علي القطبي
◄(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 256). من الآراء التفسيرية التي أرى من النافع والمفيد طرحها في هذا الموضوع آراء المفسّر والمفكّر الإسلامي الكبير السيِّد محمّد حسين فضل الله (رحمه الله)، فلفضل الله آراء ونظرات في مثل هذه المواضيع تساهم في إغناء البحث وتنوّعه لما له من نظرات واسعة ومتعدّدة في أكثر من مجال من مجالات الدِّين والحياة، وإن كان هناك من خلاف مع السيِّد فضل الله في مجالات أُخرى إلّا أنّ ذلك لا يمنعنا من الاستفادة من علمه الكثير وفكره الواسع، وكذلك أيضاً مناقشته ومباحثته فيما نرى أنفُسنا مختلفين معه حتى وإن كان هذا الخلاف يكون حاداً أحياناً .
يبحث فضل الله هذه الآية الكريمة في تفسيره المعنون (من وحي القرآن) بحثاً تفصيلاً متشعباً وموضوعياً وذاكراً العديد من آراء المفسّرين ورابطاً بين هذه الآية الكريمة وعدّة من الآيات التي تؤدِّي إلى نفس الغرض وبين الآيات التي يرى خلافها، وهذا وارد من خلال مبدأ الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه والظاهر والتأويل ويمكن الاستفادة من خلال البحث والنظر فيه لي تعليق واحد على ما ذكره السيِّد فضل الله النقطة التي أتعرض لها في هذا الباب هي التالي:
(وهذا ما قد يتنافى مع المشهور بين العلماء من حكم المرتد بإكراهه على العودة إلى الإسلام أو منعه من الانتقال عنه، فلابدّ من دراسة هذه المسألة بالمقارنة مع هذه الروايات، ولكن لم تثبت لنا صحّتها).
التعليق: أنّ هذه الآيات تتحدّث عن ابتداء الدعوة إلى الإسلام لا بعد رسوخ العقيدة في العقل والقلب، كما إنّ هناك فرق بين يقول المسلم إنّي مرتد عن الدِّين وكافر به وبين أن لا يعمل بأحكامه أو لا يرى أنّ الإسلام هو البرنامج الذي يُطبّق حرفياً في الحياة وإنّ الإسلام يجب أن يكون هو الحاكم في الصغيرة والكبيرة لعدّة أسباب يعتقد بها المرء ويقتنع بها مع عقيدة هذا الإنسان بأنّ الله حقّ وأنّ الدِّين حقّ، وأبني قولي هذا على ما ذهب إليه السيِّد أبو القاسم الخوئي في تفسيره - 19 - والسيِّد محمّد حسين الطباطبائي - 20 - من حرّية الفرد المطلقة واختياره للعقيدة التي يراها.
على أنّ فضل الله يستدل في نهاية بحثه على تقارب وجهات نظره، ولا يختلف مع الراحلين العالمين السيِّد أبي الخوئي والسيِّد محمّد حسين الطباطبائي (رحمهما الله) بالتفسير القائل بأهميّة بل وضرورة احترام رأي المكلف وإعطائه حقّ الاختيار في ما يرى من عقائد ومتبنيات فكرية تتأتى عن درس وبحث فيكتب السيِّد فضل الله شارحاً ومستغرقاً في هذه الآية الكريمة قائلاً :
معاني المفردات
(إِكْرَاهَ) الإكراه: الإجبار والحمل على الفعل من غير رضا.
(الرُّشْدُ): خلاف الغيّ، وهو إصابة وجه الأمر ومحجّة الطريق، ويستعمل استعمال الهداية. يقول صاحب تفسير الميزان: إنّ معنى الرشد والهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعنايةٍ خاصة على مصاديق الآخر... وكذلك القول في الغيّ والضلال .
(بِالطَّاغُوتِ): كلّ متعدّ، وكلّ معبود من دون الله، كالأصنام والشياطين وأئمّة الضلال من الناس، وكلّ متبوع لا يرضى الله سبحانه باتباعه. والطاغوت مبالغة في الطغيان والتجاوز عن الحدّ.
(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى): العصمة الوثيقة، وهي استعارة تصريحية تمثيلية، فقد شبّه مَن يسلك سبيل الله بمن أخذ بحبل وثيق مأمون لا ينقطع.
(انفِصَامَ): انقطاع، من الفصم وهو الكسر.
مناسبة النزول
جاء في أسباب النزول للواحدي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ) قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوّدنه، فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا، فأنزل الله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) قال سعيد بن جبير: فمن شاء لحق بهم، ومَن شاء دخل في الإسلام.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يُقال له صبيح، وكان يكرهه على الإسلام. وقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار يكنى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة، أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا وخرجا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله (ص) فقال: اطلبهما، فأنزل الله عزّوجلّ: (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ) فقال رسول الله (ص): أبعدهما الله هما أوّل من كفر.
وقال مسروق: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان، فتنصرا قبل أن يبعث النبيّ (ص)، ثمّ قدما المدينة في نفر من النصارى يحملون الطعام، فأتاهما أبوهما فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبيّ (ص)، فقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله عزّوجلّ: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قد تبيّن الرشد من الغيّ) فخلى سبيلهما.
