحقق فيهم.
العقيدة في القرآن، سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] شرح التجريد، ص352
[2] سورة الأنبياء، آية:16-17
[3] سورة الدخان، آية: 38-39
[4] سورة المؤمنون، آية: 115
[5] سورة الشورى، آية:51
[6] بحار الأنوار، ج11، ص39
[7] سورة طه، آية: 134
[8] بحار الأنوار، ج11، ص29-30
[9] نفس المصدر السابق، ص40
[10] سورة
[11] سورة المؤمنون، آية:33-34
[12] سورة فصلت آية:6.
[13] سورة إبراهيم، آية:11
[14] سورة الأنعام، آية:8-