وعن مجاهد، قال: كان ناس مسترضعين في اليهود، قريظة والنضير، فلما أمر النبيّ (ص) بإجلاء بني النضير، قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبن معهم ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلهم وأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ).
فإذا صحّت هذه الروايات التي اختلفت في مواردها واتفقت في مضمونها، فإنّها تشير إلى أنّ مدلول الآية يوحي بالمنع من إكراه الإنسان الذي انتقل إلى دين آخر، أو كان فيه من خلال البيئة التي عاش فيها، بالرجوع عنه والعودة إلى الإسلام أو الانتقال إليه، انطلاقاً من إرادة الله للإنسان بالالتزام بالإسلام في مرحلة الحدوث أو البقاء من خلال التأكيد على حرّيته في الانتماء الديني.
وهذا ما قد يتنافى مع المشهور بين العلماء من حكم المرتد بإكراهه على العودة إلى الإسلام أو منعه من الانتقال عنه، فلابدّ من دراسة هذه المسألة بالمقارنة مع هذه الروايات، ولكن لم تثبت لنا صحّتها.
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ـ مدلولها ومغزاها
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟ هل تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء الإنسان الحرّية في أن يؤمن أو لا يؤمن، على أساس أنّها قضيته الشخصية التي لا تستتبع أيّة مسؤولية، تماماً كما هي قضية أن يأكل الإنسان أو لا يأكل في ما يباح للإنسان أن يفعله أو يتركه، أو أنّها تعني نفي الإكراه من خلال إعطاء فرصة الاختيار للإنسان على أساس تقديم البراهين على ما في الدِّين من الحقّ، وما في الكفر من الباطل، مع التأكيد على أنّ الاختيار المضاد يستتبع المسؤولية بالعقاب في الآخرة، بالنظر إلى وضوح الرؤية في الحقّ الذي يمثّله الدِّين، وفي الباطل الذي يمثّله الكفر، فلا شبهة ولا ريب، لأنّ كلَّ ما يثار من عناصر الريب والشبهة لا يمثل قيمةً كبيرةً في حساب الفكر والوجدان، لضعف الحجج المضادة، وقوّة الأدلة الموافقة، ولعلّ هذا ما يظهر من ختام الآية.
ثمّ يبرز سؤال آخر: هل الفقرة واردة في مورد الإخبار، أو هي واردة في مورد الإنشاء والتشريع؟
ربّما يبدو للبعض الفرض الأوّل، باعتبار أنّ قضية الدِّين تتعلّق بالقناعة الداخلية الفكرية للناس، وهي من الأُمور التي لا تقع تحت طائلة الإكراه، ويرى هذا البعض في قوله تعالى: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، دليلاً على هذا الفرض، لأنّ معنى هذا ـ في ما يراه ـ هو أنّ هناك ما يدعم حجّة الدِّين من خلال وضوحه في مقابل الكفر، فلا معنى للإكراه على أيّ حال، لأنّ الدعوة إليه تنسجم مع الطبيعة الذاتية لعلاقة الفكر بالقناعة الدينية.
وهناك مَن يرى في هذه الفقرة حكماً شرعياً يدعو النبيّ إلى عدم إكراه الآخرين على الدخول في الدِّين، بل كلّ ما هناك أن يدعوهم إليه بالحجّة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة، فيعرض أمامهم الرشد الواضح في مقابل الغيّ الواضح، ويترك لهم المجال لكي يتحمّلوا مسؤولية مصيرهم في الدُّنيا والآخرة من موقع الإرادة السلبية أو الإيجابية.
ويذكر أصحاب هذا الرأي، أنّ مثل هذه الكلمة قد وردت في أكثر من موقع تشريعي، كما في قوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 187) أو في الحديث الشريف: «لا ضرر ولا ضرار»، وغيرهما، فإنّ مفادها هو نفي تشريع مثل هذه الأُمور، ويرون في آية (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) أساساً لهذه الفكرة، باعتبار أنّ الاعتماد على البلاغ والدعوة من موقع الوضوح في القضية هو الذي يخدم الدِّين أكثر ممّا يخدمه الإكراه، فإذا كان الله قد خلق الإنسان مختاراً في ما يأخذ وفي ما يدع من موقع التكوين، لأنّه يريد للحياة الإنسانية أن تتحرّك في خطّ الاختيار على أساس المسؤولية، فإنّه يريد لرسالاته من خلال رسله أن لا تفرض على الناس من موقع التشريع، وعلى هذا، فتكون الآية واردة في أسلوب الدعوة من جهة، وفي خطّ مهمّة النبيّ الداعية من جهة أُخرى. ففي الخطّ الأوّل، ينطلق الأسلوب في إطار الوضوح الذي هو سِمة الدِّين الحقّ، وفي الخطّ الثاني، يتحرّك النبيّ الداعية في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حرّية الفكر... وفي هذا الخطّ، تلتقي الآية، في ما توحيه ، بقوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الغاشية/ 21ـ 22)، وقوله تعالى: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99).
وربّما كان هذا الاتجاه في تفسير الآية أقرب إلى هذه الأجواء القرآنية من الاتجاه الأوّل، بل ربّما نستطيع أن نؤكّد ذلك على أساس أنّه لا معنى لسوق الآية مساق الإخبار، لأنّ عدم قابلية الدِّين للإكراه من حيث هو فكر، من الأُمور البديهية التي لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح والاهتمام.►